الجمعة 18 حزيران (يونيو) 2010
كتاب جديد للمفكر الفرنسي ريجيس دوبريه

إلى صديق «إسرائيلي»

مرافعة دفاع فرنسية عن القضية الفلسطينية
الجمعة 18 حزيران (يونيو) 2010

تأليف : ريجيس دوبريه - ترجمة وعرض : بشير البكر

في غمرة العدوان “الإسرائيلي” على أسطول الحرية صدر كتاب المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه المعنون “إلى صديق إسرائيلي” عن دار فلاماريون الباريسية، وهو كناية عن مرافعة في الدفاع عن القضية الفلسطينة في وقت لم تعد فيه فرنسا تتوافر- باستثناء إدغار موران وقلة معدودة - على مثقفين قادرين على ادراك كنه التراجيديا التي تعرفها المنطقة، ولإدراك ذلك قبل كل شيء يتطلب أن يمتلك المرء ثقافة تاريخية عميقة ورفضاً للكليشيهات ونزاهة ثقافية . ودوبريه واحد من المثقفين القلائل الذين يجمعون هذه الخصال، وهو ما يجعل كتابه هذا بألف كتاب .

كأن ريجيس دوبريه كان عليه أن يكتب كتابا عن القضية الفلسطينية وعن الصراع العربي “الإسرائيلي”، ولكنه تأخر . . . لكأن كل الكتب عن القضية الفلسطينية من زاوية محايدة، كي لا نقول متضامنة، عملية مستحيلة أو محفوفة بالمخاطر، وهو ما عرفه ريجيس دوبريه منذ أن أصدر كتيّبه الصغير هذا . . . وتجنباً أو استباقاً للأمر، قرر الناشر أن يضع معه رداً من كاتب صهيوني هو إيلي برنافي، الذي كان سفيراً سابقاً للكيان في فرنسا، ويكتب أسبوعياً في مجلة ماريان الفرنسية .

طريقة إخراج الكتاب، أي عن طريق رسالة إلى صديق، تجعل الكتاب أقل حدة وأقل انتقاداً، والكتاب مكتوب وموجه إلى الصديق، الدبلوماسي والمؤرخ الصهيوني إيلي برنافي .

مرافعة دفاع فرنسية عن القضية الفلسطينية

يفسر ريجيس دوبريه في البداية، (الفصل الأول معنون: لنتحدث بشجاعة) سبب اختيار توجيه الكتاب/ الرسالة إلى “إسرائيلي” بدل توجيهها إلى فرنسي . “يحدث ببساطة أن يجد المرء نفسه طليق اليد مع يهودي من “إسرائيل”، مع رنة كلام منعش، أكثر مما يجده مع مواطنه، من هنا، الذي يكون أحياناً أكثر “إسرائيلية” من “إسرائيل” نفسها . .” .

ويوجه حديثه إلى برنافي: “أنت لاذع في نقدك لمواطنيك، وسأكون كذلك مع مواطني . . .” .

ويستعرض انتقادات اليهود الفرنسيين له، وكأن لسان حالهم يقول: “إذا كان هذا الرجل ينتقدنا فهو لا يحب شعبنا” .

ويبحث ريجيس دوبريه في ماضي عائلته، وكأنه يريد أن يمنح لمخاطبه ضمانة ما، فيكتشف أن له جداً يهودياً بعيداً (النقطة الجيدة الوحيدة التي أتقاسمها مع لينين)، أرماند أليكساندر، نائب عمدة باريس التاسعة ما بين الحربين، والذي توفي قبل ولادتي .

ويستعرض دوبريه كل فضله وحسناته مع “إسرائيل”: “قمت شخصياً، وبنفسي، مع سيرج وبيت كلارسفيلد بإعادة قاتل أطفال إيزيو، كلاوس باربي الذي كان مختبئاً في بوليفيا . كما أني تعرضت لاحتقار علني في القاهرة أو في بيروت وأنا أذكّر جمهوراً ملتهباً بحقيقة المحرقة، وبأن كل ناج منها يظل مطبوعاً بحديد أحمر طول حياته” .

ويضيف: “ستقول لي لماذا لا أتوجه في رسالة إلى صديق فلسطيني؟ إنما أنا، بطبيعة الحال، لا أرى عن طيبة خاطر شعب إدوارد سعيد ومحمود درويش يُقْبِل على ثقافة الموت، والنظام الأخلاقي يسقط على غزة مثل قبّة رصاصية، ولا الفساد ولا عدم كفاءة سلطة فلسطينية من دون سلطة . لكننا لا نوبّخ مهزوماً حين يكون ملقى على الأرض . لا يجب أن نتوجه إلا للأقوياء، للمنتصرين، للذين ينتمون لنفس معسكره، والذين يمتلكون صورة جيدة والذين تسيّر الرياح أشرعتهم . وسواء رضيت أم لا فأنت واحد من هؤلاء المحظوظين، وأنا أيضاً” .

ويبرر ريجيس دوبريه السبب الرئيس من هذا الكتاب، ومن هذه الرسالة، فيكتب: “ما كنت لأكاتبك لو لم أر وطنك، أُمّتك الأسطورية، الطاقة والثقافة متداخلين، حيث كُلّ مارّ هو رواية، ونقطة التقاء لكل ذاكرات العالَم، تَغْرَق في ماضٍ قصيّ، ومنه يطل في الحاضر مدفع دبابة ميركافا” .

ويضيف: “أنا مسيحي، ثقافة، أتذكر أن “الخلاص يأتي من اليهود”، (يوحنا ،4 24) ابن الأنوار، أعرف أن تقدّم العقل مدينٌ لشعب المنفى . إني أتجمد من احتمال أن يرى أحفادي سبعة ملايين يهودي في “إسرائيل” ينطوون على أنفسهم بعض الأيام . . .” .

ويبدأ دوبريه في الدفاع عن “إسرائيل”، وكأن عدو “إسرائيل” هو “إسرائيل” نفسها: ““الحضارة الغربية وجماعة الناتو هما سكن “إسرائيل””، كما قالت، البارحة، تسيفي ليفني، وزيرتكم للخارجية، وهي تضع عملية “الرصاص المصبوب” تحت رعاية “العالم الحر” و”قيمه المقدسة” . المعادلة مهجورة وغطت كثيراً من الظلم، لكن ما دام الأمر يتعلق بالغرب الذي يقول مسؤولوكم إنهم يدافعون عنه، فأنت تتفق معي على أن إنساناً غربياً يستطيع أن يمتلك كلمة يقولها حول الطريقة التي يتحمل فيها هؤلاء المسؤولون قِيَمَنَا في الشرق” .

