الثلاثاء 23 نيسان (أبريل) 2013

في تأصيل الفولكلور وتعقيدات انتحاله

الثلاثاء 23 نيسان (أبريل) 2013

ليس هناك شيء أكثر استفزازاً للعرب والمسلمين، في الشرق الأوسط خاصة، من التنازع على عائدية بعض الموروث الشعبي والثقافي مع “إسرائيل”. وقد اثار هذا النوع من المنازعات والخلافات العديد من المعلقين والكتاب العرب والإسرائيليين على حد سواء، وكأن الموروث مسجل باسم مجموعة بشرية حسب، ولا يحق لأحد من سواها التمتع بها والإفادة مما تقدمه.
قبل بضعة أعوام تتبعت فيلماً أميركياً من بطولة ممثل يهودي كوميدي. وقد لفت انتباهي تندر الفيلم والممثل ذاته، من إيحاء سفرة قام بها إلى إسرائيل، بطبق “الحمص” أو “الحمص بطحينة” كما يسميه البعض في المشرق العربي. وأصل التندر ينطلق من شيوع هذا الطبق في إسرائيل كوجبة يومية قد تكون ثلاث مرات باليوم الواحد أحياناً. ويبدو أن السائح الأميركي قد ملَّ من تناول “الحمص” و“الفلافل” بعد أن اعتاد الهامبرغر والكنتاكي في أميركا، درجة أنه راح يستهزئ بهذه الأطباق الشائعة في إسرائيل حتى أنه دخل “حرب دمى” مسدسات وبنادق لا ترمي الماء على الخصم وإنما ترمي الحمص الثخين على الخصوم، كناية عن المبالغة في تناول الحمص! هذا النوع من التندر بالأغذية يزعج الفلسطينيين وإخواننا الشاميين في سوريا ولبنان والأردن عامة لأنهم متمسكون بهذا الطبق بوصفه تراثا فلسطينيا أو شاميا لا ينازعهم عليه أحد. ويبقى السؤال الأكثر صعوبة على الإجابة: كيف يمكن لنا تأصيل هذا النوع من الموروث “الثقافي”، أعربي هو أم يهودي؟ وتنطبق ذات الحال على العديد من الأطباق العراقية التي أشاعها يهود العراق في القدس وحواليها، بغض النظر عن سمنتها وتسببها بسوء الهضم والكوليسترول. للمرء أن يتوقع نزاعاً رسمياً بين العراقيين والإسرائيليين في المستقبل المنظور حول موضوع ابتكار طبق “الباجة”، خاصة بعد أن تناهت الأخبار من الداخل الإسرائيلي بشعبيتها وتهافتهم على تناولها بشكل مكثف.
وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه الأسئلة تبقى مدعاة للتندر والاستهزاء، كما هي عليه حال موروثات أخرى كالموسيقى والحكايات وحتى الرقصات و “الدبكات”، خاصة عندما يأتي الأمر إلى الإسرائيليين. لقد كان العراقيون يشعرون بالاستفزاز والانزعاج عندما كان يقدم برنامج إذاعي من إذاعة إسرائيل في ستينيات وسبعينيات القرن الزائل بعنوان “ابن الرافدين” يبدأ المعدون البرنامج وينهونه بمقطوعات موسيقية من “الجالغي البغدادي” إضافة إلى عدد من قراءات المقام العراقي البديعة. ومرد ذلك هو أن اليهود العراقيين كانوا قد بزوا سواهم من الجماعات السكانية العراقية في قراءة المقام وفي العزف على الآلات التراثية المستخدمة لمرافقة هذه القراءات. وهكذا تبقى مسألة تأصيل الفنون الشعبية مثاراً للجدل خاصة عندما يتصل الموضوع بالإسرائيليين. ومثل هذه الحال تنطبق على العديد من الألحان والأغاني المصرية حيث بقي اليهود المصريون الأصل متمسكين بها ويطربون عليها كلما حانت مناسبة اجتماعية. وهذه الحال تثير شيئاً من الشجون عند العراقيين عندما يكتشفون، على حين غرة، أن أجمل الألحان والأغاني العراقية الحديثة إنما كانت من إبداع الفنان العراقي المرحوم صالح الكويتي الذي اكتسب هذا اللقب من فترة سنوات قضاها في الكويت.
الطريف في الأمر هو أن أغانِي وألحانا رائعة من نوع “خدري الشاي خدري” و “على شواطي دجلة مر” هي من إبداعات هذا الفنان اليهودي الذي استقر به الحال حزيناً مكدوماً في إسرائيل بعد اضطراره للهجرة إليها، أي إلى حيث لا يتذوق أحد أغانِ مثل “خدري الشاي” لأنهم جميعاً هناك مجموعون من الشتات: هناك اليهود الآتون من روسيا وبولونيا ودول أوربا الأخرى، ومن الهند وشمال إفريقيا، بل وحتى من إثيوبيا والحبشة. وقد أسهمنا، تحت عنوان الوطنية، بتعميق طمس هذه الفنون حيث بقيت اعمال صالح الكويتي الإبداعية تبث من الإذاعة والتلفاز باعتبارها “من التراث الشعبي”، تجنباً لذكر اسم رجل يهودي.
ويبقى السؤال المهم، هل أن إصدار شهادة الجنسية لسندباد أو لصحن الحمص أو لأغاني “سليمة مراد” هو من الإجراءات الضرورية للحكومات في عالمنا الشرق أوسطي الحبيس بصومعة حلم الأسلاف الخانق وغير الحاث على الحركة والتقدم؟ وعلى المبادرة الحضارية؟
اذا ما قدم الجناح “الإسرائيلي” في معرض تجاري دولي بأوروبا الخيمة البدوية والملابس البدوية بوصفها تراثاً إسرائيليًّا (من صحراء النقب)، هل ينبغي أن ننزعج ونحتج لأن الإسرائيليين “ينتحلون” تراثنا ويستخدمون دبكاتنا وألحاننا لتشجيع السياحة إلى “إسرائيل”، بينما لا نفعل شيئاً ينطوي عن الاستخدام المتطور للتراث المحلي كي نجتذب السياح من أوروبا وأميركا الشمالية وسواها من أقاليم هذا العالم الشاسع. الإسرائيليون لا يبذلون جهداً كبيراً لتوظيف التراث العربي الفلسطيني لخدمة مصالحهم الاقتصادية، ويعدون موضوع التأصيل من مسببات الصداع التي لا تستوجب الجهد. هم يستخدمون التراث الفلسطيني عند الحاجة بطريقة براغماتية صرف.

- أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2176750

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع نشاطات  متابعة نشاط الموقع متابعات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2176750 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40