الاثنين 14 حزيران (يونيو) 2010
أول مراجعة للكتاب الذي اثارت مساهمة ساري حنفي فيه سجالاً

تشريح الاحتلال الإسرائيلي : عمل أكاديمي باهر

الاثنين 14 حزيران (يونيو) 2010

الضجة الكبيرة التي أثارها صدور كتاب “سلطة الإقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة”(•) في بيروت، والإتهامات القاسية بالتطبيع مع إسرائيل التي وجهها مثقفون بارزون وأساتذة كبار في الجامعة الأميركية الى ساري حنفي لإقدامه على وضع إسم الجامعة الأميركية في بيروت جنباً الى جنب مع إسم معهد فان لير للدراسات السياسية في القدس؛ والحملة العنيفة بصورة خاصة من جانب طلاب جامعيين ضد حنفي وضد كل من تسّول له نفسه المشاركة في مثل هذا العمل “التطبيعي”؛ كل ذلك شكل دافعاً قوياً للإطلاع عن كثب على الكتاب المذكور، والوقوف على أسباب الحملة الكبيرة ضده والتي كان مسرحها الجامعة الأميركية، التي تعتبر من أهم مراكز البحث الأكاديمي الحر في بيروت والعالم العربي على حد سواء.

من الصعب إيجاد توصيف منصف وعادل للعمل البحثي والجهد الأكاديمي، وبصورة خاصة للنزاهة الفكرية والأخلاقية لكل الذين شاركوا في كتابة الفصول الخمسة عشر للكتاب، سواء كانوا إسرائيليين أم أجانب أم فلسطينيين. ولكن يمكن القول إن الأبحاث التي اشتمل عليها الكتاب هي من أفضل ما كتب عن الطبيعة الإستعمارية والعنصرية للإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والأكثر التزاماً بمعايير البحث الأكاديمي الصارم البعيد عن البروباغندا السياسية الضيقة، وعن الإيديولوجيات المتزمتة. لذا يقدم هذا الكتاب فرصة استثنائية للقارىء للتعرف على حجم الانتهاكات التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية لكل القوانين والأعراف الدولية، وتالياً لحجم التعسف والظلم والتدمير المنهجي الذي يتعرض له المجتمع الفلسطيني شعباً وأرضاً، وذلك من خلال دراسة منهجية وموثقة لواقع الاحتلال، تحاول التعرف عن كثب على أساليب المراقبة والفصل والتحكم والإقصاء وأشكال العنف والعقاب التي طبقها ويطبقها الإحتلال الإسرائيلي في سيطرته المستمرة على المدنيين في الأراضي الفلسطينية في كل من غزة والضفة الغربية.

لقد وظف المشاركون في الكتاب وهم في غالبيتهم ينتمون الى معسكر السلام في إسرائيل ومن الناشطين في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، ثقافتهم الأكاديمية ومعرفتهم الوثيقة بالاحتلال الإسرائيلي، لإظهار كيفية استخدام القوانين من جانب إسرائيل من أجل تأبيد السيطرة على الأراضي الفلسطينية. كما تكشف أبحاث الكتاب كيف تحول المشروع الصهيوني لـ“الوطن القومي” لليهود مشروعا استعمارياً هدفه توظيف واقع الاحتلال في خدمة تحقيق الأرباح للشركات الكبرى، وكيف تقوم سلطة الاحتلال بعملية تدمير منهجي ودؤوب لنسيج الحياة الفلسطينية ولأفقها المكاني، سواء بالقصف وتدمير المنازل، أو بالإستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات أو عبر تقييد حرية التنقل للفلسطينيين من خلال نظام المعابر والحواجز والأسلاك الشائكة وجدران الفصل، وأنواع الأذونات المختلفة المفروضة على الفلسطينيين من جانب سلطات الإحتلال. ويصف الكتاب بكثير من التفصيل والدقة أساليب الإقصاء والعزل التي تمارسها إسرائيل في حق الفلسطينيين.