وكتب موجها كلامه إلى صديقه “الإسرائيلي”: “أنت تكتب: “إن بقاء الدولة العبرية هو، من الآن فصاعداً، موضوع تساؤل” . ولكن موضوعات القلق، بالنسبة لك ولأصدقائك، كثيرةٌ، ومنها ضيق الأراضي، وانقلاب الرأي العام الدولي، والحاجة إلى كبش الفداء، وصعود الأحقاد المعادية للسامية والعزلة الدبلوماسية . . إلخ . مصدر آخر للقلق ممكن . الاحتفاظ به للذات يمكن أن يكون مريحاً . فهل الاضطرار إلى كتابته سواداً على بياض سيفتّح مائة زهرة في حديقتنا؟ أشك في الأمر، ولكن بسبب كثرة المشي على البيْض سينتهي بنا الأمر إلى ألا نضع رِجْلاً أمام الأخرى، وإذاً فلِم لا نضعهما معاً في الطبق؟” .

يحرص المفكر ريجيس دوبريه على أن يكون صدامياً، ولذا يتحدث بحدة في الفصل الثاني بعنوان: “الصهيونية”، إلى برنافي، الذي وصف نفسه ذات يوم بأنه “صهيوني مؤيد للفلسطينيين” . أي: من أنصار دولتين متجاورتين .

وبالفعل يثير هذا الوصف “صهيوني مؤيد للفلسطينيين” ريجيس دوبريه . وينطلق في مقابلته بوصف آخر: “مؤيد للفلسطينيين” . ويكتب: ““مؤيد للفلسطينيين”؟ بالتأكيد، لكن أي فلسطين؟ ديمقراطية أو ثيوقراطية؟ عائلية، أم إقطاعية أم مافيوزية أم بربرية مع نسائها أم متعددة الطوائف، متفتحة أم مفتوحة على الخارج (“يهود العالم العربي”)؟ مؤيد للصهيونية؟ لكن أية صهيونية؟ الشيوعي، أم الديني أم العمالي، أم المحافظ الجديد أم الفاشي؟ يوجد خمسة أو ستة على الأقل، وهذا منذ البداية . إن أبطالنا في الإعلانات صهاينة يعادون الصهيونية، ويجب عليهم أن يحددوا لنا أي نوع من عُشّاق صهيون يريدون أن يقصموه أو يدافعوا عنه” .

ويستعرض ريجيس دوبريه تاريخية علاقته بالصراع العربي “الإسرائيلي”: “الحقب يغطي بعضها بعضاً، والأمكنة ينزلق بعضها على بعضها الآخر، ولسنا صغاراً حين نمتطي أحلاماً كبرى، ولكن دافيد اليهودي سنة 1947 الذي وَاجَه سبعة جيوش عربية (في الحقيقة، 65 ألف جندي من جهته ضد 40 ألف من الجهة الأخرى)، لم يكن القوة النووية الوحيدة في المنطقة، سيدة البحر والسماء والاتصالات، التي تعتدي باستمرار خوفاً من أن يُعتَدى عليها” .

ويبدأ ريجيس في التأسف على ماض “إسرائيلي” كان واعداً في نظره، أي حسب تعليمات المؤسسين الأوائل، ويعطي أمثلة منه: حزب العمل والكيبوتز وغيرها . . . “حزب العمل تبخر . جنرالاتكم يسيرون حكومات . . . ها أنتم أصبحتم “طبيعيين” أي متعددي الطوائف على الطريقة الأمريكية . . . الكيبوتز بالكاد لايزال حيّاً . .” .

العودة إلى الصف

يحاول دوبريه أن يبرر قليلاً من جرائم تأسيس دولة “إسرائيل”، فيكتب: “شعب ما طرد شعباً آخر، الأمر ليس جيداً، ولكن ماذا بعد؟ ويستحضر المؤرخ الكبير فيرناند بروديل الذي يقول: “كل جماعات العالم مذنبة ومحكوم عليها أن تكونه”، ولكنه يستدرك: “الخطأ الأصلي (ل “إسرائيل”) هو النكبة . 800 ألف مواطن محلي طردوا من أراضيهم بالقوة العسكرية .( . . .) هذا الشكل من التطهير العرقي، في تلك الفترة، لم يؤثر في مشاعر أحد في العالم الشاسع . ( . . .) لا تلفزيون ولا مراسلين” .

هنا المفارقة: ““إسرائيل” التي ولدت من صراع تفكيك الاستعمار، أصبحت رمزاً للاستعمار؟”، ويضيف بصراحة: “لم تتوقف “الدولة الكولونيالية” (إسرائيل) عن ممارسة الاستعمار والاستيلاء على الأراضي واقتلاع جذور السكان الأصليين، 18 ألف منزل فلسطيني تم هدمه750، ألف فلسطيني تم إيقافهم منذ سنة 1967 في فترة أو في أخرى، 11 ألف أسير في الوقت الراهن، ما بين 500 و600 حاجز في الضفة الغربية، أمكنة للتنكيد والعنف المجاني . . .” .

وينهمك ريجيس دوبريه في انتقاد لاذع للخطاب السياسي “الإسرائيلي” المليء بالمغالطات والانزلاقات الدلالية: “المحزن في الأمر هو أنكم لم تفعلوا شيئاً، عبر الزمن، من أجل تلطيف مثل هذا الكسر على الخريطة . وإنه بسبب تعودنا، نحن وأنتم، نوعاً من لغة (ابتدعها جورج أورويل) للتحكم في الجمهور، فهذا يجعل واجباً أولياً على المُستعْمَر أن يحترم في كل مكان وزمان أمن قوة الاحتلال، من دون أدنى ضرورة تبادلية . لا نحاصر شعباً بل نخلي أرضاً . لا نسحقه تحت طوفان من النيران بل نقود حرباً لا متوازية . لا توجد عقوبة الإعدام بل يوجد تنفيذ القتل خارج القانون (الذي يقتل بالإضافة إلى المحكوم عليه، النساء والأطفال والجيران) . لا يوجد جدار، بل يوجد سياج أمن . تتم المطالبة، بصفة شرعية، بحدود آمنة ومعترف بها، من دون أن تحدد أية حدود (هل الحدود من أجل الذات وليس من أجل الآخر؟) .

ويرى عن حق أن المجتمع الدولي، على رغم كل معاناة الفلسطينيين، لا يطلب من “الإسرائيليين” شيئاً، بل يطلب تنازلات من الفلسطينيين فقط، ولا يضع شروطاً إلا على الفلسطينيين . “المليارات الأربعة من الدولارات التي تمنحها الولايات المتحدة الأمريكية ل “إسرائيل” ليست مشروطة في شيء، بينما بضع مئات من ملايين الدولارات الممنوحة للفلسطينيين تخضع لشروط صارمة” .

