السبت 1 حزيران (يونيو) 2013

كتاب كرّاس حول المقاومة للأخ منير شفيق

السبت 1 حزيران (يونيو) 2013

كراس حول المقاومة

- في موضوع المقاومة
- مشروعية المقاومة قومياً، وطنياً ووفقاً للقانون الدولي
- بين المقاومة والإرهاب
- بين المقاومة السلمية والمقاومة المسلحة
- فقه القتال
- العمليات الاستشهادية
- بين المقاومة والإرهاب
- ملحوظات عامة حول الإرهاب
- حول شروط الخروج
- القضية العادلة والاستراتيجية القوية وكسب الرأي العام
- تجربة المقاومة من مخيم جنين إلى الفلوجة
- تعريف الاحتلال
- أشكال النضال والجهاد والمقاومة

مقدمة

ما من احتلال إلا واقتحم البلاد التي احتلها بالقوة المسلحة، وما من احتلال إلا بسط سلطانه من خلال القوات العسكرية من أجل بقائه واستمراريته، لذلك تعذر إنهاء الاحتلال في أغلب الحالات إلا من خلال المقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية السلمية بمختلف أشكالهما.
البعض يستشهد بمثال الهند التي استطاعت التخلص من الاستعمار البريطاني من خلال المقاومة السلمية غير العنفية التي نظّر لها وقادها المهاتما غاندي، ولكن هذا الاستثناء، تقريباً في تاريخ مقاومة الاحتلال عن طريق مبدأ الكفاح اللاعنفي يجب أن يأخذ في الاعتبار ثلاث حقائق الأولى أن المقاومة السلمية لم تنجح إلا بعد مضي أكثر من مائتي عام على الاحتلال البريطاني وبعد أن خرجت بريطانيا من الحرب العالمية الثانية منهكة متهاوية، والثانية يجب أن يؤخذ في الحساب ضخامة حجم الهند فهي شبه قارة وكثافة سكانها كانوا يُعدون بمئات الملايين مقابل جنود احتلال من عدة آلاف، وبضع عشر ألفاً، والثالثة كان إلى جانب حركة غاندي مقاومة مسلحة محدودة بلا تنسيق وإياه وقد ساعدته بطريقة غير مباشرة.
على أن غالبية الحالات التي ابتليت بالاستعمار والاحتلال العسكري المباشر لم تجد أمامها، وبعد يأس من استخدام الأساليب السلمية واللاعنفية غير اللجوء إلى السلاح والمقاومة. ولعل من عجائب الموقف الأمريكي الذي يهاجم المقاومة المسلحة الفلسطينية للاحتلال كان شعبه من أوائل الشعوب التي ابتليت بالاحتلال وانتهجت طريق المقاومة المسلحة لطرده. فالاحتفال بعيد الاستقلال الأمريكي هو ذكرى تخليص الولايات المتحدة من الاحتلال البريطاني عبر المقاومة المسلحة.
ويمكن أن يذكر هنا أن قادة لا عنفيين كانوا أقرب إلى نظرية غاندي في المقاومة وجدوا أنفسهم بعد أن أعياهم أسلوب اللاعنف، مضطرين للجمع بين المقاومة السلمية والمقاومة المسلحة. ومن هؤلاء المطران مكاريوس قائد تحرير جزيرة قبرص من الاحتلال البريطاني، كما الزعيم الجنوب أفريقي مانديلا، بل يجب التأكيد هنا أن كل كفاحات الشعوب بلا استثناء، بدأت سلمية ولاعنفية ولكنها كلها قوبلت بالقمع ووصلت إلى طريق مسدود مما اضطرها إلى اللجوء إلى المقاومة المسلحة. ويمكن أن تذكر بهذا تجربة الشعب الفلسطيني حيث لم تنطلق ثورة الشيخ عز الدين القسام إلا بعد أن بلغ اليأس مداه من استجابة الاحتلال البريطاني لمناشدات الحركة الوطنية الفلسطينية لوقف الهجرة، ونيل فلسطين الاستقلال، وبعد أن ضُربت مجموعة القسام التي أعلنت الثورة في 1934/1935، عادت الحركة الوطنية التي كان يقودها الحاج أمين الحسيني إلى التشديد على اتباع الكفاح السلمي واللاعنفي حتى وصل الأمر إلى إعلان اضطراب عام دام ستة أشهر. وهذا أطول إضراب يقوم به شعب بأسره. ويُعتبر أعلى أشكال الكفاح السلمي اللاعنفي لأنه عطّل الحياة العامة في وجه الاحتلال. وكان بمثابة العصيان المدني. ولكن بالرغم من ذلك وجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام الطريق المسدود فلجأ مرة أخرى إلى الثورة بعد إضراب عام 1936، وقد دامت الثورة المسلحة ما يقرب من الثلاث سنوات.
يلحظ في التجربة الفلسطينية أن الأسلوب الوحيد الذي كان يُجبر بريطانيا على تقديم التنازلات كانت المقاومة المسلحة حيث اضطرت من أجل وقف الثورة إلى إعلان “الكتاب الأبيض” وأن تخلت عنه بعد الحرب العالمية الثانية لتمضي قدماً في تنفيذ مشروع وعد بلفور بإقامة دولة عبرية في فلسطين.
وبكلمة أن استراتيجية المقاومة المسلحة كانت الاستراتيجية التي اتبعتها الغالبية الساحقة من أمم الأرض عندما رزحت تحت احتلال واستعمار مباشرين ويجب أن يذكر بهذا الصدد أن الدول الغربية الاستعمارية نفسها أقرّت مبدأ المقاومة ومشروعيتها من الاحتلال النازي والاحتلال الياباني في الحرب العالمية الثانية فقادة انكلترا وأمريكا والاتحاد السوفياتي (في حينه) قدموا كل تشجيع ومساعدة للشعوب التي قاومت الاحتلال النازي أو الياباني. والشعوب الأوروبية كلها وفي مقدمتها فرنسا وهولندا وبلجيكا تفتخر بأمجاد المقاومة التي خاضتها ضد الاحتلال النازي، وأن الأمر لكذلك بالنسبة إلى شعوب جنوبي شرقي آسيا التي قاومت الاحتلال الياباني.
وإذا كانت العشرون سنة التي تلت الحرب العالمية الثانية قد اشتهرت بمقاومة شعوب المستعمرات للاستعمار القديم من ثورة الماوماو في كينيا إلى ثورة الجزائر، ومن ثورة الصين إلى ثورة فيتنام الأولى ضد الفرنسيين، فإن ذاكرة شعوبنا احتفظت بصورة خاصة بمقاومة الشعب الجزائري للاحتلال الفرنسي، وقد قدم ثمنا لتحرير الجزائر وانتصاره حوالي مليونونصف المليون من الشهداء، كما بمقاومة شعب فيتنام ضد الاحتلال الأمريكي وقد قدم ثمناً لانتصاره عام 1976 أكثر من ثلاثة ملايين أغلبهم من المدنيين، ويجب أن يذكر صمود فيتنام الشمالية (التي حُررت عام 1954 أثر معركة “ديان بيان فو” الشهيرة) تحت القصف الأمريكي الذي هدم هانوي والمدن والقرى الرئيسية، والحق إضراراً بسبب القنابل الكيماوية بملايين الفدادين من الأرض والأحراش.
لقد أثبتت تجربة الجزائر وفيتنام، كما تجارب مختلف الشعوب أن لغة المقاومة المسلحة، وبالرغم من التضحيات والعقوبات الجماعية وأعمال الانتقام، هي اللغة التي يفهمها الاحتلال لا سيما حين يكون شديد الوطأة يستخدم العنف المفرط في الرد على مطالب الشعب بالاستقلال.
ولهذا عندما تأتي إلى الشعب الفلسطيني وما يواجهه من احتلال فسنجد أمامنا عدواً ليس كمثله استعمار أو احتلال أو كيان عنصري فهو في التطرف الأقصى في اعتماده على فرض نفسه بالقوة المسلحة، وهو في التطرف الأقصى في رفضه لكل القرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن والجمعية العامة، والأهم أن مشروعه يتعدى الاستعمار والاحتلال لأنه في أساسه يسعى إلى اغتصاب الأرض وتهويدها وإدعاء أحقيته بها، الأمر الذي يتجاوز ما عرف بالتمييز العنصر أو العزل العنصري (الأبارتايد) الذي عرفته جنوبي أفريقيا وناميبيا فهدفه اقتلاع السكان وإلقائهم خارج حدود فلسطين فهو لا يعترف بأنه احتلال، أو قوة استعمارية، أو كيان عنصري، ومن ثم يُلغي وجود شعب فلسطين وهويته وحضارته وحقوقه الأساسية كافة، الأمر الذي لا يترك مجالاً إلا للمقاومة ابتداء بمقاومة الاقتلاع وهذا لم يواجهه شعب من الشعوب، عدا الشعوب الهندية في أمريكا التي تعرضت للإبادة الشاملة. ومروراً، بمقاومة التهويد والحفاظ على الهوية الأساسية لفلسطين، كونها فلسطينية وعربية وإسلامية، وانتهاء وليس نهاية، في المرحلة الراهنة، أي مقاومة الاحتلال والاستيطان والتهويد رقم 2 فوق الأراضي التي احتلت في الخامس من حزيران 1967، وهذه هي المرحلة الثانية في المشروع الصهيوني بعد اغتصاب أكثر من 78% من الأرض واقتلاع غالبية أهلها وإقامة الدولة العبرية فوق أراضيهم وممتلكاتهم ووطنهم عام 1948 / 1949.
مر الشعب الفلسطيني بمرحلة احتلال بريطاني لفلسطيني وكان يحمل مشروع تنفيذ وعد بلفور (“إقامة الوطن القومي اليهودي”في فلسطين“ولهذا دأب على تشجيع الهجرة اليهودية وإدخالها البلاد بصورة غير قانونية وتأمين المستعمرات، كما سُميت في حينه، أي المستوطنات وحمايتها وقد أدرك الشعب الفلسطيني منذ اليوم الأول بأبعاد مؤامرة وعد بلفور، ولهذا خاض مقاومة شجاعة ممتدة تراوحت بين المقاومات السلمية بكل أشكالها إلى الثورات المسلحة، ولكن كان ميزان القوى الداخلي في غير مصلحته إذ وصل عديد قوات الاحتلال البريطاني لفلسطين مثلاً مائة ألف في حين كان عديدها بالآلاف أو عشرات الآلاف في أية مستعمرة أخرى أي بمعدل جندي لكل سبعة أشخاص من السكان الغرب. وكان ميزان القوى العربي في غير مصلحته كذلك لأن الدول العربية قسّمت وفقاً لاتفاق”سايكس – بيكو، ورزحت بدورها تحت الاستعمار المباشر (البريطاني أو الفرنسي)، أو قُيّدت بمعاهدات استعمارية وقواعد عسكرية سلبت إرادتها، ومنعتها من دعم الشعب الفلسطيني، أو القيام بواجبها إزاء القضية الفلسطينية التي هي عربية بل كان هنالك إجماع باعتبارها قضية العرب الأولى، هذا وما كان وضع الأمة الإسلامية التي قسمت بدورها إلى دول رزحت تحت السيطرة الاستعمارية، أما عالمياً وخصوصاً، بعد الحرب العالمية الثانية، وانتقال الموقف السوفيياتي لتأييد قرار التقسيم بعد أن كان يعارضه بقوة فقد مال ميزان القوى العالمي حكمه في غير مصلحة الشعب الفلسطيني.
هذا هو السبب الرئيسي رقم 1 في عدم نجاح المقاومة الفلسطينية السلمية والمسلحة حتى عام 1947، وهو السبب الرئيسي الذي أتاح للعدو الصهيوني أن يتغلب في الميدان العسكري والسياسي ويفرض إقامة دولته التي تخطت حصته في قرار التقسيم الرقم 181 بعد أن هجّر بالقوة حوالي ثلثي الشعب الفلسطيني (ما يقرب المليون) في حينه.
ولهذا علينا أن نقدر لأجدادنا ما بذلوه من جهود في المقاومة وما قدموه من تضحيات. فقد كانوا يسبحون ضد التيار، في ظروف موازين قوى غير مؤاتية. وإذا كان هنالك من مآخذ وأخطاء فما كان لتلافيها أن يُغيّر من النتيجة شيئاً حيث الاتجاه العام لتطور الصراع طبعاً لا يعني هذا عدم الحث على تلافي الأخطاء فهذا أمر ضروري حتى ولو كان تأثيره كمياً ونسبياً.