من أجل فهم افضل للحاضر

جاء في المقدمة التي وقّع عليها إلى جانب ساري حنفي أدي أوفير و ميكائيل غيفوني، أن هدف الكتاب ليس التركيز على وجهات النظر المختلفة من النزاع القائم، ولا تقديم وجهة نظر جديدة له؛ وإنما هدفه تحويل الانتباه من الماضي(تاريخ النزاع و الاستيطان، والكفاح الفلسطيني)، والمستقبل (الحلول الممكنة، وتوجهات العملية السلمية)، نحو الحاضر. وأن غايته هي التركيز على طبيعة الاحتلال والنظام السياسي بصفته نموذجاً واطار تفكير و مجموعة تقنيات سياسية وقانونية وعسكرية يجب دراستها. ولا يدعي الكتاب كشف حقائق غير معروفة من جانب الباحثين أو الناشطين المعارضين للإحتلال، ولكنه يسعى الى سد الثغرات الموجودة في الوقائع والمعطيات على أكثر من صعيد، وتوضيح الآليات التي تستخدمها سلطة الإحتلال في تطبيق سياسة الاقصاء والفصل والتي تجعل من الفلسطينيين خاضعين للقوة الاعتباطية والقوانين القسرية التي تنظم حياتهم اليومية (ص23).

ويمكن توزيع الدراسات مجموعات عدة: المجموعة الأولى تتناول كيفية صناعة ووضع قوانين من جانب إسرائيل تنظم واقع الإحتلال وتشرعنه، وتبين في آن واحد مدى وحجم عدم التزام هذه القوانين بالمعايير الدولية التي وضعت لتنظيم سيطرة قوة احتلال على شعوب أخرى. وقد شكل هذا موضوع محور اهتمام دراسة أونا بن نفتالي وأيال.م. غروس و كارين ميكائيلي بعنوان: “لا شرعية نظام الاحتلال: صناعة القانون في المناطق الفلسطينية المحتلة”. وتهدف الدراسة الى اظهار خرق إسرائيل مبادىء أنظمة الاحتلال عامة وفق ما جاءت به القوانين الدولية التي نظمت كيفية تطبيق القوانين على البلاد الخاضعة للإحتلال. وتبين بأن استمرار السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة منذ عام 1967 أمر لا شرعي ولا قانوني وفقاً للقوانين والبروتوكلات الدولية.

تتناول الدراسة الثانية التي عنوانها:“حكم القوة” وكتبها كل من أريالا أزولاي وأداي أوفير، الأشكال الجديدة للعنف الذي تستخدمه القوات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة، وكيفية توظيفها في وضع قوانين اعتباطية تشرعن العنف وتعطيه صفة قانونية. ويميز الكاتبان بين نوعين من العنف الإسرائيلي: المكبوح (withheld)، والمنفجر (eruptive)، والنوع الأول هو العنف المحتمل (potential) المعلق، غايته ردعية وكابحة واستخدمته إسرائيل بصورة ناجعة خلال السنوات العشرين الأولى لإحتلالها الضفة وغزة. أما أداة هذا العنف فهي عادة أجهزة سرية من العملاء والمخبرين الذين يعملون بغطاء من الأجهزة العسكرية. ويعطي الكاتبان مثالاً على ذلك تشكيل فرقة سرية بعد الانتفاضة الأولى عام 1980 عُرفت بإسم “المستعربين” ومهمتها تخويف زعماء الانتفاضة والضغط عليهم. وقد حدث هذا مجدداً أثناء انتفاضة الأقصى وبصورة أكثر كثافة.