لا يفعل ريجيس دوبريه إلا أن يرى، بموضوعية، ما يحدث في الأراضي الفلسطينية ويصف الأمر، مخاطباً “صديقه” إيلي برنافي: “في غزة” أصبح الفلسطينيون أكثر هزالاً من قبل ولكنهم لن يموتوا . لا يوجد هناك حصار بل “موعد متعلق بالحِمْية”، حسب السيد دوف ويسغلاس، مستشار رئيس وزراء “إسرائيلي” سابق (شارون) . ألم يتهم أحد نواب الكنسيت، خلال العملية العسكرية، حركة حماس بأنها “حركة تستعمل الإبادة”؟

ويرى المفكر الفرنسي أن “إسرائيل” أصبحت أسيرة لأطروحاتها ولم تعد قادرة على التخلص منها: “من شدة ما كرر “الإسرائيليون” أنه من أجل صنع السلام يجب استحضار القوة، فقد استسلموا لهذه القاعدة الكئيبة التي لا تتعب أبداً، والتي تقتضي أن يكون المرءُ بربرياً إزاء الضعفاء . إن توراتهم أصبحت إلياذة، القصيدة الأبدية عن القوة . أما النصيحة الواقعية للمتنسكة، سيمون فيل، والتي تقول: “لا تسقط أبداً تحت إغواء القوة، ولا تكره أعداءك، ولا تحتقر التعساء” فقد رُدّت إلى خطباء الندوات المغلقة” .

من الكيبوتز إلى الكيبا (القلنسوة)

ويشرّح المفكر الفرنسي نكوص الفكر الصهيوني العلماني، العمالي والاشتراكي، وعودة الفكر الديني الأرثوذوكسي . “غابت الطوباوية، الرأس عارٍ، وعادت الأسطورة، مع القلنسوة . في نهاية الحداثة يوجد التقويم اليهودي . في بداية القرن الواحد والعشرين” .

إننا أمام ما يعبّر عنه دوبريه بهذه الكلمات: “دولة اليهود وجدتْ نفسَهَا دولة يهودية . هكذا وجد المستقبلي نفسه مُتجَاوَزاً من قِبَل ماضيه” .

كما يلتفت المفكر الفرنسي إلى مسألة حاسمة في تاريخ دولة “إسرائيل” وهي استعادة اللغة العبرية، على حساب لغات أخرى، ومن بينها اليديش، مثلاً، ولكنه يستعرض النتائج الكارثية من هذا المشروع، الذي يبدو “ثورياً” بامتياز، فيوجه كلامه إلى صديقه “الإسرائيلي” (اليهودي): “إن استبدال اللغة العبرية بلغة اليديش، والتي تعتبر ولادتُها الثانية كلغة كلام رُبّما أجملَ استثمار، كان إنجازاً . ولكن العودة إلى اللغة العبرية، هذا الكوريدور (الممرّ) ما بين الهرطقة والأرثوذوكسية، يحمل في طياته، إن لم يكن “دولة حاخامات وجنرالات”، كان هرتزل يرى فيها، حين يتخيلها، كابوساً، فعلى الأقل ممراً نحو هذا التكرار” .

ويذهب دوبريه بعيداً في استعراض ما ينتظره اليهود، وجيرانهم، في العقود المقبلة: “ليس من السهل إفراغ الكلمات المحشوّة بالمعنى من حمولتها، اللهم إلاّ إذا تمت التضحية باللغة نفسها” .

يتطرق الفصل الثالث إلى موضوع ما كان للمفكر الفرنسي أن يدعه جانباً، وإلاّ اتهم بما لا تحمد عقباه . والمقصود هو “معاداة السامية” . وفي البداية يذكّر ريجيس دوبريه صديقه “الإسرائيلي” اليهودي إيلي برنافي بخوفه من انقلاب الرأي العام الأوروبي ضد “إسرائيل”، وما يحمله من عودة معاداة السامية .

الكلمات والأشياء

يكتب دوبريه: “معاداة السامية في بلد إسلامي تعتبر حقيقة”، ولكن حالة معاداة السامية في فرنسا ليست كما يتصور الكثيرون، فقد تغيّر الأمر بعد سنة ،1945 على الرغم من ادعاءات المسؤولين “الإسرائيليين” ومسؤولي الجالية اليهودية في فرنسا . صحيح أنه توجد اعتداءات تطال اليهود والرموز اليهودية في فرنسا، يتكفل مجلس الإحصاء اليهودي والداخلية الفرنسية بإحصائها، ولكنها لا ترقى إلى درجة معاداة السامية: “شباب محرومون وفي حالة تفكك هوياتي (مغاربيون ومن جزر الأنتيل وأفارقة) يعتدون على يهود، ولكنهم، في معظمهم، يجهلون معنى “معاداة السامية” . لا يجب تقبل أعذارهم لأنهم فقراء، كما أن عُقدة المُستَعْمَر السابق لا يجب أن تثنينا عن قمعهم وتحذيرهم ومنعهم” .

وكملاحظ دقيق يشرّح المفكر الفرنسي، من خلال مقارنة بين الدينين الإسلامي واليهودي، الامتياز الذي تحظى به الديانة اليهودية ورموزها مقارنة مع الإسلام ورموزه .

“الفوبيا الوحيدة، المنغرسة، اليوم، في فرنسا، والتي تُعامَل بتسامح، بل ويتمّ تشجيعُها، الفوبيا التي يمكن سماعُها في البرلمان، ومن أفواه الوزراء وفي قاعات مراكز الشرطة والاجتماعات الحرة والتي لا يجب من أجلها تسويد اللوحة، تَصِمُ المآذن وليس البِيَع . إنه من الجاري به قول أو كتابة “العرب” . لكن من يجرُؤُ أن يقول ويكتب “اليهود”؟ النظرة الشزراءُ، في المجلات والأسبوعيات، لم يَعُد لها أنفٌ معقوفٌ ولا أذنان واسعتان؛ إنها تحمل لحية وجلابية . إذا كان العربي لطيفاً نُعيرُه إغراء الشيطان . إن النقاشات البليدة حول الهوية الوطنية ليس لها هدفان بل هدف واحدٌ: إنه إسماعيل، الموضوع الأوحد للحقد الغالي (أي الفرنسي) . إنه الخمار (الإسلامي) وليس القلنسوة (اليهودية)” .

لن نستعرض كل المقارنات، التي قام بها ريجيس دوبريه، بين الديانتين ومكانتهما في الميدان السياسي والإعلامي الفرنسي، كي نكتشف الحيف الذي يعاني منه الإسلام، ولكن سنستعين بهذا المثال الذي لا يوجد ما هو أكثر وضوحاً منه: “نهاية صوم كيبور يشهد تقاطر العديد من الوزراء الفرنسيين ومن رجالات المعارضة (والذي يرفض التوجه إلى كنيسة نوتردام دي باريس في الجنازات الرسمية لا يمكنه أن يرفض التوجه إلى الكنيس اليهودي)، في نفس الآن، على الكنيس (البيعة) الرئيسي في باريس . أما انتهاء صوم رمضان فيشهد استقبالين منفصلين، في المسجد الكبير في باريس: أحدهما من أجل وزير الداخلية والديانات، والثاني من أجل عمدة باريس” .

