الأحد 20 حزيران (يونيو) 2010

بلجيكا : حدث تافه أم مثقل بالدلالة؟

الأحد 20 حزيران (يونيو) 2010 par د. نهلة الشهال

وقع الاقتراع النيابي البلجيكي وسط انطلاق مباريات كـــأس العالم، فخفضت هذه من القدرة علــــى التركيز عليه. ثمة رأي آخر يقول إن بلجيكا بلـــد صغير (عشرة ملايين)، وهــــو جديــــد ومصطنع التكوين (هذه سمعناها بمناسبة بلدان أخرى... في منطقتنا)، فبركه الانكليز (هم مجدداً!) عام 1831، ليكون مصدة بينهم وبين ألمانيا وفرنسا (حسب رأي بعض غلاة القومية الفرنسية الذين يكرهون بالمقدار نفسه الانكليز والألمان، وربما يفركون أيديهم فرحا لاحتمال استعادة مقاطعة «والونيا» الفرنكوفونية الغنية).

بينما يقول آخرون إن الأزمة تعتمل منذ عقود، بلا قدرة على إيجاد توافقات تصلِّب من عود وحدة البلاد، وبالتالي فما جرى فـي الانتخابات الأخيرة من تقــــدم قوي للانفصـاليين، على درجاتهم، كان أمراً متوقعاً، و«طبيعياً». هؤلاء حصـدوا معاً 56 في المئة من الأصوات في مقاطعة الفلاندر، بينما نال «التحالف الفــــلامنكي الجديد» وحده 30 في المئة من الأصوات، وسيحتل 27 مقعداً من أصل مائة وخمسين هي عدد مقاعد البرلمان الوطني. والتحالف يفضل صفة «الاستقلالي» على «الانفصالي»، وهو يتكلم عن «مسار هادئ وبلا مأساة» نحو هذه النتيجة.

نجح بارت دو ويفير في التحول إلى السياسي الرقم واحد في البلاد، وهو شاب لم يبلغ الأربعين، وقد أسس هذا الحزب على أنقاض حزب «وحدة الشعب» المتطرف. وبينما لم ينل في الانتخابات الأولى نسبة الـ5 في المئة التي تمكنه من الوجود في البرلمان، راح يصعد إلى أن وصل إلى النتيجة الحالية في أقل من عقد. وهناك إجماع بأن خصال الرجل، وقدراته الذاتية قد لعبت دوراً أساسياً في تحقيق هذا التقدم. ولعل مثال التصريح التلفزيوني لدويفر بعد فوزه الانتخابي من أن بلجيكا بلد صغير، وأن مصيرها لن يغير وجه الكون، مضيفاً - وهو بيت القصيد - أنها ستختار بالتالي الأفضل لها من دون اعتبارات أخرى، يوفر صورة عن تلك القدرات التي ينعتها البعض بالمراوغة فيما يتكلم آخرون عن المرونة.

المهم أن ذلك يعني، في ما يعنيه، أن التقليل من «دور الفرد في التاريخ» ثقافة (ماركسية مبتذلة؟) في غاية الخطورة، لأنها تتسبب بخطأ التحليل والتوقع... دون أن يؤدي هذا الإقرار إلى اعتماد السذاجة المقابلة، وهي في غاية السطوة.

كما تعني دلالات نسب التصويت تلك، ثانياً، أن السكان في المقاطعات مختلطون، وهي الحال في كل مكان من العالم: هل لنا استعادة مشاهد انفصال باكستان عن الهند، وقوافل الهجرة في الاتجاهين، والمآسي التي صاحبتها. وعلى رغم ذلك، بقي في الهند ما أصبح اليوم أكثر من مائة مليون ونيف من المسلمين! وهناك مثلا في بلجيكا بلديتان لصيقتان بالعاصمة بروكسيل، أغلبية سكانهما من الفرنكوفونيون، ولكنهما ألحقتا بالمقاطعة الفلاندرية في ستينات القرن الفائت. ويقال أن 90 في المئة من سكان بروكسيل فرنكوفونيون، ولكن هذا ناتج عن تحول النخبة إلى الفرنسية، كلغة ثقافة وكلغة عالمية، وهو ما جرى تدريجاً، بينما بروكسيل فلاندرية تاريخياً!