ويرسم الكاتبان خريطة العنف في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فيشيران الى انه حتى ما قبل نشوب الانتفاضة الأولى استطاعت إسرائيل السيطرة على الفلسطينيين باستخدام أساليب العنف المكبوت، والذي كان يومها كافياً لتدمير الحياة السياسية للفلسطينيين واعاقتها، ولو أن هذا لم يمنع من انفجار العنف من النوع الثاني من حين الى آخر. ويبدو الفارق بين العنف المكبوت وبين العنف المتفجر لدى المقارنة بين أعداد القتلى من الفلسطينيين. فخلال العشرين عاماً الأولى للإحتلال الإسرائيلي قُتل 650 فلسطينياً في اشتباكات مع الجنود والمستوطنين. ولكن خلال الانتفاضة الأولى ارتفع هذا العدد بصورة كبيرة، وقتل أثناء اعوامها الأولى ما يقارب 1400 فلسطيني وجُرح 10 آلاف آخرين. وفي رأي الكاتبين بقي العنف الإسرائيلي المستخدم ضد الفلسطينين في هذه المرحلة ملجوماً بالمقارنة مع الاتفاع الكبير في عدد الاصابات بين الفلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية، حيث كان يقتل 660 فلسطينياً سنوياً ويُجرح نحو 4300 آخرين. ويضيف الكاتبان أن العنف الإسرائيلي بعد الإنتفاضة الثانية بات منفجراً بالكامل نظراً الى الإنتشار الواسع لقوات الجيش الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية وللصعود الكبير في العمليات العسكرية وفي أعمال الاعتقال.

وعلى الرغم من الصعوبة الكبيرة في تلخيص النتائج التي توصلت اليها أي دراسة واردة في هذا الكتاب لأنها ستبدو مبتورة وناقصة، ولكن ما يمكننا قوله إن الدراسة المذكورة أعلاه هي تشريح في العمق لسياسات العنف المستخدمة من جانب الاحتلال طوال السيطرة الإسرائيلية على غزة والضفة. أما الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد من قطاع غزة صيف 2005 فيصفه الكاتبان بالتخلي عن الفلسطينيين في قطاع غزة وتركهم في مواجهة الكارثة وذلك بصفته الوحيد البديل من شن الحرب الشاملة ضدهم.

المقاربة البصرية للإحتلال : “جغرافيا الخراب”

احتوى الكتاب على دراستين تناولتا بالتحليل والدرس مقاربة الإحتلال للحيز المكاني للأراضي الفلسطينية، وكيفية تعامل سلطات الاحتلال مع المكان بصفته حيزاً للتدمير والتقييد والفصل. في دراسة أريالا أزولاي الأستاذة في الثقافة البصرية والفلسفة المعاصرة في جامعة بار إيلان التي بعنوان :“الوضع الإنساني -المكاني: مقاربة بصرية للإحتلال”، تتناول السياسة التي طبقها الاحتلال في الضفة وغزة والقائمة على السماح بالبناء للمستوطنين اليهود وتدمير منازل الفلسطينيين. وتذكر أنه منذ عام 1967 حتى اليوم دمر الجيش الإسرائيلي حوالى 18 ألف منزل في الضفة وغزة، ولا يشمل هذا الرقم الأضرار التي لحقت بمنازل الفلسطينيين جراء العمليات العسكرية. وتعرض الكاتبة خمسة نماذج للتدمير، كما تتحدث عن “هندسة التدمير” أو البنية التدميرية“والذرائع المستخدمة لهذا الغرض مثل: بناء غير شرعي، أبنية تأوي إرهابيين، وتدمير لتلبية حاجات عسكرية. ثم تستعرض الكاتبة”هندسة الفصل“أو ما تسميه”نماذج من الحصار“، توضح فيها كيف يعمل الإحتلال على تغيير وجه المكان وقطع أي تواصل بين أجزائه عبر استخدام نظام الحواجز العسكرية والأسلاك الشائكة والعوائق البلاستيكية و جدران الفصل. وكيف يُمنع الفلسطينيون من الوصول الى منازلهم سواء لأن هذه المنازل أصبحت مواقع عسكرية أو لأنها باتت محاصرة. وتُظهر”هندسة الفصل“الكيفية التي يجري بواسطتها الفصل المكاني بين اليهود والعرب، مع كل التمييز والتفرقة بين الاثنين على مستوى حرية التنقل. وتتحدث الكاتبة عن”هندسة الخوف"، حيث تركز على اللغة المستخدمة على الحواجز من قبل سلطات الإحتلال و كيفية السيطرة على حركة تنقل الفلسطينيين، وتكنولوجيا المراقبة والرصد والتتبع.