مظهر آخر من مظاهر التمييز يتعرض لها المسلمون مقارنة باليهود، وتخص موضوعاً حساساً، وهو موضوع التعليم “المدارس اليهودية ذات التوجهات التقليدية، حيث يتم تلقين الثقافة والتاريخ وحب “إسرائيل”، تتمتع باتفاق، وهي مدعومةٌ بالإضافة إلى كل رياض الأطفال “لوبافيتش”، حيث يخضع الأطفال المقبولون فيها لمعايير حاخامية صارمة . لكن في المقابل، ليس في الوارد، إظهار نفس الانفتاح على المدارس والثانويات ذات التوجه الإسلامي، (والتي لا يُعترَف بها)” .

مثال آخر: “حين تتعرض مقبرة يهودية أو كنيس يهودي للتدنيس، يهرع وزير الداخلية ورئيس الشرطة وحين يتعرض مسجد أو قبور إسلامية للتدنيس يُتْرَك الأمر للعمدة” . ويذهب المفكر الفرنسي دوبريه بعيداً، ويخوض في منطقة خطرة، وهي منطقة الإعلام . ويقول موجها كلامه للصديق “الإسرائيلي”، مستعرضاً هذه المجتمعات الصغيرة الموالية ل “إسرائيل”، هذه الميكرو-مجتمعات، التي تجد مكانها على مائدة الرئيس الفرنسي . “بينما الدائرة المسماة: “الموالية للفلسطينيين”، مهما كان رأيك عنه، فهو يقطن منشورات هامشية أو متخصصة مع “قدرة إزعاج” منحسرة جداً . الكلام “الإسرائيلي” ينقع . الكلام العربي يخدش . أحدهما داجن والآخر غريب . “لوبين” “إسرائيلي” (عنصري مثل الفرنسي جان ماري لوبين)، وزير الشؤون الخارجية (ليبرمان) يستقبل بشكل طبيعي، في حين يطرد “لوبين” نمساوي، بإدانة . صوتان، إجراءان” .

ويمضي دوبريه في فضح النفوذ الصهيوني الكبير في فرنسا، وخفوت الرأي الفلسطيني: “يستطيع ناطق رسمي باسم حكومتك أن يتحدث إلى أية إذاعة مسموعة بشكل كبير في فرنسا، لكن من دون منح الحق للصوت الفلسطيني، وعكس الأمر سيثير المفاجأة” . لا يبدي دوبريه، على الإطلاق، أي تحامل (ولا أي كراهية) على اليهود و”الإسرائيليين”، بل إن ما يفعله هو من باب النصح للصديق “كل هذا (الامتياز) ليست لديه إيجابيات فقط . إنه يحث الجماعات والجاليات الأخرى على السعي للحصول على مرتبة الأقلية الأقل حظوة . “لماذا إظهار الندم في أوشفيتز وليس في سطيف؟” هذا ما قاله لي يوما أحد الآباء ( . . .) إن فرنسا وليست ألمانيا من قتل الناس هناك، ومدغشقر؟ والهند الصينية؟ هل هذه البلدان لا تهمكم؟ ولماذا معتقل فرنسي فلسطيني في “إسرائيل” (الحموري) يعامل كأنه غير موجود . في حين أن رهينة فرنسية “إسرائيلية” (جلعاد شاليت) تمتلك بورتريه في بلدية باريس”؟

“إسرائيل” ستخسر الحرب القادمة

يواصل ريجيس دوبريه تشريحه للتناقضات اليهودية في فرنسا، بل و”تجاوزات” اليهود الفرنسيين، مقارنة مع الديانات الأخرى: “الاتحاد في الإيمان مع روما لا تقود كنيسة فرنسا إلى التضامن مع بيرلوسكوني . كما أن رئيس مسجد باريس لا يتظاهر في جادة الشانزليزيه حين ينتصر فريق كرة القدم الجزائرية . ولكن رؤية حاخام فرنسا الأكبر وهو يُعبّر في الشارع، تحت راية “إسرائيل”، وأمام سفارتها، عن تأييده لدخول الدبابات إلى شوارع غزّة، فإنه يسيء إلى قواعد وإلى غريزة العلمانية” .

ويضع ريجيس دوبريه، بحنكة، اليد على موضع الداء، كاشفاً سبباً من أسباب الغموض، بين أن يكون المرء يهودياً فرنسياً، أو يكون “إسرائيلياً” . ويخاطب صديقه اليهودي “الإسرائيلي”: “إذا كانت أماكن العبادة اليهودية تعلق أعلاماً “إسرائيلية” وتدق الطبول فكيف تريد لإنسان مغاربي أن يصدق بجدية النداءات التي تطالب بعدم الخلط بين يهود فرنسا ودولة “إسرائيل”؟” ، ويفضح دوبريه، ولعله الوحيد، من هذا العيار، المثقفين الفرنسيين المتحمسين للمشروع الصهيوني ويبرز تناقضاتهم، بل واصطدام مقترحاتهم مع مفهوم الحرية والديمقراطية ذاته . إرضاء “إسرائيل” بأي ثمن . ويستحضر من بين هؤلاء جون كريستوف روفين (سيصبح لاحقاً عضواً في الأكاديمية الفرنسية)، الذي اقترح، في تقرير أرسله إلى وزير الداخلية الفرنسية إصدار قانون يُجرّم “العداء للصهيونية” . يكتب ريجيس دوبريه: “هل هو إسراف في الحماس؟ هل هو عشق أعمى للغرب؟ خرقة حمراء تصُفّ على خط مستقيم فوريسون وفيدال ناكي وأحمدي نجاد وماريك إيديلمان (أحد زعماء انتفاضة غيتو فرصوفيا، سنة 1943) ولويس ماسينيون وروجيه غارودي، بسبب كون هؤلاء جميعاً معادين بشكل جذري للصهيونية . الأفضل هنا أن نضحك بدل أن نبكي” .

