السبت 15 أيلول (سبتمبر) 2012

الفلسطينيون بعيون لبنانية

السبت 15 أيلول (سبتمبر) 2012

يختلف اللبنانيون، في العادة، ولا سيما أهالي جبل لبنان، على كل شيء تقريباً. ولعل منشأ هذا الاختلاف هي العصبيات القديمة الموروثة منذ زمن عدنان وقحطان، وقبيلتي مضر ونزار، والقيسية واليمنية، ثم الجنبلاطية واليزبكية... وهكذا. إنها تقاليد سكان الجبال أينما حللت في المشرق العربي. وهذا الأمر، في بعض جوانبه، برهان أكيد على أن اللبنانيين عربٌ أقحام بلا ريب؛ فقد اختلفوا في الزمن الغابر على الاسكندر المقدوني، فوقفت صور إلى جانبه وقاومته صيدا. واختلفوا في العصر القريب على إبراهيم باشا المصري إبان حملته على الشام؛ فبعضهم تحالف معه، وبعضهم الآخر قاتله؛ وكان من جراء ذلك أن قام نظام القائمقاميتين. ثم اختلفوا على هذا النظام نفسه، ففرضت عليهم الدول الست الكبرى نظام المتصرفية الذي لم يكن جذاباً لكثيرين من سكان الجبل اللبناني. وعندما أعلن المؤتمر السوري العام الذي شارك فيه لبنانيون وفلسطينيون الأمير فيصل بن الحسين ملكاً دستورياً على سوريا في 8/3/1920، اختلف اللبنانيون بالطبع؛ فبعضهم رفع العلم العربي على سراي بيروت، وبعضهم طلب الحماية الفرنسية. وحينما أعلن الجنرال غورو دولة لبنان الكبير في سنة 1920 بعد معركة ميسلون التي هزم فيها الملك فيصل الأول، اختلف اللبنانيون مجدداً؛ منهم من رفض الانضمام إلى دولة لبنان الكبير، ومنهم من وافق بالطبع.

في سنة 1958 ظهر جمال عبد الناصر ومشروعه الوحدوي المعادي للأحلاف ولحلف بغداد بالتحديد، فانقسم اللبنانيون، وكان ذلك الانقسام سبباً في اندلاع معارك سنة 1958. وفي سنة 1968 حينما راح شبح الكفاح المسلح الفلسطيني يحوم في سماء العالم العربي انقسم اللبنانيون مجدداً؛ بعضهم احتضن الفدائيين بأهداب العيون وحدقاتها، وبعضهم ارتاب بالفلسطينيين وحركتهم الوطنية المسلحة.

لم يكن لدى اللبنانيين في سنة 1948 موقف موحد من اللجوء الفلسطيني إلى لبنان، مع أن الرئيس بشارة الخوري ووزير خارجيته حميد فرنجية اتخذا موقفاً مشرفاً آنذاك. لكن، من يعود إلى وثائق الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين يكتشف أن كثيرين من السياسيين والأعيان ورجال الأعمال ورجال الدين والصحافيين كان لهم علائق وثقى بالوكالة اليهودية، وهؤلاء تلقوا منها الأموال، وباعوا لها الأراضي في فلسطين، ونشروا في جرائدهم مقالات مدفوع ثمنها دفاعاً عن الحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين.

وفي الجانب الآخر كان ثمة موقعان طالما ترددا في الأدب الفلسطيني ولا سيما في الرواية والسيرة الذاتية هما: بنت جبيل وبركة رميش. ويمكن العثور على ذكر لهذين الموقعين في سيرة حسين لوباني العذبة والمعذَّبة والموسومة بعنوان «رحلة العذاب» (بيروت: دار العلوم العربية، 2006)، وفي رواية «لحظة هاربة» لمروان عبد العال (بيروت: دار الفارابي، 2008). ولعل بركة رميش وبنت جبيل تختصران جانباً من الصورة الملتبسة لعلاقة اللبنانيين بالفلسطينيين، وهي صورة متسربلة بالإلغاء أو بالجهل في معظم الأحيان. ونحن جميعاً نعرف ما فعلته الحرب الأهلية باللبنانيين والفلسطينيين معاً. فهناك فلسطينيون لم «يدعسوا» الأشرفية مرة واحدة طوال عمرهم إلا بعد السلام الأهلي الذي جلبه «اتفاق الطائف». وهنالك اللبنانيون الذين لم يلتقوا مسلماً واحداً إلا بعدما هبطوا مدينة بيروت بُعيد توقف الحرب الأهلية، وراحوا يتجولون ذاهلين في رأس بيروت والأحياء المحيطة، واكتشفوا أن المسلم مثل المسيحي تماماً.