ومن هنا يجب انصاف الذين سبقونا من التهمة التي يرددها أنصار التسوية بأنهم أخطؤوا لأنهم قالوا “لا” قبل 1947 ولأنهم رفضوا قرار التقسيم. وهاتان فريتان، فالقيادة الفلسطينية قبل 1947 كانت مرنة للغاية ومستعدة للمساومة وقدمت التنازلات الكثيرة حتى كانت في كل مرة توافق على ما استجد من هجرات يهودية غير شرعية، وكانت ترحب بما تقدمه بريطانيا من اقتراحات، وطالبت دائماً بإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية مع مجلس يمثل اليهود بتساو مع المسلمين والمسيحيين. ولكن كل ذلك كان مرفوضاً لأن المشروع الصهيوني – البريطاني يستهدف إقامة دولة يهودية بعد اقتلاع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. فشرط إقامة دولة يهودية يقضي باقتلاع الفلسطينيين ومصادرة مدنهم وقراهم وأراضيهم.
وينطبق هذا على “قرار التقسيم” الذي لم تقصد منه بريطانيا سوى انتزاع موافقة هيئة الأمم المتحدة على قيام دولتين يهودية وعربية في فلسطين. أما بعد ذلك فلا بد من الحرب لكي يُهجّر أكبر عدد من الفلسطينيين وتُغتصب أراضيهم حتى يكون بالإمكان إقامة “دولة إسرائيل”. ولهذا لم تترك بريطانيا فلسطين إلا بعد أن سلحت جيش الهاغاناه بما يتفوق على جيوش الدول العربية مجتمعة فيما تركت الشعب الفلسطيني أعزل من السلاح، إذ كانت تحكم بالإعدام على كل فلسطيني يعثر معه على غلاف طلقة فارغة.
ولهذا سواء أقبل الفلسطينيون بقرار التقسيم، أم لم يقبلوا كان لا بد من انتقال المعارك للسيطرة على أغلبية الأرض الفلسطينية وتهجيرهم فميزان القوى العسكري كانت في مصلحة “الهاغاناه”، والتأييد الدولي من المعسكرين الغربي والشرقي كانا أيضاً في مصلحة الجانب اليهودي الذي راح السوفيات يمدونه بالسلاح عن طريق تشيكوسلوفاكيا. وكان الوضع العربي مسيطرة عليه بريطانيا وقد حُرمت جيوشه من أن تكون "جيوشاً فقد كان عديد الجيوش العربية التي دخلت فلسطين 23 ألفاً وعديد جيش الهاغاناه 63 ألفاً، كما كانت المستوطنات قلاعاً محصنة بأفضل الأسلحة والاستعدادات، لذلك كيف يمكن للقيادة الصهيونية أن تنفذ قرار التقسيم لو وافق عليه الفلسطينيون؟ لا يقول بهذا إلا جاهل في طبيعة العقلية الصهيونية والمشروع الصهيوني وفهم ما معنى موازين القوى في الصراع. وتبقى نقطة يمكن إيرادها هنا وهي أن قيادة الوكالة اليهودية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تعترف بقرار التقسيم أصلاً، فكل ما جاء في بيان إعلان الدولة العبرية هي الإشارة إليه بالقول إن هيئة الأمم وافقت على إقامة دولة إسرائيل، فوق أرض إسرائيل، وبهذا تكون النتيجة الوحيدة فوق كل ما حدث لو اعترف الفلسطينيون بالتقسيم هو إعطاء شرعية للدولة المشروع غير الشرعيين حتى اليوم.
بعد قرارات الهدنة بين الدول العربية المحيطة بفلسطين 1949 – 1950 لجأت الدول العربية والقيادات السياسية الفلسطينية إلى مناشدة الضمير العالمي لتنفيذ قرارات هيئة الأمم بما في ذلك حق العودة. فمن عام 1950 – 1965 كان الكفاح الفلسطيني كله ذا طابع سلمي لاعنفي سواء بالنسبة إلى الأقلية الفلسطينية التي بقيت تحت الدولة العبرية، أم بالنسبة إلى فلسطينيين في مخيمات اللجوء. ولكن كان كل ذلك يصطدم بالرفض الإسرائيلي الذي حوّل خطوط الهدنة إلى خطوط نار لمن يقترب منها. وراح يتهدد أية دولة عربية بالحرب والاحتلال، كما كان يصطدم بتواطؤ دولي لتكريس الأمر الواقع مع مشاريع لتوطين اللاجئين، كما كان هنالك وفاق دولي بين المعسكرين على عدم الاحتلال بميزان القوى العسكري بحيث يبقى التفوق العسكري الإسرائيلي كاسحاً على كل الدول العربية والإسلامية. وهو قرار استراتيجي ساري المفعول إلى يومنا هذا.
وهكذا عندما بدأت عدة فصائل فلسطينية تفكر بالكفاح المسلح، فقد جاء ذلك بسبب انسداد طرق الكفاح السلمي واللاعنفي وهذا أبرزه بيان “العاصفة” (الجناح العسكري لفتح) عندما أعلن قيام الثورة الفلسطينية في 1/1/1965، ولكن الكفاح المسلح ما بين 1/1/1965 وحرب حزيران 1967 كان بداية صعبة بالنسبة إلى كل الفصائل التي شاركت فيه، ويرجع ذلك إلى الموقف العربي الرسمي، عدا سورية، الذي أخذ يطارد كل محاولة تستهدف اختراق الحدود والقيام بعملية عسكرية.
يجب أن يشار هنا إلى أن طبيعة الوضع الفلسطيني الذي نشأ بعد قيام الدولة العبرية لا يسمح بشن كفاح سلمي ما دامت الدولة العبرية قابعة وراء خطوط الهدنة مهددة كل من يقترب من تلك الخطوط بالقتل ومهددة الدول العربية التي تسمح بالاقتراب سواء أكان سلماً أو حرباً من تلك الخطوط بالعدوان عليها. ثم أضف البيان الثلاثي الصادر عن بريطانيا وفرنسا وأمريكا عام 1951 بحماية خطوط الهدنة وعدم السماح باختراقها. أما الأقلية الضئيلة المهددة بالاقتلاع والتهجير من عرب 48 فما كان أمامها سوى الانخراط في نضال مطلبي يحدده الحزب الشيوعي الإسرائيلي وعندما حاولت حركة الأرض أن تتقدم ببرنامج يتحدث عن الوطن الفلسطيني والأرض الفلسطينية قمعت بشدة وشُتّت.
ولهذا عندما لجأت فصائل المقاومة إلى الكفاح المسلح جاء ذلك، بالإضافة إلى ما ذكر من أسباب، نتيجة استحالة الاقتراب من الحدود بفعل شعبي جماهيري من أجل العودة، ولرفع راية الحقوق الفلسطينية المصادرة.
لقد حدث تغيير جوهري في الوضع الفلسطيني والعربي والدولي (وبالطبع الصهيوني) بعد حرب حزيران 1967 إذ احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة حيث ثمة كتلة جماهيرية فلسطينية كبيرة. واحتلت سيناء والجولان، مما ولّد أجواء عربية، بعضها من أجل “التغطية على الهزيمة” كما أشيع في حينه. وأكثرها، أساساً، بسبب الحاجة إلى أن يحمل الشعب الفلسطيني كتفاً في عملية “إزالة آثار العدوان”. أما على مستوى الشعب الفلسطيني فقد أصبح هنالك عدة ملايين (تتكاثر باستمرار) تحت الاحتلال، الأمر الذي طرح بعداً جديداً للشعارات الفلسطينية التي كانت تنادي بتحرير كل فلسطين بعد العام 1949، وهو مقاومة احتلال الأراضي التي احتلت منذ الخامس من حزيران 1967. وبدأ هذا الجانب يتطور عبر الضغوط الدولية والعربية وموازين القوى العامة ليصبح هدفاً قائماً بذاته ممكن التحقيق، في حين أصبح تحرير كل فلسطين يبدو بعيد المنال حتى بالنسبة إلى القوى التي ما زالت مؤمنة بالتحرر الكامل من النهر إلى البحر، وترفض رفضاً قاطعاً التخلي عنه أو الاعتراف بأي حق للدولة العبرية في فلسطين، وطبيعي أن تحرير فلسطين يجب أن يكون مشروعاً عربياً – إسلامياً، ولا يمكن أن يكون مشروعاً ذاتياً فلسطينياً، ولهذا أمكن القول أن مع التمسك يهدف تحرير كل فلسطين إلا أن شروطه العربية والإسلامية غير متوفرة ويجب أن تجهد الأمة بأسرها لتوفيرها ووضع هدف التحرير الكامل نصب عينيها، ولهذا فإن المهمة الراهنة للمقاومة الفلسطينية هي توفير شروط دحر الاحتلال من الأراضي التي احتلت في حرب حزيران 1967، وفي مقدمتها تفكيك المستوطنات واستنقاذ القدس والمسجد الأقصى، ومن دون أن يعترف بالدولة العبرية أو حدودها، أي العودة إلى خطوط هدنة 1949 – 1950 من دون قيد أو شرط. وبعد ذلك يقرر كل طرف في الشعب الفلسطيني برنامجه للمرحلة اللاحقة، بما في ذلك إقامة الدولة ولهذا كان لا ينبغي أن تُمس أساسيات القضية الفلسطينية ثمناً لما يمكن أن يسترجع من أراضي 1967، أو مقابل إقامة الدولة. فهدف المقاومة هو دحر الاحتلال عن الأراضي التي احتلت في حزيران 1967، وهذا الهدف يمكن أن تتفق عليه كل الأطراف الفلسطينية ويُحشد من ورائه إجماع عربي وإسلامي ودولي، رسمي وشعبي، هذا دون حاجة إلى التبرع بالاعتراف بأي من القرارات الدولية التي تتضمن اعترافاً بالدولة العبرية أو حدودها.
فإستراتيجية المقاومة لها بعد فلسطيني، ولها بعد عربي وإسلامي ودولي، فإذا حظي هدف المقاومة بدعم سياسي عربي وإسلامي وعالمي تستطيع المقاومة أن تفرض على الاحتلال التراجع. على العكس من ذلك فإن إبقاء الآمال أمامه مفتوحة من خلال التسوية والاستعداد للتنازل عن أجزاء من أراضي الضفة والقطاع، وخصوصاً القدس سوف يبعد إمكانية فرض التراجع على المحتل ودحره دون قيد أو شرط. وجاءت التسوية لتطرح موضوع الدولة قبل تحرر الأرض التي ستقوم عليها ليعرض الأرض نفسها للمساومة وليُعرض مجموع الحقوق الأساسية في فلسطين للمساومة.
ومن هنا فإن المقاومة في فلسطين تمتلك البديل المتكامل ولكن المشكل هو في بديل التسوية الذي حول الصراع بعيداً عن جوهره، باعتباره صراعاً ضد احتلال ومستوطنات من قبل شعب يجاهد لإزالته وتفكيك آثاره (المستوطنات، ضم القدس، الاعتداء على المقدسات وتغيير الأمر الواقع في الأرض).
والمشكل أن تجربة بديل التسوية أخذ مداه بدءاً من حرب أكتوبر “التحريكية” مروراً بكامب ديفيد وليس انتهاءً بأوسلو، النهج الذي فرض الكثير من التنازلات. حتى وصل بنا إلى طلب دولة لا حدود لها مع جيران من الدول العربية ولا أرض موحدة تقوم عليها في ظل المستوطنات والجدار المسمى “أمني” وإنما أراض “موصولة”، ولا مياه تحتها لأن المياه ابتلعت مع الأراضي التي يُراد ضمها ومبادلتها بأرض أخرى في صحراء النقب، وأصبح وجود المستوطنات ولا سيما تلك المحيطة بالقدس الكبرى موضع مساومة بحيث يبقى الجزء المهم منه، فهي دولة بلا سيادة، وبلا حدود عربية، وبلا أرض موحدة، وبلا مياه جوفية، ثم أضف دولة تتنازل عن القدس وعن 55% من الضفة وعن حق العودة وكل المطالبات السابقة في فلسطين. بل حتى هذا كله ليس سقف الأطماع الصهيونية فيما كان يُدعى “مقاومة” لأن التجربة علّمتهم أن سقفها سيهبط أكثر كما حدث في كل المراحل السابقة.
ولهذا فإن بديل المقاومة في فلسطين يعتمد، في ما يعتمد، على فشل بديل التسوية، فضلاً عن اعتماده أصلاً على مشروعه الممكن النجاح، إذا ما تحققت الوحدة الوطنية الفلسطينية خلفه وتحقق إجماع عربي وإسلامي في دعمه، وإذا ما خوطب الرأي العام بأن القضية المطروحة هي الاحتلال ومقابله الشعب الفلسطيني الذي يريد التخلص منه.