وتضمنت الدراسة وصفاً دقيقاً للكيفية التي ينفذ بها الجيش الاسرائيلي مهمات التدمير الموكلة اليه، من التفجير الذي تقوم به فرق الهندسة في الجيش بعد معاينة اساسات البناء، الى استخدام البولدوزر حيث يتحول البناء خلال يوم واحد كومة ركام، الى اقدام الجيش على فتح ثغرات بين الأبنية في أزقة المخيم الضيقة تسمح للجنود الإسرائيليين بملاحقة المقاتلين والانتقال عبرها. وتتوقف الكاتبة عند البولدوزر دي-9 الذي قام خلال 2004 بتدمير 183 منزلاً في رفح، مسبباً الأضرار لعشرات المنزل الأخرى مدمراً الطرق والأسلاك الكهربائية، كل ذلك يجري تصويره بواسطة كاميرا مثبتة خارج البلدوزر.

في دراسة أريال هندل التي بعنوان:“الى متى والى أين في الأراضي المحتلة: مقدمة في جغرافيا الخراب”، يصف الكاتب عملية تفتيت الحيز المكاني للفلسطينيين في مقابل ازدهار ونمو الحيز الإسرائيلي. ويبين كيف عملت سلطات الاحتلال على مواجهة التفوق الديموغرافي للفلسطينيين بتأطيرهم مكانياً، والسيطرة على حركتهم عبر القوانين والأحكام العسكرية أو عبر المستوطنين. وتظهر الدراسة كيف يكون بامكان سيارة عسكرية أو نقطة مراقبة صغيرة السيطرة على مساحة كبيرة من الأرض.

ويستعرض الكاتب الدور الذي تقوم به المستوطنات في تأطير الفلسطينيين وتقييد حركة تنقلاتهم، عبر دراسة مواقعها الطوبوغرافية بالنسبة للتجمعات السكنية الفلسطينية والتي تسمح للمستوطنين التحكم بحياة الفلسطينيين عبر منع النمو العمراني للمدن الفلسطينية، والسماح لهذه المستوطنات التوسع على حساب البلدات الفلسطينية. كما يتحدث الكاتب عن أهمية الطرق الكبيرة التي شُقت لربط عدد قليل من المستوطنين ببعضهم البعض على حساب آلاف الكيلومترات التي جرت مصادرتها من الفلسطينيين، ناهيك بعملية تقطيع الأوصال بين المدن الفلسطينية التي تمر بها هذه الطرق، كما ان بعض هذه الطرق قد أوجد خصيصاً لمنع التطور والتوسع العمراني الفلسطيني. ويمكن أن نضيف الى ذلك أن نصف طرق الضفة يُمنع الفلسطينيون من استخدامها منذ نشوب الانتفاضة الثانية. وثمة انواع كثيرة من المنع، فهناك طرق ممنوعة بتاتاً على الفلسطينين، وأخرى ممنوعة جزئياً، وثالثة ثمة قوانين تنظم مرور الفلسطينيين عليها بحيث يضطر الفلسطيني الى ترك سيارته واجتياز مسافة معينة سيراً على الأقدام، ثم يستقل سيارة أخرى تنقله الى هدفه. بدءاً من عام 1996 أصبحت جميع المستوطنات في المناطق المحتلة اراضيَ عسكرية مغلقة، يحظر على الفلسطينيين الدخول اليها باستثناء عمال البناء. ويذكر الكاتب أن عدد المستوطنات في عام 2008 كان 122 مستوطنة يسكنها 267000 مستوطن، وفيها 100 موقع مراقبة.

أنطمة الفصل العنصري

يخصص كل من نيف غوردون الأستاذ في جامعة بن غوريون و مدير جمعية الفيزيائيين الإسرائيليين للدفاع عن حقوق الانسان دراسته التي بعنوان: “من الاستعمار الى الفصل: استكشاف بنية الاحتلال الإسرائيلي” لتحليل الخطط الإسرائيلية التي وضعت للسيطرة على الفلسطينيين بدءاً من حرب 1948 وبعد حرب 1967. ويتحدث عن المفهوم الذي وضعه موشيه دايان عن“الاحتلال غير المنظور” ويروي كيف طلب دايان من أحد الجنود إنزال العلم الإسرائيلي الذي رفع فوق قبة المسجد الأقصى بعد ساعات معدودة من احتلال القدس الشرقية لأنه رأى في الخطوة “استفزازاً لا لزوم له”. فقد أراد دايان تطبيع وضع الاحتلال في المناطق الفلسطينية. وضمن هذا التوجه قامت إسرائيل في الأعوام الأولى للإحتلال بمساعدة أهالي غزة في زرع مئات الأشجار وفي زراعة أنواع مختلفة من الخضروات، وكيف تغير هذا كله بعد انتفاضة الأقصى فقامت إسرائيل خلال اعوامها الثلاثة بتدمير نحو 10 في المئة من الأراضي الزراعية في غزة.