حمل الفصل الرابع من الكتاب، عنوان “المحرقة، اليوم”، ويتناول فيه الفيلسوف الفرنسي السلاح الرهيب الذي يمنحه ل “إسرائيل” استخدام هذا الأمر . ويكشف تناقضات الساسة “الإسرائيليين” وكيف يمكن لهم أن يغيروا رأيهم أو يبدوا مواقف تكون أحياناً متناقضة . يقول دوبريه مخاطباً صديقه “الإسرائيلي” اليهودي: “مفتي القدس الكبير السابق، (الشيخ) أمين الحسيني، أنت تراه جالسا أمام الوحش النازي (هتلر)، في برلين، سنة 1943 . ( . . .) رغبة منه في إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، التقى هذا الشخص بالفعل، أثناء الحرب، الدوائر العليا في الرايخ الثالث، بمن فيهم هيملر . لماذا لا يمكننا القول إن الحبيب بورقيبة حظي باستقبال حافل في روما الفاشية . . .” وهذا ما يسمّيه ب “تجمد التاريخ”، وهو خطر على “إسرائيل” . كما يورد مخاطر أخرى على أصدقائه “الإسرائيليين”: الإحلال الذاتي من الذنب (الصفح الذاتي) . “ خطر ثان، الصفح الذاتي . الخلاص، باسم الأسوأ الممكن، دائماً، باسم إذْن في القتل والهدم . التذكار المكرر لجريمة ضد الإنسانية يجعل جريمة الحرب مسألة أقل أهمية، المُطلق يبرر النسبي . الفلسطينيون لا يمتلكون نفس سُلَّم القِيَم . إن هدم المنزل العائلي، بالنسبة لمحمد وعلي ونبيل، هو شرٌّ مطلق (بسبب ما يمثله الأمر في ثقافتهم)” .

ويعلق دوبريه على الأمر، التفاوت بين الثقافات وبين المعاناة، بقسوة لغوية: “ هل هذه الذاكرة تمنحكم كل الحقوق على من لا يمتلكونها وليس لهم سبب في امتلاكها؟” .

الخطر الثالث على اليهود، في نظر دوبريه، هو الانغلاق الذاتي . ويستشهد دوبريه بما كتبه اليهودي الفرنسي المعادي للصهيونية، بيير فدال ناكي، في كتابه (خيار التاريخ/10_B): “ لا توجد ذاكرة إلا أساس النسيان، هذا النسيانُ مُهدِّدٌ لكنه ضروريٌّ” . ويكتب دوبريه: “إن الاستخدام للجيد لما هو ضروري يجب أن يَقْبَل اليوم، الذي لا مفر منه، حيث ينتقل من النفسي إلى الثقافي ومن الأجندة إلى الكرونولوجيا . هل لكم حقوق علينا؟ ربما . ولكنّ حقّكم في العيش في استقلال، لا تستمدونه من المحرقة ولكن من قرار حظي بالأغلبية في مجلس الأمم” .

يتناول الكاتب في الفصل الخامس “خطر التوحّد” الخطاب المتكرر لدى القادة “الإسرائيليين”، الذي لا يني يتحدث عن المخاطر التي تواجه “إسرائيل” . وهي على هذا الشكل من التصريحات ومن التحذيرات: “ ليس لدينا الحق في الخطأ . إن وضعيتنا الجغرافية لا تتيح لنا ذلك” . أو “نحن من الهشاشة ومن قابلية الانكسار” . وهذا ما سمح للمؤلف أن يقول: “البلد الحامية والجيش وهو ممسك بالدولة، يمكن أن يكونا اعترافاً بالضعف” . ويصف الكاتب وضعية “إسرائيل” بالقول “أول قوة ضاربة في المنطقة، منضدة لاختبار تكنولوجيات بالغة التطور، ومحاطة بستار من صواريخ مضادة للصواريخ آخر صيحة . ولكن صحيح أنها بلد هش . هش أمام العمليات الانتحارية . أوقفتها حماس، في هذه الفترة، ليس بسبب “الجدار الأمني” الذي يمكن للمرء أن يعبره بهدوء، ولكن لأنها عمليات تؤدي مفعولاً عكسياً . يبقى أنه منذ فترة قريبة، كان الفلسطينيون يقومون بعمليات انتحارية في المقاهي والشوارع . أنتم ضعفاء أمام صواريخ محلية الصنع تمر فوق الميرادور ويمكن أن تطلق من جديد . الأمر لا يحتمل . وأنتم لا تفعلون سوى الدفاع عن النفس . ( . . .) تقولون “لقد غادرنا غزة طوع إرادتنا، أنظروا كيف يكافئنا الفلسطينيون بألف صاروخ قسّام في حديقتنا، بالإضافة إلى جندي رهينة (شاليت) من أجل تحرير إرهابيين” حين مررنا ببيروت الشرقية وما تبقى من صبرا وشاتيلا، وعبر جنوب لبنان، حيث رأينا عشرات الأطفال المبتورين بسبب قنابلكم التي ظلت مطمورة تحت الأرض، وعبر زنازين التعذيب في الخيام حيث كان يعمل عملاؤكم (من جيش لبنان الجنوبي)، وعبر مدينة القنيطرة المخربة في مرتفعات الجولان، وعبر المخيمات (الفلسطينية) في الأردن، ثم نصل إلى تل أبيب، نحسّ أنفسنا مُصابين بِحَوَل متباين” .

قوة الكتاب وقوة محتواه نابعتان من كون ريجيس دوبريه يقول لصديقه “الإسرائيلي”، ومن خلاله ل “الإسرائيليين” أشياء بدهيّة ولكنهم لا يريدون سماعها، إذ يرون أنهم مُحصّنون منها . يقول: “أوشكت أن أمسح دمعة من عيني حين جاء سفيركم في باريس إلى التلفزيون، في اللحظة التي كانت فيها البحرية “الإسرائيلية” والطيران والدبابات والمدفعية تحوّل غزة إلى ساحة أنقاض، كي يتكلم لنا عن الفظاعة التي يعاني منها من يعيش تحت وابل صواريخ القسّام، والرعب في سيديروت، والأطفال في الملاجئ . ورسم “إسرائيل”، في صورة مجازية، في هيئة بلجيكا بريئة وهادئة وهي تتعرض ليلاً ونهاراً لهجوم من أفراد عصابات شديدي التسليح . . .” .

لا يحتاج الأمر إلى تعليق كبير . فالأحداث تتكلم من تلقاء نفسها . ولكن ليس من حق أحد أن يقوم بتشريح هذه الحقائق وإلا فإنه يدخل في خانة الملاعين من المعادين للسامية . ولكن ريجيس دوبريه لا يترك الأمور على عواهنها . ويضيف: “ مع تحيتي البالغة للقدرة الخطابية لسفيركم، فإني بحثتُ فيما بعدُ معلومات أكثر . وها هي الأرقام، منذ سنة 2000 قتلت صواريخ القسام 13 شخصا على أرضكم (من بينهم عربيان وتايلاندي) . وخلال هدنة 2008 وحدها، ما بين يونيو/ حزيران وديسمبر/ وكانون الأول، قتلت طائراتكم في غارتين من ثلاث دقائق، 16 شخصاً من غزة (بتاريخ 4 و17 نوفمبر/ تشرين الثاني) . هدنة أنتم من وضع لها حداً . إلى هنا كان الأمر “متوازناً” . حرب غزة في بداية سنة ،2009 أدت الحرب ما بين جيش نظامي وجيش غير نظامي التي تسبب عموماً خسارة واحد على عشرة، إلى نتيجة واحد على مائة 1450 قتيلاً فلسطينياً، من بينهم 410 أطفال، و104 امرأة، مقابل 13 “إسرائيلياً”، حسب إحصاءات اليونيسيف . . .” .