في موضوع المقاومة

ثمة إجماع إسلامي بين العلماء ومن خلال النص القرآني أن الجهاد القتالي (المقاومة المسلحة)، يصبح فرضاً مأذوناً به إذا ما تعرض المسلمون إلى العدوان (الاعتداء) وأخرجوا من ديارهم. وكيف إذا كان من يفعل ذلك يحمل العقيدة الصهيونية التي تعتبر الأرض المباركة أرض المسجد الأقصى وما حوله، أرض الإسراء والمعراج وأولى القبلتين وثالث الحرمين الأرض التي فتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأصبحت أرض وقف إسلامي وصالح النصارى المسلمين عليها وكتبوا معهم العهدة العمرية.. يعتبرها أرضاً من حق يهود وحدهم، واعتدى بالقوة المسلحة لاقتلاع أهلها وأخرجهم من ديارهم. هنا يصبح الجهاد القتالي ومختلف أشكال الجهاد السياسي المقاوم والممانع فرض عين على أهلها، بل فرض عين على من يدانيهم من عرب ومسلمين إذا لم يستطيعوا رفع العدوان عنها.. ومن ينظر إلى موازين القوى وحقيقة القوى العالمية التي تدعم الدولة العبرية يرى أن هذا الفرض أصبح في أعناق الأمة كلها.
ليس ثمة من بين علماء الأمة في القديم والحديث من لم يسوّغ الجهاد ويفتي بأنه فرض على شعب فلسطين، ويدعو الأمة علماً أنها لو كانت كذلك لوجب الجهاد في سبيل تحريرها عندما يجتاحها الاحتلال فكيف وهي قضية تدخل في عقيدة المسلمين وجزء من دارهم، فالجهاد ضد اغتصابها واحتلالها يمتلك شرعية إسلامية بإجماعٍ وبنصٍ صريح لا يحتاج إلى تأويل.

مشروعية المقاومة قومياً، وطنياً ووفقاً للقانون الدولي

تمتلك المقاومة في فلسطين مجموعة من المشروعيات إلى جانب مشروعيتها الأساسية الإسلامية، فمن الزاوية الوطنية الفلسطينية فإن الأرض والشعب تحت الاحتلال في فلسطين مما يعطي الشرعية الوطنية للمقاومة إذ من حق الشعب الذي يتعرض للاحتلال أن يقاوم ويحرر وطنه من قوات الاحتلال. ويتمتع بحق تقرير المصير. فالمصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تقتضي أن يقاوم الاحتلال ويدحر وتفكك المستوطنات ويمتلك الشعب استقلاله. ولهذا لا يستطيع أحد أن يشكك في مشروعية المقاومة من الزاوية الفلسطينية المحضة. ويوجب على كل وطني فلسطيني بغض النظر عن دينه وخلفيته الأيديولوجية أن ينخرط في مقاومة الاحتلال.
وما دامت فلسطين جزءاً من الوطن العربي وشعبها جزءاً من الأمة العربية فقضية فلسطين عربية كما هي إسلامية ووطنية، ومن ثم فإن شرعية مقاومة الاحتلال تمتلك الشرعية القومية وتعبر عن مصلحة عربية عليا تتجسد في مصلحة الدول والشعوب العربية كافة. لأن الاحتلال إلى جانب احتلاله لأرض عربية يشكل تهديداً في حالة استمراره للأمن القومي العربي عموماً وللأمن القومي المصري – السوري – الأردني – اللبناني (دول الطوق)، خصوصاً، بل أكثر من ذلك هو تهديد للأمن القومي للدول العربية من المحيط إلى الخليج. وهذا ما يفسر الدعم العربي الرسمي والشعبي تاريخياً لمقاومة الاحتلال والتأكيد على شرعية مقاومة الاحتلال في القمم العربية والبيانات الرسمية للدول العربية.
ثم هنالك القانون الدولي الذي أقر في اتفاقية فينا لعام 1960 (وقراراتها ذات قوة رجعية) بحق الشعوب في مقاومة الاستعمار والاحتلال وعدم جواز إجراء أي تغيير من قبل الاحتلال بأوضاع البلد المحتل سكانياً وجغرافياً وحدودياً وما شابه وهذه الاتفاقية منسجمة مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة التي تقر حق تقرير المصير للشعوب وحق مقاومة الاستعمار والاحتلال، ويمكن أن يضاف إلى ذلك العرف الدولي كما سبق ونُوّه بشرعية المقاومة المسلحة للاحتلال كما مورست من الأغلبية الساحقة من الشعوب التي ابتليت بالاستعمار والاحتلال ثم هنالك قرارات من الجمعية العامة لهيئة الأمم التي تذكر الشعب الفلسطيني بالاسم وتؤكد على حقه المشروع باستخدام مختلف أشكال المقاومة ضد الاحتلال.

بين المقاومة والإرهاب

على الرغم من عدم تطرق ميثاق الأمم المتحدة أو القانون الدولي أو مؤتمر دولي عالمي إلى تعريفٍ متفقٍ عليه للإرهاب إلا أن ما سبق وأشير إليه من شرعية المقاومة بمختلف أشكالها، بما في ذلك المسلحة، ضد الاحتلال، قد أكد عليه ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والعرف العالمي التاريخي والمعاصر، لذا فإنه من غير الممكن الخلط بين المقاومة والإرهاب إلا إذا أريد إعطاء الشرعية للإرهاب، لأن شرعية مقاومة الاحتلال، وبالسلاح غير قابلة للطعن أو التغيير، ولا يمكن أن يُبطل حق شعوب في تحرير أراضيها وبكل أشكال النضال. أية دولة، مهما بلغت من القوّة، أو سعت للإنفراد بتقرير مصير العالم. فالمسألة هنا مقررة ومستقرة ومنتهية وغير قابلة للمراجعة.
وهذا السبب بالتأكيد هو الذي يجعل أمريكا تمتنع عن مناقشة الإرهاب والحاجة إلى تعريفه في أي مؤتمر دولي لأنه من غير الممكن اعتبار مقاومة احتلال - تُقر القرارات الدولية وكل دول العالم أنه احتلال- إرهاباً!. فهذا الخلط غير ممكن إلا بالسطو على السياسة الدولية واعتبار ما تقرره أمريكا والدولة العبرية هو الشرعية والقانون الدولي، وما تدينانه يفقد الشرعية حتى لو أقره قانونٌ دولي. وإلا ستكون شريعة الغاب ولا قانون دولي ممكناً معها.

بين المقاومة السلمية والمقاومة المسلحة

وكما مر سابقاً فإن النضال ضد الاحتلال الاستعمار البريطاني والهجرة الصهيونية غير الشرعية وضد فرض قيام الدولة العبرية وتهجير أكثر من ثلثي الفلسطينيين من قراهم ومدنهم، عرف أشكالاً متعددة من المقاومة السلمية وكانت سابقة للمقاومة المسلحة، ولم يلجأ الفلسطينيون إلى المقاومة المسلحة إلا بعد أن كانت تفشل كل الجهود لتحقيق مطالبهم أو حتى جزء يسير منها بالطرق السلمية، بل كانت تسد الأبواب تماماً في وجه الكفاح السلمي، ومع ذلك عادوا إلى ممارسة المقاومة السلمية والضغوط من خلال الرأي العربي والدولي لتحقيق مطالبهم وكان في مقدمتها بين 1950 – 1967 تحقيق العودة أو تطبيق قرار (194). ولكن مرة أخرى وجدوا أنفسهم أمام الأبواب المغلقة تماماً. بل وجدوا أن كيانهم كشعب أصبح غير معترف به ويعامل كحكومة لاجئين أقصى ما يمكن أن يُقدم لهم هو الخيمة ومعونات وكالة الإغاثة أو التوطين، ولهذا عادوا إلى المقاومة المسلحة وأخذوا يحققون إنجازات سياسية مهمة من خلالها. وقد ذُكر بعضها سابقاً، لا سيما من جهة المحافظة على الوجود في الأرض ومقاومة التهويد، وحل المشكلات الحياتية.
ولهذا إن الذين يثيرون موضوع المقاومة السلمية كأنهم اكتشفوا جديداً، أو عثروا على البديل الذي يحقق الأهداف أو بعضها عليهم أن يعودوا لقراءة التاريخ الفلسطيني جيداً، وأن يتمعنوا بصورة معمقة في طبيعة العدو الصهيوني، وفي مشروعه وعقليته، والتجربة التاريخية حتى لمسيرة التسوية نفسها معه منذ اتفاق أوسلو حتى الآن، لأنهم عندئذ سيجدون أن ما يطرحونه سبقتهم عليه أجيال من الفلسطينيين ومارسته وعرفت حدوده، وكل ما يمكن أن يخرج منه، بل ما كان ليخرج منه كل مرة غير اليأس من عدم جدوى أسلوب المقاومة السلمية إذا اقتصر الأمر عليها ليكون ذلك سبباً لانبثاق الكفاح المسلح، وفي كل مرة، بصورة أشد من سابقتها.
ومع ذلك من قال أن ثمة اعتراضاً من قريب أو بعيد، على ممارسة أي شكل من أشكال المقاومة السلمية ما دام موجهاً ضد الاحتلال ابتداءً من البيان والمنشور، مروراً بالتظاهرة أو الاعتصام وليس انتهاءً بالإضراب أو التعرض للجرافات بالصدور والأيدي، فليس ثمة من تعارض في الحقيقة بين مقاومة سلمية ومقاومة مسلحة ما دام الهدف موحداً هو دحر الاحتلال، بل أغلب تجارب الشعوب جمعت بين الأسلوبين سواء ضمن خطوة متكاملة تقودها قيادة واحدة، أو موضوعياً مع وجود خلافات ومناقشات، لأن مشكلة الذين يدعون إلى المقاومة السلمية كونهم يعارضون المقاومة المسلحة (ولا بأس في المعارضة ما دامت هذه قناعتهم) أنهم يريدون منها أن تخلى المكان كله، وتضع كل مستقبل الشعب الفلسطيني في سلة واحدة طالما جُربت ولم تحقق نتيجة إيجابية.
حماس من جانبها تمارس شكلي المقاومة المسلحة والسلمية، فهنالك الجناح السياسي وهنالك الجناح العسكري، وهي تعتبر كل جهد تقوم به مجموعة فلسطينية أو فرد واحد باتجاه دعم صمود الشعب الفلسطيني والنضال لإطلاق صراح المعتقلين أو القيام بالخدمات الاجتماعية أو بالمقاومة السلمية ضد الاحتلال، هو جهد إيجابي ومرحب به ناهيك عن الخدمات الصحية والحياتية والاجتماعية.
وباختصار، أن كل ما تقدم من قراءة لشكلي المقاومة أو أشكالها المتعددة تؤيده التجربة التاريخية الواقعية للشعب الفلسطيني، ويؤكده التحليل المعرفي العميق لطبيعة العدو ومشروعه وعقليته وأهدافه وإستراتيجيته العنفية من الرأس حتى القدم، إلى جانب تقلبات الظروف التي يمر بها الصراع.
ومن هنا فإنه من الضروري تطوير أشكال المقاومة السلمية وهذه تحتاج إلى الارتفاع في مستوى تعبئة الجماهير وتنظيمها لأن أشكال التظاهر حين تحشد عشرات وربما مئات الألوف، وكذلك الإضرابات والاعتصامات وصولاً إلى العصيان المدني، إذا ما عاد الاحتلال للسيطرة على المدن والقرى مباشرة، وهي أشكال بظروف معينة، فعالة جداً ولا يجوز إغفالها أو أخذ موقف سلبي منها. بل إن ثمة حاجة إلى تطوير العمل السياسي وأشكال النضالات السلمية الصغيرة والمتواضعة وفتح أبواب الإبداع فيها على مصراعيه لأنها بمجموعها ستكون ذات أثر فعال لا سيما حين تتناغم بصورة مباشرة، أو غير مباشرة مع المقاومة المسلحة.
أما من الجهة الأخرى فإن الاستراتيجية العسكرية والأمنية الإسرائيلية المتمثلة بالاجتياحات وإعادة الاحتلال الجزئي أو الكلي لهذه المدنية أو تلك، أو هذه القرية أو تلك، وما تفكر به قيادات عسكرية وسياسية في حكومة شارون وقيادة هيئة الأركان في تصفية السلطة وإعادة الاحتلال المباشر لكل المناطق يتطلب من الأجنحة العسكرية في المقاومة المسلحة تطوير أساليبها وخططها سيما من جهة تكتيك الكائن والاقتحامات والعمليات الاستشهادية ضد المواقع العسكرية وصولاً إلى الاشتباكات والمواجهات من نمط تجربة مخيم جنين، وقد أثبتت التجربة العسكرية الفلسطينية من خلال عدة عمليات مميزة أن استخدام هذه التكتيك ممكن وله مردود كبير على نتائج الصراع، بما في ذلك، كسر إرادة قوات العدو بالتشبث في الاحتلال، فهذه العمليات تضرب في معنويات القوات المسلحة، وتجعل إمكان فرض انسحابها من دون قيد أو شرط، مع توفر شروط سياسية معينة أمراً قابلاً للتحقيق كما حدث في جنوبي لبنان، وإن كان ذلك كحاجة في فلسطين إلى موقف عربي متماسك ضد الاحتلال وإلى دعم دولي ولو من الرأي العام الشعبي وحده فقط.