يقول الكاتب إن كل المعطيات تشير الى أن الاحتلال في النصف الثاني من الستينات وفي السبعينات كان مختلفاً تماماً عما صار عليه في الثمانينات والتسعينات. وأن إسرائيل غيرت من نظام احتلالها فقد كان في البداية قريباً من المفهوم الاستعماري“Colonization Principle” أي أن المستعمِر يسعى الى المحافظة على حياة المستعَمر ويستغل خيراته، ويعمل على تأمين مستوى من الاستقرار والرفاه للفلسطينيين الخاضعين للإحتلال. ويشرح الكاتب بدقة السياسة التي طبقتها إسرائيل خلال الفترة التي سبقت الإنتفاضة الأولى، لينتقل بعدها الى شرح سياسة الفصل التي بدأت إسرائيل بتطبيقها مع نشوب الانتفاضة الأولى في الثمانينات، حيث بدأ ينشأ مفهومان أساسيان في التعامل مع الفلسطينيين: “الحدود” والغيتوات". ويقارن الكاتب بين أساليب العنف التي استخدمها الجيش الإسرائيلي في لبنان في الثمانينات وتلك التي أخذ يستخدمها في الضفة وغزة.

يقول الكاتب: “مبدأ الفصل يختلف اختلافاً كلياً عن المنطق الذي يتحكم بمبدأ الاستعمار الذي ساد خلال العقد الأول من الإحتلال. فخلال تلك الفترة حاولت إسرائيل تقليص البطالة وسط الفلسطينيين سعياً للسيطرة على الناس، في حين رأيناها في مطلع الألفية الثانية تقوم عن قصد بمفاقمة البطالة الفلسطينية في المناطق.”(ص 260).

تحت نظام الفصل الذي تنتهجه إسرائيل منذ الانتفاضة الأولى لم تعد إسرائيل تتصرف كمتسعمِرة وإنما كدولة تخلت عن كل مسؤولية تجاه الفلسطينيين، و بدأت تأخذ مساراً تدميرياً لكل البنى التي اقامتها خلال السنوات العشرين الأولى من إحتلالها للضفة وغزة والتي ربطت من خلالها السكان بإسرائيل اقتصادياً وحياتياً ومعيشياً.

تشكل دراسة هيلا دايان التي بعنوان:“أنظمة الفصل بين إسرائيل وفلسطين: شبح التمييز العنصري” الى حد ما تتمة للدراسة السابقة. فهي تتناول بصورة خاصة أنظمة الفصل العنصري التي طبقتها إسرائيل في محاولتها السيطرة على المدنيين الفلسطينيين وتقارنها بالأنظمة المستخدمة من قبل نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.

الأسس الإستعمارية للإحتلال الإسرائيلي

يمكن وضع المجموعة الثالثة من دراسات الكتاب ضمن هذا العنوان العام. وقد توزعت الأبحاث على مجالات عدة فتناولت كل من ليلى فركش الأستاذة في جامعة مساتشوستس في بوسطن الاقتصاد الإسرائيلي تحت الإحتلال مركزة على الانهيار الاقتصادي في الضفة وغزة، مشيرة الى ان المساعدات الخارجية وحدها هي التي تحول اليوم دون الانهيار الكامل. أما كارولين أبو سعده خريجة معهد العلوم السياسية في باريس فتناولت موضوع تبعية الزراعة الفلسطينية للإحتلال، والوسائل التي استخدمها الإحتلال لخلق حالة من التخلف والتبعية في قطاع الزراعة في المناطق الفلسطينية.