وينتقل المفكر الفرنسي إلى لعبة الإعلام، كيف أن الحكومة “الإسرائيلية” كانت إلى حدود قريبة تتقن لعبة الإعلام . ولا يتعجب المفكر من رؤية “إسرائيليين” طيبين في تل أبيب لا يعرفون شيئاً عن الحواجز في رام الله، “لم يروها سوى في السينما”، ولكن حبل الكذب قصير، وها هي قناة الجزيرة تكسر الرؤية “الإسرائيلية” المتحيزة وتمنح للمشاهد (باللغتين العربية والإنجليزية) رؤية أخرى للحقيقة، لا تقلّ مهنيّةً عن بقية القنوات الدولية الأخرى . “المنطق “الإسرائيلي” هو: “مَنْ لم يَرَ لن يعرف أبدا” . لم أر، بعينيّ، وأعترف بالأمر، أشلاء أجساد “إسرائيليين” على الأراضي، إلا في التلفزيون، في فرنسا وخارجها، حيث تتم تغطية الأخبار بشكل واسع . يوجد عرب في “إسرائيل” يشاهدون التلفزيون “الإسرائيلي” . يعرفون الأمر . لا يوجدون “إسرائيليون” خلف الجدار وميرادور غزة . ( . . .) المشاهدون “الإسرائيليون” ركزوا عيونهم على مدينة سديروت، والسباق إلى الملاجئ وصفارات الإنذار وعلى احتضار قطّ وسقوط سقف . . . المصيبة هي أن قناة الجزيرة كانت تتوفر على مراسلين وكاميرات في كلا الجانبين . (الحصيلة) العرب والغربيون لم يروا نفس الحرب” .

“إسرائيل”، كما يرى المفكر دوبريه، وهو يخاطب صديقه، السفير “الإسرائيلي” السابق في باريس: “ لها مشكلة مع الآخَر . الآخَر الحقيقي، وليس الآخر المفخم في ندوات عن الفيلسوف لوفيناس . الآخَر الصغير الذي لا تختارونه، الذي يثير لكم متاعب، ولكنه يوجد بجانبكم . يمكن لكم، بكل شرعية، أن تنتقدوا النزوع إلى الانبطاح أمام الآخَر لأنه آخَر، ولكن ليس من سبب كي تجعلوا الأخَر ينبطح لكم وتضعونه في قفص وتطردونه من عينيه” .

يتذكر المفكر دعوة مفتوحة لندوة وجهتها منظمة ليكرا (جمعية حقوقية فرنسية موالية للكيان، بشكل فاضح) في بلدية باريس السادسة تحت عنوان: “الحوار اليهودي الفلسطيني”، ويتعجب لأنه لم توجه الدعوة لأي فلسطيني . كان في المنصة سبعة أفراد، من بينهم إيلي برنافي، نفسه . بل لم يوجد حتى “عربي الخدمة” (هؤلاء العرب المستعدون، دوما وعند الطلب، لجلد ذواتهم من أجل إرضاء الغربي) . “هذا العربي المفيد، من الناحية البصرية” لم يكن ثمة جمهور، كان النقاش مفيداً، ولكن كان ينقصه “الآخَر”، أي “نصف المشكل” .

العامل الديني

خلال العقود الأخيرة انزلقت “إسرائيل”، في صراعها مع الفلسطينيين، من مواجهة مصالح إلى حرب قِيَم . كمن ينزلق على طول سقف . “ الجانب الفلسطيني يقوم بالأسلمة . والجانب “الإسرائيلي” يُهوّد . ( . . .) لم يعد الأمر صراعاً بين حركتين وطنيتين حول أرض متنازع عليها، ولكن بين كتلتين من إيمان، من أجل شرف الربّ” .

يمكن للمرء أن ينتقد هذا التقابل (الذي تعمده ريجيس دوبريه) بين الطرفين . فالأسلمة مصطلح قدحي ( في توظيف دوبريه)، ما من شك . والحركة الوطنية الفلسطينية متنوعة ولا تخلو من تيارات لائكية (علمانية) قوية جداً . ثم إن حركة حماس، وهي المعنية بالأمر (هنا في هذه المقارنة)، ليست هي من يتفاوض ولا هي التي تفرض الأسلمة على الفلسطينيين . ثم إن الحركة الوطنية الفلسطينية فخورة بالامتدادات المسيحية بين شعبها . ولم نسمع يوما أن حركة حماس تستهدف الفلسطينيين المسيحيين وتؤسلمهم .

الانطواء “الإسرائيلي” على الذات ورفضه لرؤية آخَر، جار، ومحكوم عليه، عاجلا أم آجلا، بالتعايش معه، هو ما يحرك رسالة ريجيس دوبريه إلى صديقه “الإسرائيلي” . وعلى الرغم من اسوداد الأفق، وتعنت الساسة “الإسرائيليين” وعماهم وفقدانهم للذاكرة أحياناً، فالمفكر لا تزال تراوده بعض علامات أمل .

يستعرض الكثير من الفعاليات اليهودية “الإسرائيلية” الرافضة للتوجه الحكومي، ومن بينها أبراهام بورغ (رئيس سابق للكنيسيت) والصحافية أميرة هاس وبنت موشي دايان (يائيل)، بالإضافة إلى 27 طياراً “إسرائيلياً” كسروا حياتهم المهنية، سنة ،2003 وهم يدينون “الطابع اللا أخلاقي وغير القانوني للعمليات “الإسرائيلية” في الأراضي المحتلة” .

هؤلاء هم الذين يجعلون الأمل حياً، حسب المفكر الفرنسي، الذي يعتقد أن هذا التيار لن يظل تياراً أقلوياً، أو أنه يقاوم الفكرة التي تراوده أحياناً من أنهم “سيظلون استثناءً، وليست لديهم قوة تمثيلية” .

العلاقة مع أمريكا

عنون دوبريه الفصل السادس، ب “العالم الجديد” . ويقول، يشتكي “الإسرائيليون” من نقص عدد مناصريهم ومؤيديهم .توجد نقاط سوداء في اللازورد، وهو أمر بدهي . من بينها احتمال صنع الإيرانيين قنبلة نووية وهو أمر لا يفرح “الإسرائيليين” . وثمة دعوات المقاطعة من قبل الدول العربية ومن قبل الجمعيات والمنظمات الغربية، ولكنها تظل غير ذات جدوى اللهم إلا من عمال موانئ جنوب إفريقيا .

