الأحد 20 حزيران (يونيو) 2010

نفاق ومعايير مزدوجة

الأحد 20 حزيران (يونيو) 2010 par د. عبد الاله بلقزيز

لكي يأخذ المرء فكرة أولية وعامّة عن النفاق في السياسة الدولية، وازدواجية المعايير، وفقدان الحدّ الأدنى من المروءة والأخلاق، يكفيه أن يقرأ بعض مفردات تلك السياسة على لسان من يمثلون السياسة الدولية، في مناسبة سياسية كانت امتحاناً لهم وللأخلاق السياسية لدولهم وحكوماتهم، هي (مناسبة) الجريمة الصهيونية ضد أسطول الحرية في عرض المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط .

صرَّح البيت الأبيض أن رئيسه أوباما أصيب بـ “صدمة” من جرّاء نتائج تدخّل البحرية “الإسرائيلية” لمنع السفن من الوصول إلى غزة . لم يتخذ موقفاً سياسياً: لم يُدِنْ أو يستنكر أو يشجب أو يحمّل “إسرائيل” المسؤولية عن انتهاك القانون الدولي وقانون البحار، وإنما عبّر عن شعورٍ محايد أقلّ دلالة من مشاعر الغضب والاستهجان والاحتجاج هو شعور الصدمة . على أن أوباما ما أصيب بالصدمة، على ما يفيدنا تصريح البيت الأبيض، لأن “إسرائيل” هاجمت المتضامنين في المياه الدولية واعتدت عليهم وعلى القانون الدولي، وإنما صُدِم لأن العملية انتهت بقتلى: كما لو أنها مشروعة لو لم تتلوث بدماء المدنيين المتضامنين .

حدَّد رئيس أمريكا سقف الردّ الدولي المسموح به على الجريمة الصهيونية، فكرَّت السبحة: الحكومة البريطانية مصابة بالصدمة، وبان كي مون، أمين الأمم المتحدة العام مصدوم، وطوني بلير مبعوث “اللجنة الرباعية” مصدوم . أما فرنسا، فتكتفي من الأمر بالقول إن ما فعلته “إسرائيل” غير مقبول! لا أحد منهم يملك موقفاً سياسياً من النازلة، لأن أحداً من هؤلاء لا يملك قراره . ولو أن أوباما امتلك قليلاً من الشجاعة السياسية والأخلاقية فوصف ما جرى بأنه انتهاك للقانون الدولي (لأنه حصل في المياه الدولية)، لتسابق هؤلاء إلى إعلان مواقف سياسية أكثر وضوحاً من همهمات الصدمة، أي مفردات تنتمي إلى علم السياسة والعلاقات الدولية لا إلى علم النفس .

لم يقف النفاق عند هذا الحدّ، وإنما بلغ مستوى فضائحياً في حالين من حالات التعبير عنه: في مجلس الأمن، وفي مطلب التحقيق الدولي في الجريمة .

لم تسمح الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها بمناقشة الجريمة في المجلس على قاعدة مشروع قرار، وإنما رمت بالثقل والابتزاز قصد حصر الموقف في نطاق بيانٍ رئاسي لتخفيف وطأته القانونية على الكيان الصهيوني، ووجدت لموقفها سنداً من حلفائها . وما كانت المشكلة فقط في خفض مستوى مقاربة الجريمة (من قرارٍ إلى بيان)، وإنما أيضاً في إصرار إدارة أوباما ومندوبها على عدم إدانة “إسرائيل” أو استنكار جريمتها في بيان المجلس . فكان ذلك حيلة ناجحة لتطويق حال الحنق العالمي على الجريمة الذي دان بربرية الدولة العبرية وفضح استهتارها بأرواح البشر وقيم العالم الحديث وقوانينه المعاصرة . ومثل العبارة الغبيّة والماكرة (الصدمة) التي أريد بها رسم سقف للاعتراض، أريدَ بمضمون بيان المجلس أن يكون منتهى الكلام المشروع عن واقعة الجريمة .

ولقد كان رئيس أمريكا أوّل مَن وعد رئيس وزراء تركيا، رجب طيب أردوغان، بتحقيق دوليّ نزيه في ما حصل . وتلقف منه الوعد كلٌّ من أمين عام الأمم المتحدة العام ورؤساء الدول والحكومات الغربية . ثم نوقش أمر التحقيق، ونُصَّ عليه، في بيان مجلس الأمن، لكن جميع من تحدّث عن التحقيق الدولي بلع لسانه حين أعلنت الحكومة الصهيونية عن رفض فكرته، ولم يردّ أحد بالقول إن رفضها تحدٍّ للمجتمع الدولي ولإجماع أعضائه، بل شهدنا ما يُخجل أكثر: فقد تبرَّع عليها أوباما بالتسليم لها بالحق في تحدّي المجتمع الدولي، وتحدّيه هو شخصياً، من طريق التسليم لها بالحق في إجرائها تحقيقاً منفرداً ومن جانب واحد! أما منتهى ما طلبه منها، فهو أن يلتزم تحقيقها بالمعايير الدولية . وعلى المرء أن يكون حقيراً وغبياً حتى يصدّق أن في وسع المجرم أن ينجز تحقيقاً عادلاً يدين جريمته بمعزل عن الضحية والشهود والقاضي .

لا نِفاق أكبر من هذا النفاق في السياسة الأمريكية والسياسات الغربية . تقوم دولة خارجة عن القانون (هي “إسرائيل”) بالقرصنة في المياه الدولية من دون أن يسائلها أحد، وتهاجم مدنيين عزّل من جنسيات مختلفة، فتغتال منهم من شاءت، وتجرح مَن جرحت، فلا يجد نائب أوباما ما يصف به الجريمة إلا أنها “دفاع عن النفس” . حتى التحقيق الدولي يُرفع عنها إحراجُه ويُطوى أمرُه .

هل كلّ ذلك لأن الدم التركي رخيص؟ لا بأس من طرح السؤال بطريقة أوضح: ماذا لو كان على ظهر السفن مواطنون أمريكيون متضامنون بالعشرات؟ ماذا لو كان الشهداء التسعة قتلى أمريكيين؟ هل كان بايدن سيعتبر الجريمة “حقاً” من حقوق “الدفاع عن النفس”؟ هل كان أوباما سيكتفي بمطالبة “إسرائيل” بإخضاع “تحقيقها” الخاص للمعايير الدولية؟ بل هل كانت إدارته ستقبل بمجرد بيان رئاسي في مجلس الأمن؟ وهل كان الغرب كلّه سيتصرف تجاه الكيان الصهيوني بالليونة والميوعة التي بهما تصرّف؟ أسئلة برسم التفكير في النفاق وازدواجية المعايير .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2165485

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165485 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010