في هذا الاطار أيضاً تناول نيف غوردون وداني فيلك صعود “حماس” ودمار المجتمع الفلسطيني مركزين بصورة خاصة على الدور الذي لعبته وسائل الرقابة والقمع الإسرائيلية في صعود حركة “حماس”.

أما ساري حنفي فتناول في دراسة له بعنوان“المخيمات في الأراضي الفلسطينية: فضاء للإستثناء ومركز للمقاومة” كيف تعاملت سلطات الاحتلال طوال 60 عاماً مع مخيمات اللاجئين بصفتها مختبرات للرقابة وللسيطرة والتحكم. ويتحدث عن نوعين من التعامل مع المخيمات الفلسطينية، الأول يتعامل مع المخيم كفضاء مفتوح ويقول هذه هي الحال في المخيمات الموجودة في سوريا وفي الأردن حيث يتمتع سكان المخيم بالحقوق المدنية وحيث لا سياسة عزل تمارسها السلطات هناك، وذلك بعكس النوع الثاني من التعامل مع المخيمات الموجودة في لبنان وضمن أراضي السلطة الفلسطينية حيث المخيم فضاء مغلق. هناك أكثر من ملاحظة على ما ورد في دراسة حنفي عن المخيمات في لبنان والسلطة الفلسطينية ولكن لا يتسع المجال الآن لها.

من بين الدراسات اللافتة جداً في هذه المجموعة دراستان الأولى لغادي الغازي الأستاذ المشارك في قسم التاريخ في جامعة تل أبيب ومن مؤسسي حركة “تعايش” الإسرائيلية الفلسطينية. والاخرى لأيال وايزمن عن أسلوب الإغتيالات الجوية.

تحت عنوان“ماتريكس في بلعين” يروي ألغازي كيف قامت أهم شركة للصناعة الإلكترونية ببناء مصانعها في المناطق المحتلة بالقرب من بلدة بلعين الفلسطينية في محاولة واضحة للبحث عن اليد العاملة الرخيصة بين سكان المستوطنات، على غرار ما تقوم به الشركات العملاقة للإلكترونيات في بناء مصانعها في مناطق يد عاملة رخيصة مثل الهند والصين وغيرها.

يقول الكاتب إن التغييرات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي في التسعينات أعادت رسم الحقائق في المناطق المحتلة. فلقد تزامن مشروع الخصصة في الاقتصاد الإسرائيلي مع تسارع المشروع الاستعماري في المناطق المحتلة، بحيث بات المستوطنون من اليهود المتدينين الذين يرغبون بالعيش في مستوطنات الضفة رغبة منهم في تحسين مستوى حياتهم عبر الحصول على المساعدات الحكومية المخصصة للمستوطنين. كما بدأت فئة من الاسرائيليين من أصحاب الدخل المحدود تفكر في العيش في المستوطنات لأسباب اقتصادية محضة ولا علاقة لها بإيدولوجيا الاستيطان.

ومن أهم النماذج على ذلك صعود مستوطنة موديعين عيليت التي تأسست عام 1996 في ظل اتفاق أوسلو وعلى بعد ثلاثة اميال من الخط الأخضر. فسرعان ما جذبت هذه المستوطنة المستثمرين والمقاولين، ولتتحول الى أكبر مستوطنات الضفة حيث بلغ عدد سكانها 35 ألف نسمة.

جمعت موديعين عيليت النموذج القديم من المقاولين والمستثمرين الى جانب المجموعات الجديدة لشركات التكنولوجيا المتطورة التي طبقت فيها مفهوم Off shoring home. فأقدم عدد من شركات الكومبيوتر الإسرائيلية الكبرى مثل “ماتريكس” و“سيتي بوك” و“ايماج ستور”، على بناء معامل ومصانع تستخدم بصورة خاصة عاملات من النساء المتدينات من سكان المستوطنة بأسعار رخيصة للغاية. ففي عام 2004 كان هناك أكثر من 400 امرأة تعمل في “ماتريكس”، وتخضعن لنظام عمل صارم يساهم الحاخامون في تطبيقه، فتمنع النساء من الكلام خلال نوبات عملهن ولا يسمح لهن الا بفرصة قصيرة للأكل وارضاع اطفالهن. يشكل عمل هؤلاء النسوة الدخل الاساسي الذي تناله الأسرة نظراً الى ان الرجال المتدينين لا يعملون ويتفرغون للدراسة الدينية. تتقاضى المرأة العاملة في العام الأول لعملها 435 دولاراً في الشهر، ترتفع الى 725 في العام لتصل الى 1045.