لكن أخطر شيء يمكن أن يخيف “إسرائيل” يظل العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية “ما يمكن أن يُخيفكم هو تفتت أو انقلاب دعم الولايات المتحدة اللا مشروط، قد تفرضه مصالح اقتصادية وانتقال نحو الشرق والجنوب من مركز ثقلهم الديمغرافي والثقافي (مهاجرو أمريكا اللاتينية والآسيويون) . . .” .

ولم ينس المفكر الفرنسي أن يذكّر صديقه اليهودي “الإسرائيلي” بالخوف الذي انتاب اليهود في العالم بعد فوز باراك حسين أوباما برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية “ في كل الجاليات اليهودية في العالم، والفرنسية لم تكن الأخيرة، وجهت اتهامات خطيرة إلى باراك حسين أوباما، الخائن، بالقوة (حسب المنطق الأرسطي) . أما أنت، وبفضل بعد نظرك، انتظرت منه الأفضل: سلاماً أمريكياً” .

ويشرح المفكر الفرنسي الأسباب التي جعلت صديقه اليهودي “الإسرائيلي” يعول على أوباما: “ الشيء الذي أدّى بك إلى الأمل المجنون لا ينقصه المنطق . أنت ترى أن “إسرائيل”، لا يمكنها أن تنقذ نفسها بنفسها . كانت الصهيونية الحل القومي للمسألة اليهودية، ولكن هذا الحل خلق مشكلاً دولياً أصبح حجمه يتجاوزكم . هذا الارتباك يستلزم تدخل “وسيط شريف” قمين بأن يكون مسموعاً من الطرفين، وأن يلوي لهما الذراع، إن اقتضى الحال” .

أحياناً يمكن للقارئ العربي أن يحس كأن ريجيس دوبريه يجاري وجهة النظر “الإسرائيلية”، في مواقع عديدة من الكتاب، خصوصاً حين يتحدث عن تقابل الأسلمة مع التهويد . بالفعل يصعب علينا أن نقبل الأمر . ونعتبره من صميم نجاح الفكر الدعائي الصهيوني في تشويه مكوّن أساسي من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية الراهنة . ولكن ريجيس دوبريه، أحياناً، يندفع في تشريح دقيق، سيغضب بالتأكيد الصهاينة و”الإسرائيليين” وبعض العرب المندفعين في التفاوض مع “إسرائيل” . يتصدى ريجيس دوبريه لما يسمى بمسار السلام ويكتب لصديقه: “لقد فشل” مسار السلام” . بعد 15 سنة من أوسلو، حيث قَبِلَ الجانب الفلسطيني بانتهاك ميثاق الأمم المتحدة الذي يحرّم امتلاك الأراضي بالقوة بهدف الحصول على دولة في غضون خمس سنوات . فماذا كانت النتيجة؟ مزيد من الاحتلال ومزيد من الحواجز (العسكرية) ومزيد من الأسرى ومزيد من “المستوطنات” أكثر مما كان قبل التوقيع” .

حتى المعلقون الفلسطينيون الرافضون لأوسلو لم يستخدموا تعبير “انتهاك المفاوض الفلسطيني لميثاق الأمم المتحدة” .

لقد بلغ السيل الزبى . وطال زمن الأكاذيب “الإسرائيلية” . ويعدد المفكر أسباب هذا الفشل الكبير في مسلسل السلام، ومن بينها: غياب آلية لمراقبة تطبيق الاتفاقات، قادرة عل معاقبة الخروقات . أمريكا، التي يرى فيها كثير من العرب وسيطا نزيها، “تنظر إلى العالم من خلال عيني “إسرائيل”” .

ما هو الحل، الذي يقترحه دوبريه كي تتخلص “إسرائيل” من نفسها، إذ إن أكبر عدو ل “إسرائيل” هو نفسها، هو العمى الذي توجد فيه والذي تنغلق فيه؟

“لا يمكن للغرب أن يكون مفيدا لكم، لأنه يحس ويفكر في العمق مثل تفكيركم، مهما ادعى خلاف ذلك . اليوم الذي سيصبح فيه هذا العالَم الأول (هذا العالمُ لحدّ الساعة مُفيدٌ)، بالنسبة لكم خارجاً ويتوقف عن أن يكون متواطئاً، حينها يمكن أن يقدم لكم خدمة” .

ينتقد ريجيس دوبريه، بلغة مباشرة، لا مواربة فيها ولا نفاق، الموقف الأوروبي من الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي” . ويكتب: “في ما يخص “أوروبا”، هذا الظل الرخو، التفاهة التي تزداد تفضلاً، جديرةٌ بالاحتقار المزّاح الذي يحمله “الإسرائيليون” تجاه زعمائنا . هذه الجبلة الخارجية الهاربة تطلب من الفلسطينيين أن ينظموا انتخابات، واعترفت بأنها جرت في ظروف رائقة ولكنها رفضت الاعتراف بالنجاح . وفي نفس الوقت جعلت من “إسرائيل” “شريكاً مميزاً” يتم إشراكه بشكل مباشر في أعمالها وقراراتها، ثم تُدخل رأسها في الرمل” .

يفضح ريجيس دوبريه الذلّ الذي تعيشه الدبلوماسية الغربية (الأوروبية)، فرؤساء بعثاتها في القدس يكتبون، كل سنة، تقارير سوداء عن الوضعية المحلية هناك (بناء جدار، شبكات طرق وتصاريح بناء ومرور . .) ومن بين 785 نائباً برلمانياً أوروبياً لم يغامر منهم سوى مجموعة لا تتجاوز 12 نائباً في زيارة الأراضي الفلسطينية . عشرون من القناصلة المعتمدين وعدد من الوزراء الأوروبيين طردوا من حاجز إيريتز . ولم تنبس أوروبا ببنت شفة . ويواصل دوبريه عرض حقائق أخرى تبين أن أوروبا لا تزال قزماً على المستوى السياسي .

القفزة الداخلية

خطر “إسرائيل” الدائم يتمثل في “أن تجد نفسها ذات يوم أقلية في دولتها . وبالتالي فإن عليها أن تسجل وتقنن وتقلل من سكانها العرب” . وبالتالي فإن عليها أن تخلق أماكن متفرقة، أي مواطنين من الدرجة الأولى وأخرى من الدرجة الثانية . ولكن من دون الحديث عن أبرتهايد، بطبيعة الحال . الكلمة قبيحة . لكن الأمر لن يكون بسيطاً، وهنا يظهر دوبريه، بالفعل، حرصاً على بقاء “إسرائيل”، ولو أن اليهود لن يفهموه على حقيقته: “سوف تجدون أسماء شبيهة تقول نفس الشيء: “ متساوين في الاختلاف”، وحينها فإن المتعصبين من كلا الطرفين سيصفقون بكلتا يديهما . . . ( . . .) في هذا اليوم، ولتكن على يقين، ستعاود حرب المائة سنة، التي لا توجد الآن سوى في المنتصف، اشتعالها، ولا أتصور أن الجزء الثاني من المشهد سيكون في صالحكم” .