فقه القتال

الإسلام هو أول من أرسى فقهاً للقتال يتسم بالإنسانية والعدل واحترام الإنسان، وأخضع إلى المساءلة أمام الناس وللحساب في الآخرة أمام الله سبحانه وتعالى، وذلك قبل اتفاقيات جينيف التي حاولت أن تقنن للمحاربين في زمن الحرب أو للأسرى أو للأراضي المحتلة، وقبل مواثيق حقوق الإنسان، ثم سما في دافع القتال نفسه حين اعتبره جهاد في سبيل الله بكل ما تحمله كلمة جهاد من إيمانية وخلوص نية لا تستهدفان من القتل والقتال استعباد الشعوب ونهب خيراتها، أو الطمع في المال أو السطوة والمجد أو الغنائم والشهرة أو إجبار الناس تغيير عقائدهم.
وكُتب الفقه المتعلقة بالقتال كثيرة وهي ما يجب أن تكون الضابط للمقاومة المسلحة بالنسبة إلى من ينطلقون من الإسلام في جهادهم.
على أن الإشكال الذي نجم عن العمليات الاستشهادية التي كان من بين ضحاياها أناس عاديون ونساء وشيوخ وأطفال آثار أسئلة حول مدى شرعية تلك العمليات ما دام فقه القتال في الإسلام لا يبيح إلا قتال المحاربين حاملي السلاح ولا يقتل آمناً ولا عجوزاً ولا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً ولا يقطع شجرة أو يخرب بئراً.
كانت فتح وغالبية فصائل المقاومة الفلسطينية حين يُسألون عن عملياتهم التي كانت تذهب بضحايا من الطراز الآنف ذكره، وذلك من خلال زرع العبوات الناسفة أو وضعها في سيارات مفخخة وما شابه في الطرقات والأماكن العامة كانت تجيب أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع عسكري بالكامل فضلاً عن أن سكانه من المستوطنين والميليشيات اغتصبوا الأرض، فالكل شريك في الاحتلال وتهجير الفلسطينيين وكانت هذه العمليات جزءاً أصيلاً في الإستراتيجية العسكرية الفلسطينية طبعاً إلى جانب الكمائن والاشتباك وألوان القتال الأخرى.
أما العمليات الاستشهادية التي عرفتها شوارع المدن أو أسواق المستوطنين، فلم تعتبر جزءاً من استراتيجية مقاومة الاحتلال وإنما اعتبرت رداً على المجازر التي يتعرض لها المدنيون الفلسطينيون وقد أوضحت حماس ذلك بمناسبات عدة منذ المجزرة التي تعرض لها المصلون في المسجد الإبراهيمي في الخليل، وهنالك تصريحات للشيخ الشهيد أحمد ياسين ربط استمرارها بوقف المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين ودعا إلى تحييد المدنيين من الطرفين.
طبعاً لا يتضمن هذا الموقف تبرئة للمدنيين الإسرائيليين وأغلبهم لا يحمل السلاح، في حينه، ولكنه في الاحتياط من مسؤولية المشاركة في اغتصاب فلسطين ولا يغير من الحقيقية كون غالبيتهم الساحقة ميليشيات أو احتياط حتى من الزاوية العسكرية ولكن مع ذلك ما داموا لا يحملون السلاح، ولا يشتبكون في قتال في حينه، فإن وضعهم يحمل شبهة المدنيين أو غير المحاربين، وإذا قال أحد وما موضوع الأطفال؟ الجواب الأطفال لم يستهدفوا يوما وإن راح بعضهم ضحية التواجد في المكان من قبيل الصدفة.
ولهذا فإن استهداف السابلة في الطرقات أو المتواجدين في أماكن عامة ليس جزءاً من إستراتيجية المقاومة المسلحة وإنما العمليات تأتي رداً على قتل المدنيين الفلسطينيين وهدفها هو وقف ذلك القتل المتعمد وتحييد المدنيين.
فمن هذه الزاوية يكون التأصيل الفقهي نابع من آية “واعتدوا عليهم بمثل ما اعتدوا عليكم” وذلك بهدف وقف العدوان.

العمليات الاستشهادية

أول من أطلق صفة “العمليات الانتحارية” على العمليات الاستشهادية كان الإعلام الأمريكية والإسرائيلي، ثم تبعه كثيرون حتى في الإعلام العربي لا سيما بعد الضغوط الأمريكية التي مورست ضد استخدام الاستشهاد وذلك من أجل إفقاد تلك العمليات ما تحمله كلمة استشهاد من معان إيمانية وجهادية نبيلة. فالانتحار محرم في الإسلام ومرفوض أو ممجوج في أعين الشعوب كافة، ذلك لأن من يقدم عليه يفعله يأساً شديداً من الحياة حتى تفضيل الموت عليها، وهروباً من مواجهة مشاكله الشخصية، أو الأزمات العامة مواجهة سويّة متوازنة. فهو لذلك محرّم في الإسلام لما يعنيه، اليأس والهروب من الحياة حتى تحت الابتلاء الشديد، من نكران لأنعم الله على الإنسان بالحياة والعقل والإرادة والصبر والمجاهدة وأمل بآخرة تلقى الله بالطاعة وتحمل الابتلاء وحمده في كل حال.
وقد حاول عدد من علماء النفس ومن بينهم عالم نفس إسرائيلي أن يجدوا علاقة بين الانتحار كما يصفه علم النفس والعمليات الاستشهادية فلم يجدوا سبباً من أسباب الانتحار أو صفة من صفات المنتحر أو الذي لديه استعداد للانتحار في الاستشهاديين الذين درست نماذج أساسية منهم. لذلك بقي اتهام العمليات الاستشهادية بالانتحارية بلا سند علمي في علم النفس المفترض به علماً، أو أساس واقعي. فالاتهام هنا ينطلق من أسباب لها علاقة بالصراع السياسي نفسه فهي جزء من حملة التشهير والحرب النفسية ضد الشعب الفلسطيني. ولكن هنالك، وهؤلاء قلة من بين العلماء، أقاموا شبهة بين العمل الاستشهادي والانتحار، أو إلقاء النفس إلى التهلكة وحجتهم ظاهرية سطحية لا علاقة لها بمقارنة دقيقة بين الاستشهاد والانتحار ولا بين إلقاء النفس إلى التهلكة والاستشهاد، ذلك لأن العمليات الاستشهادية تنطلق أساساً من مواقع الجهاد في سبيل الله وهذا الجهاد يتضمن الدفاع عن الأرض المباركة – فلسطين ضد الاغتصاب والاحتلال والتهويد، فهو في أساسه قام على نية الجهاد العام في سبيل الله ضد عدو أخرج الفلسطينيين من أرضهم واغتصبوها وأقاموا دولة يهود عليها.
ولكن العمل الاستشهادي الذي ينطلق من قاعدة الجهاد في فلسطين، أفتى بوجوبها كل العلماء بلا خلاف فلم يسمع عن عالم لم يقر واجب الجهاد ضد اغتصاب فلسطين والسيطرة على المقدسات الإسلامية وإخراج الفلسطينيين من ديارهم ولهذا يبقى النظر في جواز الارتفاع بالجهاد القتالي إلى مستوى أعلى أي الاستشهاد عبر القيام بعملية واجب، إذ لا يمكن أن تنفذ العملية بنجاح إلا من خلال تفجير المجاهد لجسده مع الألغام التي حملها ومن ثم يراد بها أقصى فعالية في الرد على اعتداء العدو وتفوقه العسكري والأمني وما يلقاه من دعم دولي ويرتكبه من جرائم جماعية بحق الشعب الفلسطيني.
ولهذا فإن الارتفاع إلى هذا المستوى يتم بسبب الاضطرار وبسبب عدم التوازن في ميزان القوى، وبسب رد الاعتداء بمثله بما يردع العدو ويشفي غليل الشعب المثخن بالجراح والواقع تحت الضربات الموجعة والعقوبات الجماعية والقتل بالجملة بما يشد من أزره ويرفع معنويات ويثخن بالعدو.
وهذا كله يتقبله الشرع من باب عريض ما دام يدخل ضمن قاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” بل يدخل في أعلى مراتب الإيمان والسمو ما دام المقدم عليه خالص النية في جعل جهاد في سبيل الله وليس هروباً من الحياة أو تقصد "الإلقاء النفس في المهلكة، وإنما هو إلقاء النفس في المعركة في ابتغاء القوم والإثخان فيهم، ويمكن أن يتعزز هذا كله من خلال التقدير العسكري وحاجة المعركة إليه، فالفتوى هنا يمكن أن تعتمد على حاجات وضرورات القتال وشروط مواجهة عدو متفوق أعلى درجات التفوق في تسلحه وإجراءاته الأمنية.
وبكلمة شتان بين مقتحم للصفوف وهو يعلم أن هالك إلا بمكرمة من الله، كما كان يفعل صناديد الصحابة رضي الله عنهم من جهة وبين منتحر منكر لأنعم الله أو جاهل يودي بنفسه إلى التهلكة وهو يعلم أولا يعلم، ومن دون أن يكون في نيته الجهاد في سبيل الله أو نصرة الأمة.
هذا وهنالك بالطبع أدلة من تاريخ الصحابة ومعارك المسلمين ما يؤكد شرعية العمل الاستشهادي في معركة غير متكافئة والجهاد فيها فرض عين وإلا ما معنى نداء المجاهد الصحابي “عجلت إليك ربي لترضى”.
ويبقى من جهة أخرى المراجعة الواقعية لتجربة العمليات الاستشهادية وما تركته من أثر إيجابي في معنويات الشعب الفلسطيني والأمة عموماً ومن أثر سلبي في أوضاع العدو ومعنوياته وما حل به من أزمة اقتصادية واجتماعية ونفسية ومعنوية راحت تشجع الهجرة اليهودية المضادة من فلسطين. ففي هذا المجال تصب جردة الحساب لنتائج العمليات الاستشهادية في المعركة في مصلحة إعطائها المزيد من الشرعية الإسلامية والوطنية والقومية والإنسانية.