يشكل العمل في مصانع “ماتريكس” النموذج الأبرز لتضافر الرأسمالية مع العولمة مع الدين. فلا خيار آخر أمام النسوة المتدينات العاملات في هذه المصانع غير القبول بشروط العمل المفروضة عليهن. ويعمل اليوم في شركة “ماتريكس” 2300 موظف، ويبلغ رأسمالها 100 مليون شيكل. وهي النموذج الناجح لـ “Off shoring home”. ونجاح هذه المشاريع أدى الى ارتفاع الاسعار في الشقق والعقارات. يرى الكاتب أن العمال الفلسطينيين في المناطق المحتلة هم أكبر ضحايا الاستعمار الرأسمالي، وهم الذين يدفعون الثمن الباهظ. فالرأسالمية هي التي تدفع العامل الفلسطيني الى العمل في بناء المستوطنات وجدار الفصل.

تكنولوجيا القتل

المجموعة الأخيرة من دراسات الكتاب تتناول دور التكنولوجيا في سياسة الاغتيالات والقتل التي يمارسها الجيش في الضفة وغزة، لا سيما الاغتيالات الجوية.

ففي مقال لأيال وايزمن بعنوان: “Thanato-Tactics” يدرس الكاتب أساليب الاغتيالات الجوية التي بدأت سلطات الاحتلال بتطبيقها. ويتابع مختلف مراحل عمليات الاغتيال هذه، بدءاً من قيام جهاز الأمن العام بوضع أسماء المرشحين للقتل، وموافقة لجنة حكومية خاصة عليها (تأخذ مناقشة الأسماء قبل الموافقة عليها 15 دقيقة لا غير)، الى مراقبة المرشحين من جانب أكثر من عميل وشبكة من دون معرفة أي طرف بالآخر، وصولاً الى قيام سلاح الجو بعملية التصفية. يقول الكاتب إن هناك غرفة في تل أبيب مربوطة بالطائرة التي تنفذ العملية وهي تصدر الأوامر باطلاق الصواريخ من وراء شاشة كومبيوتر مما يشبه كثيراً الألعاب الألكترونية.

من بين الاغتيالات الجوية الاولى اغتيال الأمين العام لـ“حزب الله” عباس الموسوي عام 1992، وأول اغتيال من الجو في الأراضي المحتلة كان عام 2000 للمسؤول في “فتح” محمود عبيات، الذي تسبب بوقوع ضحايا مدنيين صادف وجودهم في مكان الحادثة.

يقول الكاتب إن غزة تحولت خلال الأعوام الأخيرة مختبراً لعمليات الاغتيال من الجو، وأن الأميركيين يستفيدون كثيراً من الخبرة الإسرائيلية في هذا المجال. وتناولت الدراسة جوانب كثيرة للمسألة من تطوير رؤوس صواريخ دقيقة الاصابة ومحدودة الخسائر البشرية، الى دراسة الدور السياسي للإغتيالات الجوية وانتهاء بالمشكلة الأخلاقية التي يفرضها وقوع عدد من الاصابات بين المدنيين أثناء هذا النوع من الاغتيالات نظراً الى وجودهم في المكان الخطأ.