مآخذ الفلاندريين على اشقائهم الفرنكوفونيين تتعلق بنسبة مساهمتهم في الموازنة العامة للبلاد، التي يجدون أنها تفوق ما ينبغي أن تكون عليه. ويتكلم غلاتهـــم بلا تردد عن «إعالة» الوالونيون، متناسين أن هؤلاء هم من أسسوا بعض أهم مناطــــق ازدهــــار المقاطعة الفلاندرية، وأنهم تاريخياً كانوا أكثر غنى منهم. ولكـــن الحقيقة هي غلبــــة مقاربات سياسية واقتصـــــادية واجتماعية متناقضة بين المقاطعتين. فبينما يفوز تقليدياً الحزب الاشتراكي في المقاطعة الفرنكوفونية، يسيطــــر اليمين، ومنه المتطرف، على اتجاهات المقاطعة الأخرى التي تتفاخر نخبتها بأنهم «صناعيون» ويعملون بجد، ويريـــدون خفض نسبة التقديمات الاجتماعــــية وفـــق منطق مغالٍ في الليبرالية، فيتوقعون بذلك توفير 22 مليار يورو على موازنة الدولة، فيما نظراؤهم الفرنكوفونيون من الحزب الاشتراكي الأغلبي في المقاطعة الجنوبية، يريدون زيادة 7 مليار يورو على ميزانية التقديمات الاجتماعية. وفي السياق نفسه، تسعى الأحزاب الفلاندرية الفائزة لتعديل قوانين نهاية الخدمة حزفاً لكثير من تقديماتها، كما تدافع عن قوانين للهجرة صارمة، تداني العنصرية... مما يعني ثالثاً أنه غالباً ما تقف مصالح رنانة، أرضية بامتياز، خلف الشعارات الشعبوية، المعتدة بقومية ما غالية على القلوب، مستندة إلى الاختلاف اللغوي أو العرقي أو الطائفي... وإن كان ذلك لا يلغي المشكل.

بل إن رزمة أخرى من المشكلات تفرض نفسها. فإذا كانت إعادة التشكيل البنيوي لبلد من بلدان أوروبا الغربية «القديمة» ممكنة، فلنا أن نتخيل الاحتمالات التي يفتحها هذا المسار. فتشكّل إيطاليا، مثلا، على أساس دولة قومية حديثة مندمجة، ليس سحيقاً في القدم، ومواقف «رابطة الشمال» تشبه إلى حد بعيد الخطاب الفلاندري. ولا نتطرق إلى اسبانيا، حيث أول ما يجب أن يلتزم به محاضر من خارج البلاد، تفترض به قلة المعرفة بحساسياتها، هو دعوته بلطف هامس من قبل منظمي محاضرته إلى استخدام تعبير «الدولة الاسبانية» وليس اسبانياً فحسب. فتلك الأولى توافقية ومحدودة الدلالة! وهذا يتم عادة مراعاة للموقف الكاتالاني وليس الباسكي الممعن في مطالب «استقلالية». بل يمكن الوقوع على نزوعات مماثلة في فرنسا نفسها، وهي الطليعية في تحقيق الاندماج الوطني على أساس الدولة - الأمة: هناك الكورسيكيون، الذين يثيرون مشكلة جدية وقد كانت عنفية حتى أمس قريب، ولكنْ هناك أيضاً «البروتونيون»، إلى آخـر لائحة قد تبدو كاريكاتورية ولكنها ليست خيالية. هذا إذا لم نتطــــرق إلى المشكلات التي تثيرها تكوينات أخــرى أكثر جدة، وبالتأكيد أكثر غربة عن بلدانها الجديدة لألف سبـــب وسبب، ككتل أبناء المهاجرين من المسلمين على سبيل المثال. مما يعني أن هذا المشكل عالمي، ولا يخص بلداناً «متخلفة» فحســـب، تعجز عن تحقيق توافقــــات سياسية تتعلق بشروط العيش المشترك في مجتمعات لا وجود للنقاء العرقي أو الديني أو اللغوي في أي منها... لأنه ببساطة غير موجود في أي مكان من العالم.

وأخيرا يثير الحدث البلجيكي ملف «أوروبا» ككيان في طور التشكل. ليس فحسب لأن بروكسيل هي عاصمته - وقد تغدو تلك صفتها الرئيسية بل الوحيدة!- بل لترابط هذا التشكل مع البعد الاقتصادي، وهو أساسي، وقد برهنت عليه الكيفية التي أديرت بها أزمة اليونان، وما تكشفت عنه.

وهذا للقول في نهاية المطاف إنه لا توجد صيغ سحرية للمجتمعات البشرية، وإن قيم التسامح والتعاضد وتقاسم الرؤى المشتركة، الانسانوية حكماً، علاوة على العقلانية الإجمالية هي الأخرى، حتى لا نقول الغيرية (بخلاف العقلانية المباشرة، القصيرة النظر لأنها ضيقة وحسابية)، هذه القيم ليست شعراً وعواطف ساذجة، بل ضرورة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2165661

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165661 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 27


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010