بين المقاومة والإرهاب

الإرهاب عرفاً أو تعريفاً تركز في القرن التاسع عشر والعشرية الأولى من القرن العشرين على الاغتيال الفردي. وقد اعتبرت الحركة الفوضوية في الغرب نموذجاً في تبني الإرهاب (الاغتيال الفردي) من أجل تحقيق هدف التغيير الذي تنشده، وهي القضاء على الحكومة أو الدولة من حيث أتي.
وتوسع تعريف الإرهاب إلى أعمال القتل التي تمارس ضد المدنيين سواء أكان من جانب حكومة بلدهم أو من قبل قوة غازية، أم احتلال أجنبي. فكل أعمال العقاب الجماعي أو القتل والتنكيل الجماعيين، أو اللذين يقصد منهما إرهاب الناس وسواهم دخلت في تعريف الإرهاب.
ولكن في مرحلة السبعينيات من القرن الماضي شمل مفهوم الإرهاب احتجاز رهائن من المدنيين، وذلك بقصد إبراز غرض سياسي أو مبادلتهم بأسرى سياسيين أو تحقيق مطالب معينة.
على أن مصطلح الإرهاب أتسع في المرحلة الأخيرة ليصبح استراتيجية تستهدف المدنيين والمواقع خارج أرض الصراع مثل الأماكن العامة، أو الأسواق، أو أنفاق القطارات ومحطات الباصات. وهذا الأخير تبنته القاعدة استراتيجية لها لا سيما من 11/9/2001. وكان في البداية موجهاً إلى أوروبا وأمريكا ثم توسع ليشمل البلاد العربية والإسلامية. ودخل العراق في الصراع المذهبي ليصبح خطف المدنيين وتعذيبهم والتمثيل بأجسادهم أسلوباً تستخدمه ميليشيات وزارة الداخلية، أو بعض قوات “الجيش” ضد السنة، وفي المقابل استخدم التفجير في الأسواق ومراكز التجمعات المدنية أسلوباً ضد الشيعة ولحصد مئات الأرواح بلا تمييز من قبل تنظيم القاعدة ومن ينهج منهجه.
هذا كله أصبح من مشمولات تعريف الإرهاب. وبهذا أصبح المفهوم يشمل الاغتيال الفردي لأغراض سياسية كما يشمل قتل المدنيين الذين هم خارج ميدان الصراع ولا علاقة لهم مباشرة بالعمل العسكري سواء أكان من خلال قوات حكومية أم دول غازية أم مجموعات وحركات “تغييرية” تعلن أهدافاً سياسية أو دينية أو مذهبية أو قومية وما شابه.
أما تعريف المقاومة فهي القتال وألوان الممانعة التي يمارسها شعب عبر قوى منظمة منه ضد قوات الاحتلال التي تحتل أرضه. فهي هنا قتال ضد قوات عسكرية أو مؤسسات تابعة للاحتلال تخدم نشاطه الأمني والعسكري.
ومن هنا فإن مشروعية المقاومة ضد الاحتلال أقرتها القوانين والمعاهدات الدولية وأعراف الشعوب. واعتبرت في الإسلام من الجهاد بأسمى معانيه وأوضحها دفاعاً عن الديار والإسلام وتحقيقاً لعزة الأمة، أو أي شعب من شعوبها.
هذه المشروعية تمثل الاختلاف الأول بين المقاومة والإرهاب فالإرهاب لم تقرّ به القوانين الدولية، أو ميثاق هيئة الأمم المتحدة، أو أعراف الشعوب، أو النص الإسلامي أو الفقه الإسلامي.
الاختلاف الثاني بين المقاومة والإرهاب أن الأولى تتوجه إلى القوات العسكرية أو القوى التي اغتصبت بالقوة العسكرية أرض غيرها فيما الإرهاب يضرب المدنيين، أو يأخذهم رهائن من أجل تحقيق أهداف معينة أو مطالب محددة. وهو هنا يقع في إشكال قتل أبرياء والاعتداء عليهم من دون وجه حق. أي دون تهمة يمكن أن يوجهها إليهم باعتبارهم ارتكبوا ذنباً يستحقون عليه القتل. فالذين يتعرضون بالقتل للمارة في الشوارع أو في الأسواق أو المتواجدين في أماكن عامة لا يعرفون من يقتلون. لأن السابلة تتكون من نساء ورجال وأطفال من مختلف الأديان والأجناس والمشارب، ولا علاقة لهم سوى مصادفة وجودهم في المكان. والمنفّذِ يعلم ذلك علم اليقين ولعل الآية الكريمة تنطبق على حالهم انطباقها على المؤودة (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) التكوير (8 و9) والجواب هنا سيكون على ممارس هذا النمط من القتل أصعب من الجواب الذي يجيب عن سؤال “بأي ذنب قتلت” فحتى الإملاق ليس قادراً على إيراده.
ولهذا فإن قتل المدنيين سواء مورس من قبل دول كبرى كما تفعل الإدارة الأمريكية والدولة العبرية أم كما فعلت دول الاستعمار دائماً لا يجد له مكاناً من تسويغ أمام القانون الدولي أو القوانين المحلية في أي بلد أو من جانب العرف. ناهيك عن النص الإسلامي الحاسم في موضوع قتل من لا ذنب له يستحق القتل سواء أكان مسلماً أم غير مسلم. وناهيك أيضاً عن ما هو متعارف عليه عالمياً من مكارم الأخلاق والقيم.
وهذا كله أمر حُسم به ديناً وفقهاً وقانوناً وعرفاً وخلقاً وقيماً. ولم تمر بي حجة واحدة يمكن أن تسوّغ قتل المدنيين على تلك الصورة، ولا سيما، ما نشاهده في هذه الأيام سواء أكان من جانب دول كبرى تدعي أنها تراعي القانون الدولي. وميثاق حقوق الإنسان أم من جانب منظمات تتبنى استراتيجية تستهدف المدنيين من أجل تحقيق أهداف معينة أو في الرد على أعمال لا علاقة لأولئك المدنيين بها.
على أن الجانب، أو الفارق الهام الآخر الذي يفرق بين أسلوب المقاومة وأسلوب الإرهاب (على اختلاف وسائله) إنما يكمن في قضية تتعلق بأسلوب التغيير ومنهجه، أو وفقاً للمصطلح المعاصر بالاستراتيجية والتكتيك (مجموع السياسات والإجراءات والمواجهات الجزئية التي تترجم الإستراتيجية في التطبيق).
لقد جرى في الميدان العالمي جدال واسع حول جدوى أسلوب الإرهاب حين يعتمد القتل الفردي لأساطين السلطة القائمة أو القيام بعمليات تحدث فوضى بقصد التأثير في زعزعة هيبة السلطة. وهي النظرية التي يتبناها الذين لجأوا إلى الاغتيالات الفردية من أجل تحقيق هدف التغيير.
ليس هنالك من مثال واحد في التاريخ القديم وفي العالم المعاصر يمكن أن يعزز جدوى استخدام أسلوب الإرهاب الفردي في التغيير لا سيما حين يراد أن يأتي التغيير من قوى خارج قوى السلطة ذات طبيعة شعبية أو نخبوية مبدئية. ففي كل الأمثلة قديماً وحديثاً انتهت المنظمات أو التجمعات التي مارست الاغتيال الفردي إلى السحق والتبدد حتى لو تمكنت لبعض الوقت أن تطيح ببعض رؤوس السلطة. لأن السلطة مؤسسة وطبقة لا تسقط بسقوط فرد أو بضعة أفراد من رؤوسها. فكيف والحال مع تحولها إلى مؤسسة دولة مركزية كما هو الحال في العصر الراهن. فأين ذهبت على سبيل المثال حركة “الحشاشين” في تاريخنا وهي من أخطر منظمات الإرهاب الفردي الذي عرفته التجربة العالمية كلها.
الحالة الوحيدة التي يمكن للاغتيال الفردي أن يغير الحاكم فيها بحاكم آخر ينشده ممارسو الاغتيال هو الذي جرى داخل القصور من قبل المؤسسة والطبقة الحاكمة نفسها بل من داخل حلقتها الرئيسة. وهذا لا علاقة له بالتغيير الذي يغيّر في طبيعة الحكم أو سياساته أو أهدافه.
أما اتباع أسلوب القتل العشوائي للمدنيين بهدف تحقيق مطالب معينة مثل أن تكف أمريكا ودول الغرب عن ممارسة السياسات الإمبريالية بحق شعوبنا وشعوب العالم أو بهدف محاربة تلك الدول ومنازلتها في ميدان الضرب داخل بلدانها الأصلية، أو بهدف الرد على ما تقترفه من جرائم بحق شعوبنا والشعوب الأخرى، أو بهدف وضعها في حالة استنفار أمني يستنزفها مادياً وبشرياً ومعنوياً. فقد أثبتت التجربة بعد 11/9/2001 أن شيئاً من هذا لم يتحقق بمعنى أن الإدارة الأمريكية استمرت بإستراتيجية العدوان والقمع والإرهاب ضد العرب والمسلمين، بل اتخذت من بعض الوقائع التي مورست ضد المدنيين ذريعة للتوغل في العدوان وفي شن قوانين ضد عامة العرب والمسلمين لا سيما داخل بلدانها.
إن أسلوب “مقاتلتها” على أرضها أو مقاتلتها من خلال المدنيين لا يمكن أن يحقق هدفاً تغييرياً يمس هيمنتها العالمية أو إستراتيجيتها. ولا يمكن أن يخيفها حتى لو أقلقها واستنزفها من أجل الرد الأمني أو الإعلامي.
وذلك لأن هذا الأسلوب من زاوية الصراع وإداراته يعتمد على عضلات الأفراد في مقابل دول قوية مركزية وتحالفات عالمية واسعة. الأمر الذي يجعل هزيمته حتمية مهما طال أمده وتوسع. فميزان القوى هنا غير متكافئ لا على المستوى العالمي ولا على مستوى أية دولة بما فيها الدول العربية والإسلامية.
أما الفشل الذي لحق بأمريكا والدولة العبرية وهو الفشل الذي يلحق بكل احتلال فمرده إلى المقاومة وشعبها والقتال على الأرض الرازحة تحت الاحتلال. فإذا كان عمليات 11/9/2001 قد ضربت في قلب واشنطن ونيويورك وأطاحت ببرجين وأودت بحياة حوالي ثلاثة آلاف فقد جاء الرد بالعدوان العسكري على أفغانستان والإطاحة بحكومة طالبان وبالعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين منذ ربيع 2002 وبالعدوان على العراق (ما لحق به من خراب ودمار وتقسيم وانقسامات داخلية لا تبررها خسارة أمريكا أمام المقاومة الشعبية لاحقاً) ثم العدوان على لبنان فقطاع غزة. وأضف نشر القواعد العسكرية على نطاق واسع جداً، والمدى الذي راحت تتدخل فيه أمريكا في الشؤون الداخلية حتى في التعليم والجمعيات الخيرية إلى جانب كوارث حصلت لمئات الألوف من قتل وأعطال جسدية دائمة وللملايين من تهجير وفقدان مواطن ومنازل وأعمال.
هذا يدل على أن أسلوب المواجهة غير المتكافئة على المستوى العالمي ليس الأسلوب الناجع في الرد على ما تتعرض له شعوبنا على يد الإمبريالية الأمريكية والصهيونية بصورة خاصة (وبالمناسبة شعار محاربة الصليبية واليهودية خاطئ وغير مطابق لطبيعة الصراعات من عدة أوجه) وإنما يشكل ذرائع سهلة للإيغال أكثر في العدوان ضد شعوبنا العربية والإسلامية.
أما المقابل فهو اعتماد أسلوب المقاومة، وهو الأسلوب الذي ينازل العدوان والاحتلال على أرضه الوطنية، ومن خلال شعبه وتأييد شعبه وليس من خلال عضلات منظمة معينة، مهما اتسعت عضويتها. فهو الأسلوب الذي راح يفشل العدوان والاحتلال ويؤثر في موازين القوى في غير مصلحة أمريكا والدولة العبرية فالاعتماد على قوة الشعب والملايين والأمة، بعد الاتكال على الله وسؤاله نصره، هو الأسلوب (أسلوب المقاومة) الوحيد الذي يمكن أن يحدث التغيير في مقارعة العدوان والاحتلال.
فالتغيير يجب أن يعتمد على قوة الشعب والأمة، بعد الاعتماد على الله، ومن ثم المقاومة التي تعرف أن تضرب وتنازل عدوها ضمن فقه القتال الذي أرساه الإسلام. أما الاعتماد على العضلات الفردية لا سيما إذا لم يكن من أهدافها تحريك الشارع بأسره والعمل من خلال الشعب، وبالشعب، لا يمكن أن تكون مكافئة للقوى المعادية المنظمة الممركزة والقادرة على امتلاك زمام المبادرة.
من هنا فإن أهم فارق بين المقاومة والإرهاب إلى جانب ما أشير إليه من شرعية (شرعيات) يكمن في أسلوب كل منهما مكاناً وأرضاً وإستراتيجية. ومن ثم حشد الإمكانات والقدرات التي تمتلكها الملايين فوق الأرض المعنية أو على مستوى الأمة معنوياً. إنه فارق في الإستراتيجية والتكتيك المتعلقين بأسلوب التغيير وبالجدوى وإمكان النجاح هذا إلى جانب أن نهج الإرهاب يعمم نفسه على كل الحالات فكأنه يعطي دواء واحداً لكل الأدواء والحالات فمثلاً لا علاقة له بالنظرية أو المفهوم الذي اشتقه المتنبي من النص الإسلامي وهو قوله:
فوضع الندى في موضع السيف في العُلى مضُر كوضع السيف في موضع النديِ
تبقى نقطة عارضة تُقحم في تسويغ الإرهاب، وهي الاستناد إلى آية “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء يوف إليكم وأنتم لا تظلمون” (الأنفال:60).
فالبعض حاول أن يعتبرها إحقاقاً لأسلوب الإرهاب حتى أنه قبل بالتهمة والتسمية باعتبار الإرهاب صفة حميدة. ولكن الآية تركز على ضرورة الإعداد والاستعداد وامتلاك القوة العسكرية بمفهوم الردع، وذلك لكي يخاف العدو من العدوان على المسلمين. فهنا لا علاقة للآية بممارسة الإرهاب المشار إليه أعلاه سواء أكان متعلقاً بالاغتيال الفردي أم قتل المدنيين والتنكيل بهم فهذا أسلوب مدان ويصل إلى ارتكاب الكبيرة فيما إعداد القوة لمنع العدو من العدوان تدخل ضمن الأسلوب الحميد الذي يراد منه تجنب القتال ومن ثم سفك الدماء حتى في القتال حين يكون مواجهة مقاتلين. والموقف الإسلامي هنا لا يبادئ بالقتال ويعتبره كرهاً ولكن إذا ما وقع العدوان فلا بد من القتال الذي يراعي فقه القتال الذي أرساه القرآن والسنة والخلفاء الراشدون.
وإذا توقفنا أمام الآيات الكريمة 116 و117 و118 من سورة الأعراف وهي “قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم” (116)، “وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون” (117)، “فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون” (118). فسنجد في هذه الآيات أن استرهاب الناس يدخل في الإفك وفي الباطل. وليس أسلوباً سليماً في التغيير وإدارة الصراع وهي الآية الأكثر انطباقاً على حالة الإرهاب الذي يسترهب الناس لتحقيق هدفه.