يتوقف الكاتب أمام تصاعد عدد الاغتيالات من الجو بعد الانتفاضة الثانية، ويستعرض الانتقادات الكثيرة التي وجهت الى هذه العمليات حتى من جانب طيارين إسرائيليين أخذوا يرفضون تنفيذها نظراً الى الثمن الباهظ الذي كان يدفعه الأبرياء. مما اضطر سلاح الجو الى ادخال عدد من التغييرات للحد من الاصابات بين المدنيين، مثل استخدام صاروخ “سبايك” الصغير والمجهز بكاميرا صغيرة والقادر على تصويب اتجاه الصاروخ وتصوير الزاويا المثلى، واستخدام صواريخ مع مواد ناسفة شديدة التركيز “Focused lethality Munitions”، في محاولة لتطبيق “ايديولوجيا أقل شراً”. يشدد الكاتب في هذا الفصل على السادية المطلقة التي يتعامل بها الجيش الإسرائيلي مع الاصابات التي تلحق بالمدنيين جراء الاغتيالات الجوية، هذا الجيش الذي يحاول الدفاع عن سياسة القتل وفق ما قاله رئيس الأركان السابق داني حالوتس “إنها الطريقة الوحيدة لوضع النزاع على نار خفيفة والسماح للمجتمع الإسرائيلي العيش برخاء”.

الاحتلال وضياع البوصلة : الحدود المستحيلة

هذا هو عنوان الدراسة الأخيرة في الكتاب التي كتبها رونين شامير أستاذ القانون والانتروبولجيا والخبير في الاجتماع السياسي والاجتماع القانوني. وينطلق في تحليله لمبدأ الفصل والحدود لدى سلطات الاحتلال من نظرية ميشيال فوكو في الفصل بين مرضى الطاعون و المصابين بالجذام وتطبيقاته على أنظمة الفصل بين اليهود الإسرائيليين والعرب. ويتحدث عن دور المستوطنات كمراقب وحرس للسجن الكبير الذي تحولت اليه المناطق المحتلة، وعن دورها في التجسس والتحقيق والملاحقة والتبليغ عن كل أمر مشبوه. يقول الكاتب أنه في غياب حدود دائمة ومعترف بها يتحول المكان الخاضع للرقابة ، فوضى عارمة.

الصور كوسيلة لتشريح نظام الاحتلال

اشتمل الكتاب بالاضافة الى العدد الكبير من الوثائق على كرونولوجيا توثيقية لأحداث الإحتلال اعتباراً من 1967 وحتى عام 2007؛ على ملفات صور التقطتها أريالا أولاي ووزعتها على عناوين مختلفة مثل “هندسة التدمير” وهندسة الخوف" و أخرى عن المعابر والعوائق والأسلاك الشائكة ومختلف أنواع أجهزة الفصل، محاولة في كل ملف استخراج نوع من الرسم البياني الذي يوضح أنواع و أصناف التدمير المستخدمة من قبل الإحتلال ودلالتها السياسية والمكانية والانسانية. وتشكل هذه الصورة وحدها أفضل طريقة لإدانة ممارسات اسرائيل، وهي أفضل دليل بصري على حجم الدمار اللاحق بنسيج الحياة الفلسطينية.

لا يستطيع القارىء لدى انتهائه من قراءة هذا الكتاب أن يقاوم احساسه بالغضب والحزن في آن واحد. الغضب بعد أن يلمس بالأرقام والصور والمعطيات الملموسة والموثقة حجم الدمار والتفتيت والسحق الذي مارسته سلطات الإحتلال بحق الفلسطينيين في الضفة وغزة طوال سنوات الاحتلال؛ أما الحزن فمرده أن مثل هذا العمل الأكاديمي الباهر هو من نتاج كتاب إسرائيليين آمنوا بالحق الفلسطيني ورفضوا القبول بمقولات الإحتلال. بعد قراءة الكتاب تبدو حملة المثقفين في بيروت ضد التطبيع التي أثيرت حول الكتاب مدعاة استغراب. إذ كيف يعقل ألا يقرأ معارضو التطبيع الثقافي الكتاب قبل مهاجمته؟

• The power of inclusive exclusion- Anatomy of Israel Rule in the occupied Palestinian Territories – edited by Adi Ophir Michal Givoni, and Sari Hanafi – Zone Books New York – 2009.

- المصدر : رندى حيدر randa.haidar@annahar.com.lb
- صحيفة «النهار» اللبنانية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 55 / 2182207

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع صحف وإعلام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

26 من الزوار الآن

2182207 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 25


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40