ما قصة رميش وبنت جبيل؟

في «رحلة العذاب» التي بدأت في لهيب تموز ـ أرغمت «الهاغاناه» الفتى حسين لوباني على الخروج من قريته «الدامون» والسير تحت الشمس القائضة في طريق مضنٍ إلى سخنين وإلى وادي سلامة حيث أقام مع عائلته في العراء أربعين يوماً، ثم إلى الرامة فالبقيعة فإلى ترشيحا وسحماتا وحرفيش ودير القاسي حتى أشرفوا على قرية رميش اللبنانية بعدما شارفوا على الهلاك. لقد استغرقت رحلة التيه الفلسطيني هذه نحو أربعة أشهر. ويروي حسين لوباني فيقول: «في ـ دخولنا قرية رميش حفاة، شبه عراة، نتضور جوعاً ونلتهب عطشاً، ولا مسعف أو مغيث. صرنا نفتش عن الماء فعزَّ الماء حتى بثمنه. وصار بعضهم يشير إلى بركة ماءٍ آسن تتوسطه جثة خنزير ميت، وقالوا لنا: هذا ماء فاشربوا. وبالطبع لم نشرب. وعجبنا لمثل هذه المعاملة السيئة. غادرنا رميش وتابعنا رحلة العذاب. فصعدنا تلالاً وهبطنا أودية لنصل أخيراً إلى بلدة عامرة بالسكان اسمها بنت جبيل. وفوراً أخذت أفتش عن الماء بصحبة والدي. فتشنا وسألنا فلم نحظ بالماء. فقال لي والدي: تعال يا حسين. زمطنا من رصاص اليهود وهون بدنا نموت من العطش. فسمعتْ إحداهن حديث أبي، وكانت تجلس على عتبة بيتها، فأشارت إليّ: تاع يا صبي. فذهبت، فقالت لي: شو اسمك؟ فقلت حسين. فقالت يا شحاري. وأكملتْ: وهديك الرجال بيّك؟ فأجبت: نعم. فسألتْ: وشو اسمو؟ فقلت علي. فصرخت بصوت عالٍ. يا شحار شحاري. وقف عندك يا قباري. وتابعت: يا شحاري هو حسين وبيو علي، راح يموتوا من العطش. وأحضرت لنا إبريق ماء، فشربت وشرب أبي وأعطتنا الإبريق بكامله بعدما ملأته بالماء من جديد. وعلق والدي قائلاً: ماذا كانت ستفعل هذه المرأة لو عرفت أن اسم زوجتي خديجة، واسم ابنتي فاطمة، واسم ابني الثاني محمد»؟.

توجز هذه الحادثة، برمزيتها الانقسام اللبناني حيال الوجود الفلسطيني. فاللبنانيون وقفوا وقفات متعاكسة من اللاجئين ومن العمل الفدائي في سنة 1968 فصاعداً. وربما نعثر على جذور هذه المواقف المتعاكسة في المرض المذهبي بالدرجة الأولى، وفي الخوف من طغيان أعداد بعض الطوائف، أو في لوثة الارتياب من الغرباء، أو في الخوف من التبعات الأمنية المترتبة على قيام إسرائيل وعلى اللجوء الفلسطيني معاً. ولا ريب في أن بعض هذه المخاوف مشروع بالتأكيد، إذا أخذنا في الاعتبار الصيغة اللبنانية آنذاك وتوازناتها الهشة.