ملحوظات عامة حول الإرهاب

أولاً: في تعريف الإرهاب لا بد من أن ترفض بداية مقولة تعدد التعاريف أو عدم إمكان تعريف الإرهاب، لأننا بهذا نقع بالمحظور الذي تريده أمريكا في رفضها تعريف الإرهاب؟ لماذا؟ لأن أي تعريف للإرهاب سيصيبه ويصيب الدولة العبرية، ولأن ترك الموضوع سائباً يتيح لها استخدام المعيار المزدوج والانتقائية، وتحديداً اتهام المقاومة المشروعة بالإرهاب، أما نحن فبحاجة إلى تعريف دقيق للإرهاب من أجل تمييزه عن المقاومة، وتبرئة المقاومة منه.
ثانياً يلحظ في عدد من الآراء حول الإرهاب ثمة خلطاً بين الإرهاب والعنف والقتال الواسع المطّاط لعبارة الإرهاب ابتدأ بالتفسير لأية
“وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْل ِتُرْهِبُونَ بِه ِعَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ” (الانفال:60)، وذلك باعتبار كلمة ترهبون به تعني الإرهاب وبهذا يصبح الإرهاب شيئاً حميداً فيما إذا عرّفنا الإرهاب لا نجد علاقة بينها وبين التعريف. وهنالك استخدام لكلمة إرهاب كنعت أو صفة لكل ما هو قبيح أو لكل ما يراد تقبيحه كأن تسمي كل ظلم أو لا عدالة أو كل تمييز بين الرجل والمرأة أو أي خطأ بأنه ممارسة للإرهاب. وبهذا تصبح الكلمة بلا حدود وبلا تخوم فيختلط الحابل بالنابل وعندئذ تفلت الضربات الخبيثة والممارسات والأفكار الخاطئة.
ثالثاً: الإرهاب عنف ولكن ليس كل عنف إرهاباً، والإرهاب تطرف ولكن ليس كل تطرف إرهاباً وعليه قس الظلم والقهر والتمييز والعدوان والاحتلال ليس الإرهاب وإن كان الإرهاب طغياناً وهكذا، فتسمية الظلم بأنه إرهاب يفقد الظلم سمته الأساسية وكذلك بالنسبة إلى القهر والعدوان والتمييز العنصري وما شابه.
رابعاً: من هنا لا بد من لملمة الموضوع وتحديده، وذلك هدف حصره والوصول إلى تعريف أقرب ما يكون مطابقة له أي للإرهاب، الإرهاب أسلوب في التغيير يعتمد نظرة الاغتيال الفردي السياسي أو نظرية قتل الأبرياء أسلوباً لتحقيق هدف ما أو قتل المدنيين لتحقيق ما وضع من أهداف أو مطالب، وهذا مثل أسلوب تنظيم المنظمات التي تعتمد الاغتيالات السياسية، أو التفجير وسط المدنيين وفي الأماكن العامة، أو اختطاف المدنيين وقتلهم والتنكيل بهم وذلك لاسترهاب الناس عموماً أو التوهم بأن ذلك يسترهب جيوشاً ودولاً كبرى أو حتى صغرى، وبالمناسبة لم يسبق لإرهاب - قديماً أوحديثاً - أن مارسته منظمات من النخب أرهب أو استرهب جيوشاً أودولا كبرى أو حتى صغرى بل استدرج تلك الدول إلى الهيجان والحسم والبطش.
فنحن أمام أسلوب محدد ومنهج يمكن أن نفرقه عن كل ما عداه أما إذا ما عداه طغى وامتد ليمارس قتل المدنيين أسلوباً ومنهجا فعندئذ يدخل في الإرهاب أو يتعداه مثل الإبادة البشرية والتطهير العرقي.
فالطغيان أو القتال المشروع أو الحرب أو القمع يصبح إرهاباً إذا تعدى حدوده واستباح الدماء البريئة وقتل المدنيين عشوائيا.
خامساً: التحفظ عن الإرهاب والرفض له يقوم على أساس رفض استباحة دماء الأفراد والجماعات أو قتل المدنيين أو القتل على الهوية أو الاغتيال السياسي أو الاغتيال الفردي.
فالقاعدة الأساسية في الإسلام هي تحريم سفك دم من لا ذنب له، ومن كان له ذنب شخصي ومباشر،عندها يقتل بحكم شرعي، فإذا كان قتل المدنيين استثناء مثل التمترس فيجب أن يبقى استثناء ولا يصبح قاعدة ولا يحل مكان القاعدة الأساسية الأولى.
- التحفظ الثاني أنه أسلوب غير ذي جدوى في تحقيق الهدف هذا إذا ثبت على هدف يتوخاه ولا يدخل في إطار أساليب التغيير الشرعية أو العالمية، فهو نزال بين أفراد يعتمدون على عضلاتهم في مقابل دول وجيوش منظمة مركزية فحكمه الغش لا محالة.
- التحفظ الثالث: يقوم على أساس أن الإرهاب يجعل أعداءه بلا حدود أو تحديدٍ دقيق، ومن ثم لا تحدد جبهة وجهة حلفائه مما يخالف القاعدة العامة للاستراتيجية في التغيير بل كل ما يدخل ضمن استراتيجيات التغيير ابتداء من الاستراتيجية التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم والنص القرآني في التجربة الإسلامية الأولى من مكة إلى مكة مروراً بالمدينة.
- التحفظ الرابع لا مكان لفعل الجماهير والأمة في عملية التغيير فهو يستدرج الأفراد ولا يستدرج العمل الشعبي العام الذي لا تغيير من دونه فهو وحده الذي يتجاوز موازين القوى المختلة في مصلحة أعدائنا.
وبالمناسبة منهج الإرهاب أو أسلوب الإرهاب سواء اعتمد الاغتيال الفردي أو استهدف المدنيين هو منهج القويّ وليس الضعيف أي منهج الدول والطبقات المسيطرة وليس منهج القوى الشعبية المستضعفة لأن استخدامه من قبلها يقوّض سمعتها. وهذا هو التاريخ في الماضي والحاضر شاهد على ذلك فالأقوياء هم من استخدموا منهج الإرهاب بشقيه: الاغتيال الفردي أو قتل المدنيين، ولم يستخدمه الأنبياء أ المصلحون أو المجاهدون الذين قاوموا احتلالاً أو عدواناً أو طغياناً.
إلى هنا سأدخل في النقاط التي تفرق بين المقاومة والإرهاب، وذلك من دون أن تكون حاضرة أو جامعة مانعة في التفريق بين النهجين.
-  المقاومة للاحتلال والعدوان أسلوب مشروع تقره القوانين والمعاهدات الدولية وأعراف الشعوب وهو أسمى حالات الجهاد فهو محط إجماع أو شبه إجماع.
- الإرهاب لا يحظى على شرعية ولا إجماع أو شبه إجماع وإنما هو خلافي وأخطر الخلاف يكون في الدماء.
ثانياً: المقاومة أثبتت وتثبت نجاعتها في دحر الاحتلال والعدوان في عشرات الحالات والمواقع قديماً وحديثاً.
-  فيما الإرهاب لم ينجح في بلد واحد أو تجربة واحدة.
ثالثاً: أسلوب المقاومة ونهجها يرتكز على مقاتلة القوات المسلحة للاحتلال والعدوان. وعلى أرضها ووسط شعبها وهدفها تحويل الشعب كله إلى مقاومة وممانعة ومساندة، فيما الإرهاب المعاصر لا أرض له، ولا وسط شعبي له وهدفه المنازلة بالعضلات الفردية وأينما أمكن وأينما وقع وتيسر ويدخل ضمن قاعدة الغاية تسوّغ الوسيلة وإلا كيف يسوّغ قتل المدنيين!، المقاومة تتقيد بسنن التغيير فيما الإرهاب يعمل خارج سنن التغيير وشروطه.
ولهذا المقاومة تتقرر ليس بسبب الحق والعدل فقط وإنما تقتضي تشكل استعداد عند الشعب ووجود ظروف تسمح باستمراريتها وبقائها ونموها.
أما الإرهاب فلا يأخذ في الاعتبار شروط التغيير أو سنن التغيير ولا يلحظ أن استخدام العنف مسؤولية يحاسب عليها إذا انتجت كوارث بسبب سوء تقدير الوضع.
تبقى نقطة لها علاقة بقتل المدنيين:
أولاً: القاعدة الأساسية التركيز على القوات المسلحة وتجنب قتل المدنيين بالتعمد وكاستراتيجية.
ثانياً: المستوطنون لأرض غيرهم بقوة السلاح والمخرجون الناس من ديارهم لا يدرجون في الحالات العادية للمدنيين.
ثالثاً: حتى في هذه الحالة الأخيرة اعتبر الشيخ أحمد ياسين التعرض للمستوطنين المدنيين من مغتصبي فلسطين بأنه يستهدف تحييد المدنيين من الطرفين.
حول شروط الخروج:
كل آيات القتال نزلت لجماعة المسلمين في الزمان والمكان وظروف محددة وضد عدو محدد وليست أوامر تنفذ بعض النظر عن الظروف والشروط، فالخروج لا يكفي أن يكون هنالك الكفر البواح مثلاً أو الطغيان أو حتى العدوان وإنما يجب أن يستوفي الخروج شروط القتال والمجابهة مثل استعداد الشعب أو مثل إمكان تشكل الاستعداد فالقيادة يجب أن تحاسب على النتائج إذا ارتكبت أخطاء فادحة.
الآيات الأقرب انطباقاً على الإرهاب هي الآيات من الأعراف (116-118): "قَالَ أَلْقُوْاْفَلَمَّاأَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُم ْوَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ116
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْق عَصَاكَ فَإِذَاهِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ117 فَوَقَع َالْحَقُّ وَبَطَلَ مَاكَانُواْ يَعْمَلُونَ" فاسترهاب الناس هنا من الإفك ومن الباطل، فالإرهاب يسترهب الناس.
أما الآية: “”وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْل ِتُرْهِبُونَ بِه ِعَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ“وَآخَرِين َمِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُم ُاللّهُ يَعْلَمُهُم ْوَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِبسَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُم ْلاَ تُظْلَمُونَ” (الأنفال:60)
1- التركيز الأساسي في الآية هو إعداد القوة. وذلك ليخاف عدو الله وعدوكم فإخافة العدو هنا هدفها تجنب القتال فيما من الأهداف التي أعلنها تنظيم القاعدة مثلاً أنه استهدف من عمليات واشنطن ونيويورك باستدراج الولايات المتحدة للعدوان المباشر لتصبح في متناول المسلمين في أفغانستان أو العراق.
لو اتسع المجال لتناولت الظروف والشروط التي تسمح لولادة ظاهرة الإرهاب وانتشارها:
-  لنأخذ في الاعتبار أولاً: أننا نتحدث عن ظاهرة عمرها عشر سنوات وتختلف عن الظاهرة التي سبقتها مما يندرج في تعريف حالة الإرهاب ولهذا فإنها ليست نابعة من أسباب فكرية بالرغم من تحصنها بالفكر وبعض الفقه وليست وليدة الفقر أو ظروف مجتمعاتنا، بدليل أن هذه الأخيرة موجودة دائماً ولم تولد الإرهاب دائماً، وإنما كان “رد فعلها” عبر أكثر من خيار أي تراوحت ردود الفعل بين الصبر وعدم الرد أو الاعتزال إلى السلبية بأنواعها أو الممانعة السلمية بألوانها، فرد الفعل بالعنف كما عبر عنه من بعض الجماعات لا يفسر إلا من خلال قراءة المناخ أو المناخات مؤخراً في الأوضاع العالمية والإقليمية والمحلية.
ولهذا لا يكفي رد الفعل تبريراً ولا أي سبب من الأسباب التي تذكر في تفسير الظواهر التي شهدناها مؤخراً، ذلك أن التحول إلى الفعل المضاد بحاجة إلى مناخ وشروط تسمح أو توحي بأنها تسمح حتى ينتقل رد الفعل إلى ممارسة عنفية بهذا الشكل أو ذاك بما فيها الإرهاب وهنا يجب أن نجمع حتى نصل إلى تفسير الظاهرة ما يلي:
1- ما يمارس من العدوان والاحتلال يولد الاحتقان ويولد الشعور عند البعض “بضرورة فعل شيء”.
2- تخاذل الأنظمة وعدم الممانعة وحتى تقديم التنازلات وربما طعن المقاومة المشروعة.. تحيل الرد إلى الشعب عموماً وإلى ضرورة فعل شيء وهنا يجد الإرهاب منفذاً أو أي رد منفعل مكانه.
3- انتشار الانحلال والفساد الأخلاقي والابتعاد عن الإسلام يثير الغضب لدى البعض وأنا أشدد على كلمة بعض.
4- ضعف الردود الشعبية والحركات المعتدلة أو الوسطية في قيادة الشعب لمواجهة التحديات.
5- الاختلال في موازين القوى وضياع هيبة القوى المسيطرة وتخبطها وعجزها عن حل التناقضات وغرقها في الفساد يغري بالخروج عليها.

