الخميس 2 آب (أغسطس) 2012

ديمقراطية قطف الحصرم

الخميس 2 آب (أغسطس) 2012 par أمجد عرار

«أول ما يشطح ينطح»، مثل شعبي مصري يجري تداوله للتعبير عن إبداء شخص ما لمستوى عال من رد الفعل بلا مقدمات تدرّجية. وفي أواخر تجليات ما بعد الدكتاتورية التونسية بطبعتها التي كانت سائدة في عهد النظام السابق، شهدت جلسة عامة للمجلس الوطني التأسيسي التونسي مشادات «ديمقراطية» ساخنة بين نائبين. وحين ارتفع منسوب الحوار «الديمقراطي» هجم أحد النائبين على زميله بسكين، ولولا تدخّل عدد من النواب لمارس النائب المسلّح أقصى درجات «الحرية»، ولربما انتهى الأمر بمقبرة وثلاثة أيام عزاء، أو بغرفة عناية فائقة.

النائب المسلّح اعتذر بعد العودة إلى الجلسة التي رفعت عشر دقائق ريثما تهدأ النفوس، وقال إنه لم يشهر سكيناً بل قلماً، مع أن عشرات النواب كانوا «شهوداً عياناً» يحيطون به ولم يكونوا مجرّد أصوات قادمة عبر الأقمار الاصطناعية، أو عبر هواتف في غرف مجاورة. وإذا حاولت لجنة تحقيق تقصي الحقائق، ستلجأ لسؤالهم فتقع في «حيص بيص»، ذلك أن لكل نائب موقفه المسبق، وقد تجد اللجنة نفسها أمام روايتين أو ثلاث. في هذه الحالة يمكنها اللجوء للتصوير التلفزيوني أو لمقطع فيديو يجري تداوله في المنتديات والشبكة العنكبوتية. لكن التصوير التلفزيوني ومقاطع الفيديو ليست دليلاً معتمداً في البحث الجنائي، لأن الفبركة والتلاعب بها أمر لا يحتاج سوى إلى هاوٍ في مهنة التصوير ولعبة «الميديا»، ولهذا السبب ترفض أية محكمة الاستناد إليها كأدلة إثبات، بل حتى «الفيفا» ترفض اعتمادها للحسم في إشكاليات كرة القدم، فكيف يمكن الوثوق بها في قضايا مصيرية في زمن غدت الفبركة أسهل من إعداد طبق «شوربة»؟

بطبيعة الحال، هذه هي «الديمقراطية» كما يفهمها شخص أو بعض الأشخاص، وليست من النوع الذي تنشد الشعوب الوصول إليه في ذروة النضوج الموضوعي والذاتي للأفراد كما القوى السياسية المناط بها قيادة التحول، والتي يجب أن تحتكم هي نفسها للديمقراطية قبل أن تقود المجتمع. فعندما يتشرّب الأفراد مبادئ الديمقراطية، وهي ليست مسألة سهلة، يمكن تحويل عملية الدمقرطة من ممكن تاريخي إلى ممكن واقعي. أما ديمقراطية التنظير في الصالونات الثقافية، فهي عبء على الديمقراطية الحقيقية، ذلك بأن مثقفي الصالون أشخاص يعيشون لذواتهم، وليست قضايا الشعوب بالنسبة إليهم سوى مادة للاستعراض الرومانسي والبكائيات القلمية والفضائية، وما إن تقترب منهم أو تعايشهم حتى تكتشف إلى أي مدى هم مجوّفون من الداخل، وأنهم يتسلّقون على المآسي للارتزاق، وإذا تجرأت على الاختلاف معهم، يقذفون في وجهك مصطلحاتهم المعلّبة، ثم يرتقي المنسوب «الديمقراطي» لديهم إلى حد القطيعة، ما دام خيار «السكين» ليس متاحاً.

لغة التمنيات ودغدغة المشاعر تجعلنا نميل لاعتبار «مشهد السكين» في المجلس التونسي حادثة منعزلة عن سياق التحوّل الديمقراطي، لكن لغة الواقع تمنح أي إنسان موضوعي الحق في أن يخشى من حرق المراحل ومن التحوّلات المفروضة قسراً عبر تطويع التاريخ، وفق منطق من يحاولون قطف العنب وهو حصرم. هذه الخشية لها ما يسندها من وقائع تحدّثت عنها الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، التي أكدت أنها رصدت تراجعاً ملحوظاً في وضع الحريات في تونس خلال الأشهر القليلة الماضية، بل إن الرئيس التونسي نفسه حذّر من «الديمقراطية الزائفة»، أي من عودة الاستبداد بثوب جديد ترتديه قوى لم تكن يوماً مؤمنة بالديمقراطية، ومن إمكان اندلاع ثورة جديدة. وإذا كان لهذه المخاوف ما يؤكدها أو يبدّدها، فعليك الانتظار كي «يأتيك بالأنباء من لم تزود».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 76 / 2166017

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2166017 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010