إذا كان ثمة شك في الاستنتاج فإن ما لا شك فيه أن الدولة اللبنانية، في تلك الحقبة، كانت، دولة ناشئة وذات سلوك حذر. فما إن طوى الزمان عهد الرئيس بشارة الخوري الذي وقف أمام اللاجئين في صور مخاطباً إياهم بالقول: «أدخلوا، أهلاً بكم في بلدكم لبنان»، وما إن طوى الزمان نفسه عهد وزير الخارجية حميد فرنجية الذي قال أمام مجلس النواب اللبناني في 12/5/1948: «سنستقبل اللاجئين الفلسطينيين مهما كان عددهم (...)، ولا يمكننا ان نحجز عنهم شيئاً (...)، وما يصيبنا يصيبهم، وسنقتسم في ما بيننا آخر لقمة من الخبز» حتى كانت جهات أمنية تبدأ بـ«قش» اللاجئين من المناطق المحاذية للحدود الفلسطينية، وترغمهم على التوجه شمالاً، وتمنعهم من التسلل عائدين إلى قراهم، وما إن استقرت الحال لاحقاً في معازل تدعى المخيمات، حتى شرع الفلسطينيون في رحلة جديدة من النضال القاسي في سبيل انتزاع الحق في بناء حائط ارتفاعه متر واحد ليتيح للفلسطيني أن يسند ظهره، وأن يتقى غضب المياه الهاطلة قليلاً والجارية. ولاحقاً أيضاً، ناضل الفلسطيني سنوات ليحظى بالحق في رفع حوائط خيمته قليلاً ووضع سقف فوقها؛ سقفٍ من ألواح «الزينكو» التي كانت حبات المطر تعزف فوقها ألحان المقارع المزعجة في الشتاء، وتتحول إلى صفائح لاهبة في الصيف.

كان الفلسطيني في عيون اللبنانيين على صور وهيئات شتى. إنه اللاجئ التاعس والعاثر لدى البعض. وكان في نظر البعض الآخر مسؤولاً عن لجوئه وتعاسته لأنه باع اليهود أرضه، فهو، والحال هذه، لا يستحق أي معونة، وكان الفلسطيني سنياً في المحيط الشيعي ومسلماً في الإطار اللبناني. وحتى الفلسطيني المسيحي كان يُنظر إليه في الوسط المسيحي على أنه غريب، فهو ليس من كسروان أو من جبة المنيطرة في نهاية المطاف.

أما الصورة التي أهال كثيرون الركام والتراب عليها فهي صورة الفلسطيني المتمدن والمكافح الذي كان من الرواد والأوائل في لبنان، وكان له شأن مشهود في ازدهار لبنان وعمرانه. لقد تناسوا، أو أنهم يجهلون، إن أول فرقة للرقص الشعبي في لبنان أسسها الفلسطينيان مروان جرار ووديعة جرار، وأول شركة لتوزيع الصحف كانت شركة فرج الله، وهو فلسطيني. وأول شركة للتأمين في لبنان أسسها الفلسطينيان باسم فارس وبدر الفاهوم. ولمع من بين هؤلاء الفلسطينيين في مجال الأعمال كل من حسيب صباغ وسعيد خوري ورفعت النمر وزهير العلمي ومحمود ماميش، وفي مجال الفن والثقافة كل من عبود عبد العال وحليم الرومي وبول غيراغوسيان وجوليان سيرافيم وناجي العلي ونبيل خوري.

إن واحدة من مشكلات علاقة الفلسطينيين باللبنانيين هي الإغفال القصدي لصورة التمدن الفلسطيني، والتركيز على صورة الفلسطيني الخارج على القانون، مع أن معظم المخيمات الفلسطينية، إذا استثنينا واحداً أو اثنين، لا يمكن أن نرصد فيها حتى مشكلة واحدة، وجميعها يعيش بهدوء لافت.

[rouge]-[/rouge] [bleu]رامي حكيمة | ملحق «فلسطين» | «السفير».[/bleu]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2178135

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178135 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 23


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40