القضية العادلة والاستراتيجية القوية وكسب الرأي العام

قالوا: الانتفاضة لا تستطيع أن تستمر أكثر من اسبوع أو اسبوعين فالشعب الفلسطيني لا يحتمل أكثر مما احتمل تحت الحصار والتجويع والترويع، وقالت الوقائع بعد ذلك بشهر أن الانتفاضة ما زالت مستمرة، وقد ارتفع مستوى المشاركة الجماهيرية فيها، فقالوا لا يمكن أن يحتمل الشعب أكثر من شهر آخر أو شهرين على أبعد تقدير، وقد ساروا على مبدأ “تزحلق حبيبي على البلاط وقعت أنا”، وقالت الوقائع بعد ثلاثة أشهر أن الانتفاضة تصاعدت أكثر وزادت المقاومة زخماً، وتعثرت كل ضغوط التهدئة و“وقف العنف”، فكفّوا عن تحديد عمر للانتفاضة ولقدرة الشعب الفلسطيني على الاحتمال وطوي الموضوع.
وجاء شارون وتشكّلت حكومة ائتلاف من حزبي الليكود والعمل أساساً وسميت حكومة “وحدة وطنية”، وطلب شارون مهلة مائة يوم للقضاء على الانتفاضة والمقاومة، وحظى بما أراد من دعم أمريكي، وحتى تواطؤ أوروبي لأن أغلب أوروبا، من خلال حزب العمل في الحكومة، تعتبر نفسها ذات علاقة إن لم تكن شريكاً، وشُدد الحصار إلى حد يبعث على الاختناق، وكُثف استخدام الأباتشي والفانتوم في قصف انتقائي، فقالوا قُضي الأمر لقد جاء سفاح صبرا وشاتيلا شارون الرهيب وإذا لم تُستجلب قوات دولية لحماية الشعب الفلسطيني ولا بد من أن يُنجز وعده لناخبيه، بتحقيق “الأمن لإسرائيل”. فقالت الوقائع بعد مائة يوم أن المقاومة والانتفاضة لم يفشل سحقهما فحسب، وإنما أيضاً اشتد ساعدهما وطار الوعد بتحقيق “أمن إسرائيل”، بل أصبح أمن الجيش وميليشيا المستوطنات مهدداً.
وعندما كثرت الاغتيالات واستشهدت قيادات كوادر ميدانية انتقيت بدقة، قالوا: صاروخ الأباتشي لا يخطئ الهدف: وما من أحد إلا وفي متناول اليد، واعتبروا أن القدرة على المواجهة العسكرية استنزفت إذ ليس من سهل تعويض الكوادر الخبيرة النشطة المجربة، وقالت الوقائع وعلى لسان الصحافة الإسرائيلية، أن شارون تسلم الحكومة وهنالك بضع عشرات من الاستشهاديين في أقصى تقدير، فجعلهم الآن يُعدّون بالمئات والآلاف وتحولت الظاهرة الاستشهادية من إسلامية محدودة إلى ظاهرة فلسطينية عامة، هذا وشهد جنرالات من الجيش أن أداء المقاومة العسكرية تحسّن وأصبح على مستوى أفضل من ذي قبل.
ما يهم أن كل ما قيل ذهب أدراج الرياح، ومع ذلك عادوا للقول أن الشعب الفلسطيني لا يستطيع أن يواجه، أو يقاوم هذا الهجوم الأخير الذي أطلق بعد زيارة ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي إلى المنطقة، ولكن الوقائع راحت تقول من مخيم جنين مروراً بنابلس إلى رفح عكس ذلك، وأظهرت من ضروب المقاومة لعمليات اكتساح المدن والمخيمات والقرى، وخصوصاً مخيم جنين وقصبة نابلس، وكنيسة المهد في بيت لحم، ما لم يكن في حسبان أحد، وبعضه فاق ما حدث في ستالينغراد، ففي ستالينغراد أخلي الناس وبقي المقاتلون، ولم يتوقف عنها المدد والإمداد، في حين رفض الناس العاديون إخلاء مخيم جنين وقاتل المقاومون فيه بلا مدد ولا إمداد.
أمام تكسر الهجمة الشرسة التي وضع فيها الجيش الإسرائيلي كل ما أمكنه أن يضع، والتي سجلت نصراً للمقاومة وكرست واقع الجيش المهزوم حتى لو اكتسح بعض المواقع أو المدن أو المخيمات لأنه لم ولن يستطيع إخضاع إرادة الشعب الفلسطيني، أو يمنع استمرار انتفاضته ومقاومته، راحت الأضواء تُركز على شارون وحده حتى يكون في نهاية المطاف كبش الفداء والمسؤول عما حدث، خصوصاً، المجازر وجرائم الحرب، فبدت المشكلة الإسرائيلية كأنها شخص شارون وعقليته وعقده، ومن ثم أُبعدت تلك الأضواء عن اليعازر وبيريز (حزب العمل). علماً أن ما من طلقة أطلقها الجيش إلا بأمر وزير الدفاع اليعازر، وموافقة بيريز، أو سكوته عنها، ولهذا من الخطأ عدم وضع كامل المسؤولية في القرار الإسرائيلي، حتى الآن على الأقل، على عاتق شارون – بيريز- اليعازر موفاز (الجيش والاستخبارات) إذ لا يمكن تحميل شارون وحده كل المسؤولية أو أكثرها. فهي رباعية مشتركة متساوية، وإذا كان هذا الائتلاف قد بدأ يهتز بعد الأزمات التي أخذت تظهر بينه وبين أوروبا، أو بينه وبين بوش وباول إلى حد أقل، فإن المسؤولية تظل مشتركة، وتزيد مسؤولية وزراء حزب العمل ما لم يستقيلوا، ومن ثم فإن التركيز على شارون دون اليعازر وبيريز لا يساعد على اسقاطه، إن كانوا يعتبرونه المشكلة، فيما المشكلة أبعد منه بكثير.
سمحت المقاومة الباسلة التي أبداها الشعب الفلسطيني، بكل فئاته واتجاهاته، وعلى غير صعيد ومستوى، بإحراج الموقف الغربي عموماً حين لم يستطع شارون – اليعازر – بيريز من خلال الجيش إنهاء المهمة بأسرع ما يمكن، فلم يعد بمقدور أوروبا أن تسكت أكثر عما يرتكب من مجازر وجرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني، أو أن تختبئ وراء “وقف العنف من الطرفين” أو وضع المعتدي والضحية أو الاحتلال ومقاومة الاحتلال على قدم المساواة. فالأزمة الآن طفقت تتفاقم بين الاتحاد الأوروبي الذي اعتبر أنه تلقى “إهانة سياسية” حين أفشلت حكومة شارون مهمة مبعوثيه، ولكن لا بد له من أن يضع “في قلبه أسداً” ليقول شيئاً أكثر “من غير المقبول”، أو يأخذ خطوة عملية ما تعيد له بعض الاعتبار.
والسؤال ماذا سيفعل الرئيس الأمريكي إذا لم يُستمع إليه “بلا إبطاء”، و“فوراً”، واستمر شارون بهجومه حتى لو بضعة أيام أخرى؟ سيقال متواطئ، أو عاجز، أو يبتلع ما حصل كأن شيئاً لم يحصل، وهو قادر على هذا الخيار الأخير بسبب الهزال الذي يتسم به السياسيون في أمريكا وأوروبا أمام القوى الصهيونية في بلادهم، وآخر خياراته أن يضع “أسداً في قلبه” هو الآخر.
التطور الحاصل في الغرب لم يُعرف من قبل فثمة حالة انكشاف حتى على مستوى الهيبة كما على المستوى الشخصي والكرامة للزعماء، وهنالك اهتزاز في التصريحات كما في الإعلام، فلا هو بقادر أن ينقاد وراء حكومة شارون واللوبيات الصهيونية حتى النهاية، ولا هو بقادر أن يقول “لا” قوية، ويلجأ إلى اتخاذ إجراءات عملية أو يهدد باللجوء إليها، ولا هو بوارد أن يرى نصراً فلسطينياً يُنزل الهزيمة بالدولة العبرية من خلال فرض انسحاب من طرف واحد وبلا قيد أو شرط.
على أن الاحتجاجات الشعبية والتغيرات في قطاعات من الرأي العام في الغرب إزاء ما يحدث في فلسطين غير مسبوقتين، وهذا الاتجاه للأحداث تجب المحافظة عليه وإطالة أمد العوامل التي أدت إليه، هذا إذا كنا نريد أن نحسب جيداً، أو نفكر استراتيجياً، أما ما يحدث على المستوى العالمي خارج الغرب فهو أعمق وأبعد مدى.
هذه المتغيرات ما كانت لتحدث لولا صمود الشعب الفلسطيني أولاً، ولولا إصرار الانتفاضة والمقاومة ثانياً، ولولا البطولات التي أفرزتها المعارك الأخيرة ثالثاً، وهذه جميعاً فرضت على الطرف الآخر أن يكشف أمام شاشات التلفزة عن حقيقته العدوانية – الاحتلالية- غير الشرعية- العنصرية، وهو ما يجب أن يستقى منه الدروس، كل الذين يشغلهم العمل الإعلامي والسياسي في الغرب لمواجهة الهيمنة الصهيونية الإعلامية والانحياز الرسمي لها، ومن ثم فإن كل شعار يظن أن بمقدوره أن يغير في الرأي العام، أو كل جهد إعلامي لن يفعل فعله المرجو أبداً ما لم يقم على استراتيجية قوية تحمل القضية العادلة.
أما تأثير تلك العوامل في الشارعين العربي والإسلامي فقد بدا منذ عشرة أيام على الأقل في أروع صورة. مما بدد أقوال من اتهموا الشارع بالموت وعدم الحراك، أو بتركه الفلسطينيين وحدهم، فقد أثبتت الوقائع أن الشارع يتفجر عندما يكون هنالك قتال وثبات وتصميم على إنزال الهزيمة بالاحتلال، خصوصاً إذا كان ذلك يقتضي تحدياً وتضحية وكسراً لحواجز القمع، هنا أيضاً لا بد من استراتيجية قوية إذا أريد للأمة أن تتحرك وهو شرط الانتصار الفلسطيني.
وبكلمة، حتى هذه اللحظة يمكن القول أن الشعب الفلسطيني حقق انتصارات ومكاسب في أكثر من مجال وعلى أكثر من صعيد.