يريد دوبريه أن يقنع “الإسرائيليين”، من خلال صديقه برنافي، أن الحرب القادمة ستخسرها “إسرائيل” حتماً . يقصد الحرب القادمة وليس المعركة القادمة . ويفسر بعض الأسباب التي ستجعل الهزيمة “الإسرائيلية” مؤكدة: “إن الغرب، الذي تتعلقون به كثيراً ومن خلال كثير من الروابط، لن يجد أفضل، في القرن الواحد والعشرين، من الانطواء على “مواقع مُعدَّة مسبقاً” . وهي مواقع يمكن أن تكون بعيدة، غرباً، عن تل أبيب . . .” .

العائق أو العوائق الحقيقية في وجه فرض السلام الحقيقي، كما يراها المفكر الفرنسي، تتمثل في طرفين: أوروبا و”إسرائيل” فينا نحن، الغربيين، لأننا جبناء كثيراً . وفيكم، “الإسرائيليين”، لأنكم طيبون جداً . ( . . .) لقد أصبحت دبلوماسيتكم من الروائع . لم تخسروا سوى معركة واحدة، معركة الصُوَر، في الانتفاضة الأولى، وفي غزة، خففتم من الخسائر . وفيما يخص الباقي، فقد أنجزتم عملا جيدا . أُحيلُك إلى هذه التحالفات، التي تضرب عرض الحائط بالاعتبار الأخلاقي، مع إيران الشاه وتركيا الجنرالات وإفريقيا الأبرتهايد . . .” .

أي وصف أصدق من هذه الكلمات . “إسرائيل” واحة للديمقراطية، كما يريد الغرب الترويج لها، بعد أن غرسها في الخاصرة العربية، تتحالف مع أنظمة استبدادية وعنصرية كريهة .

وينهي المفكر هذا الفصل، بهذه الكلمات الجارحة، الموجهة إلى صديقه، السفير السابق ل “إسرائيل” في باريس: “ستجد محاكمتي للنوايا فضائحية . لا أستطيع أن أفعل شيئاً . أصبعي يقول لي بأن ساستكم في السلطة هم “رجال الأعمال”، يتمتعون بعبقرية موروثة من الأجداد تطالبهم بشكل غامض بإيجاد حل سريع لهذه القضية من أجل الوصول بسرعة إلى نهر الأردن، الذي تسيطرون على واديه . سوف تشير إلى أن دليل السيارة لشركة هيرتز أخذ علماً: لا أثر لفلسطين . كما هو الحال في كتبكم المدرسية . ستجيبني بأن الكتب المدرسية الفلسطينية تفعل الشيء ذاته: لا أثر ل “إسرائيل” . الاختلاف يكْمُن في أن الفلسطينيين يحلمون على الورق أما أنتم فعلى الأرض . هم ينهمكون في السحر وأنتم في البناء والأشغال العمومية . المنفيون الذين يعودون إلى بلدهم بعد 5 أو 10 سنوات فقط من الغياب، لا يتعرفون، بشكل تام، وأنا كنت شاهداً على الأمر، على المكان الذي وُلدوا فيه” .

الفصل الأخير (السابع) والذي حمل عنوان “إسرائيلان” . هو رغبة من الكاتب في عدم السقوط في اليأس ساعياً في محاولة اجتراح الأمل . وهو ما يراهن عليه الكثيرون، إن على أمل تفكك هذه الدولة العنصرية، أو على المراهنة على انتصار التيار الإنساني إن كان موجوداً وحصل على أغلبية، وقبل التعايش مع أصحاب الأرض الفلسطينيين .

يكتب دوبريه: “توجد إسرائيلان . أكثر من اثنين من دون شك، ولكن إسرائيلان، على الأقل . منذ البدء . مملكة “إسرائيل” في الشمال ومملكة يهودا في الجنوب . ( . . .) توجد تل أبيب والقدس، العلمانيون والمتدينون، المستوطنون والمعادون للاستيطان . يوجد رابين وقاتل رابين . . .” .

أي حل في مجتمع “إسرائيلي” يعاني من سطوة الدّين إلى درجة قل نظيرها في الثقافات والشعوب الأخرى؟

يكتب دوبريه، مقترحا الحل الأوحد لكل الأزمة، التي تعرفها الدولة “الإسرائيلية” الدينية: “مثلما لا نقرر في أحداث تقع، ولكن بإمكاننا، دائماً، أن نمنحها معنى نريده، نحن . إننا لا نستطيع أن نغيّر شيئا في مُولّدينا ( في منْ ولَدَنَا)، لكننا نستطيع دائماً أن نغير آباءنا من خلال اختيار من يُضاعف حظوظ حياتنا من بينهم . إن اختيار من أُمسكُ به والانطلاق إلى المكان الذي أريد الذهاب إليه ونحو من أريد أن أشبهه، هو شاطئ حريتنا، وهو خشبة خلاصنا” .

هل استطاع ريجيس دوبريه أن يقنع أحدا؟ خصوصاً من “الإسرائيليين”؟ لا يمكن أن نعرف على وجه الدقة، خصوصا في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الدولة الصهيونية، وبعد جريمة أسطول الحرية من أجل غزة . في لحظات “إسرائيل” الحالكة يعرف اليهود كيف يتحدون، وها نحن نراهم يقفون خلف جيشهم “الإرهابي” الذي ارتكب مذبحة في المياه الدولية وعلى أرض تركية، فعلم السفينة هو رمز لسيادة مالكها .

أصوات نشاز تخرج من هنا وهناك، لا تكون فرقة موسيقية متكاملة، أو ليس الآن .

ولكن يبقى أن ريجيس دوبريه الذي تحاشى من قبل ونأى بنفسه عن هذا الموضوع اللاهب، سيجر على نفسه وعلى رسالته إلى صديقه “الإسرائيلي”، عداء الكثيرين من أصدقائه اليهود، من فرنسيين و”إسرائيليين”، الذين لا تعجبهم الحقيقة، خصوصاً إن كانت مُرّة . وستبقى الحكمة “الصديق من صدَقَكَ وليس من صدّقك” بعيدة المنال .

هو كتاب ضروري من كاتب ومفكر لا يُشكّ في نزاهته ولا في قيمته الفكرية في المشهد الفكري الفرنسي . “كتاب بألف”، كما يمكن أن يوصف .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 31 / 2178897

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2178897 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 27


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40