تجربة المقاومة من مخيم جنين إلى الفلوجة

ما حدث في الفلوجة، وبكل المقاييس، نموذج بطولة شعبية تكاد ترقى إلى مستوى الأسطورة لولا أنها معاشة ومشاهدة ومتابعة، فهي من لحم ودم وروح تنبض، فالصمود الذي أبداه أهالي الفلوجة يتعدى أن يكون صمود ثلة من المقاتلين المقاومين الشجعان، فهنا صمود عشرات الألوف وربما أكثر من الناس العاديين الذين لم يغادروا المدينة والموت محدق بها من كل جانب ومن قبل قوى لا علاقة لها ببني الإنسان، فهي أقرب انتساباً إلى وحوش ضارية يمزق الجوع أحشاءها وقد وجدت أمامها فرائس من الرجال والنساء والأطفال.
ومن ثم ما حدث في الفلوجة، وبكل المقاييس أيضاً، يُعد نموذجاً لوحشية الاحتلال والمتعاونين معه، وهو باختصار مجزرة، حرب إبادة، لم يسلم منها بشر أو حجر، فالدمار شبه شامل، والضحايا الآن في قبور جماعية.
وجهان أصبحا من سمة عصرنا كما تجليا في الفلوجة وتلعفر وسامراء والرمادي ومن قبل النجف ومدينة الصدر، وكما تجليا ويتجليان في قطاع غزة مخيماً مخيماً، ومدينة مدينة، وحيا حيا، ومن قبل في مخيم جنين والمدينة القديمة في نابلس، فإذا كان الوجه الوحشي الإجرامي الذي مثلته القوات الإسرائيلية والقوات الأمريكية معروفاً ومألوفاً، على مدى عشرات السنين إلا أن الوجه الآخر وصل إلى مستوى من البطولة والتضحية والصمود يصعب أن تجد له مثيلاً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
صحيح أن مقاومة المحتلين، بأشكال مختلفة، كانت حاضرة دائماً في تاريخ شعوب العالم، وبخاصة الشعوب العربية والإسلامية، وربما عرفت حالات في أواخر القرن التاسع عشر وفي منتصفه الأول ارتفعت إلى مستوى قريب نسبياً، مع الفوارق لنموذج الفلوجة ومخيم جنين وقطاع غزة، لكن المعادلة اختلفت خلال الخمسين سنة الخاتمة للقرن العشرين من خلال مستوى المواجهات في حروب المدن من شارع لشارع ومن بيت لبيت، بل ربما غابت تقريباً ليحل مكانها أسلوب حروب العصابات المعتمدة على القتال في الجبال والأرياف وبعض عمليات خاطفة في المدن.
ظاهرة قتال الأحياء في مدن ومخيمات لمدى أسابيع ضد قوات كثيرة العدد وعالية التقنية تحتاج إلى دراسات تطور نظريات الحرب والقتال التي عرفت حتى الآن، ولا يخفى أن ثقلاً خاصاً في ما يمكن أن يخرج من تنظير يجب أن يعطى للروح الاستشهادية الإسلامية التي أخذت تنتشر في الأمة، والتي كانت عاملاً مشتركاً في كل الحالات والتجارب المشار إليها.
الظاهرة الأخرى النابعة من الأولى، وإن حملت خصوصيتها، أيضاً فتتمثل بأن الإغراق في سياسة السجن والمحق من جانب القوى الإسرائيلية والأمريكية لم تعد قادرة على أن تحقق خضوعاً، أو استسلاماً، أو نكوصاً، أو هدوءاً، كما كان الحال في تجارب أخرى في الماضي فظاهرة اليوم كما دلّت الوقائع تقول أن سياسة السجن والمحق تولّد المزيد من المقاومة، والأهم مواصلتها فبطلان مفعول هذا السياسة له بعده في قلب الحسابات رأساً على عقب.

تعريف الاحتلال

- 1-
إقدام دولة على احتلال أراضي دولة أخرى أو شعب آخر وفرض سلطتها عليه.
يعرف الاحتلال في العصر الحديث ومنذ اتفاقات دونلود التي أصبحت أساساً للقانون الدولي حول حق السيادة للدول على أراضيها، والتي أصبحت أساساً للقانون الدولي بأنه إقدام دولي بالقوة العسكرية على احتلال أراضي دولة أخرى أو شعب آخر بالقوة العسكرية، وقد اعتبرت حالة الاستعمار الذي مورس في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والقرن العشرين حالة احتلال دولة لأراضي الغير بالقوة الشرعية.
وقد عقدت اتفاقات دولية كان آخرها 1969 (بمفعول رجعي) على اعتبار حالة الاحتلال مخالفة للقانون الدولي وأعطيت الشعوب التي تعرضت للاحتلال الاستعماري حق تقرير المصير كما أعطيت حق ممارسة كل أشكال النضال السياسي والمسلح لمقاومة الاحتلال وتم الاعتراف أن أي تغيير أحدثه الاحتلال على الوضع القائم يوم حدوثه يُعد تغييراً غير قانوني إذ ليس من حق الاحتلال إحداث أي تغيير في الوضع القائم السابق للاحتلال.
ميثاق هيئة الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة ذهبت بدورهما إلى الاعتراف بسيادة الدول والشعوب على أراضيها وعدم جواز الاحتلال أو الاستعمار أو إحداث أي تغيير في الأوضاع القائمة.
باختصار أن احتلال دولة ذات سيادة لأراضي دولة أخرى ذات سيادة أو شعب آخر وتغيير الحدود القائمة يعتبر عملاً عدوانياً غير شرعي تجب إزالته.
القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة لم يعطيا حقاً لدولة باحتلال أراضي دولة أخرى أو شعب آخر مهما كانت الأسباب والإدعاءات، فسيادة الدول والشعوب على أراضيها مطلقة.
وقد حاولت أمريكا ودول الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة في التسعينيات أن تشرع حق التدخل العسكري في دولة أخرى في حالة الإبادة البشرية أو ارتكاب جرائم حرب، ولكن هذا لم يدخل في القانون الدولي وبقي محصوراً في إطار الدول الغربية وبعض المثقفين الموالين للغرب أو لأمريكا أو الصهيونية الذين حاول أن يسوّغوا عدوان حلف الناتو على يوغسلافيا تحت دعوى الإبادة البشرية ضد مسلمي كوسوفو أو حاولوا تسويغ العدوان على أفغانستان تحت دعوى محاربة الإرهاب أو العدوان على العراق تحت دعوى امتلاك أسلحة دمار شامل.
ولكن كل هذه الدعاوى تبين أنها مجرد ذرائع ولا يجوز التسليم بها، فالقانون الدولي اعترف بسيادة الدول على أراضيها اعترافاً مطلقاً وكذلك كرس مبدأ عدم التدخل في الشفرة الداخلية.
- موضوع التدخل من خلال الإدعاء بوجود إبادة من يقرره؟ من يأخذ القانون على عاتقه. وهل يمكن أن يقبل هذا مع ازدواجية المعايير في تطبيقه.
- أن الموقف السليم والثوري المنسجم مع مصلحة الشعوب ومع عدم إفساح المجال لقوى التحكم العالمي بامتلاك حق التدخل يحتّم الوقوف بحزم إلى جانب القانون الدولي في تأكيد مبدأ سيادة الدولة على أراضيها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
المبدأ الإسلامي: إذا كان ثمة من فتوى للموقف من احتلالات معاصرة فهي لابد وأن تكون منسجمة على ما اتفق عليه القانون الدولي، من السيادة المطلقة للشعوب والدولة على أراضيها.
فالقوانين الدولية والعلاقات الدولية التي كانت سارية في الماضي كان قانون الإمبراطوريات والاتفاقات الثنائية ولكن مع العصر الحديث وتشكل الدولة القومية تشكل واقع عالمي جديد. فالمقاومة أرست قوانينها، ويكفي تدليلاً على ذلك ثورة المهدي في السودان وعمر المختار في ليبيا وعبد الكريم الخطابي في المغرب وعز الدين القسّام في فلسطين وغيرهم في الهند واندونيسيا وأفريقيا جنوبي الصحراء إلى جانب الثورات الشعبية: ثورة الأزهر لمقاومة غزوة نابليون أو ثورات التحرر الوطني في غالبية البلدان العربية (بين الحربين العالميتين الأولى والثانية)، أو الثورات في إيران وتركيا وأفغانستان وآسيا الوسطى ضد الغزو الأجنبي والاحتلالات.
فالتاريخ الإسلامي من جهة وباستناد إلى النص الإسلامي من جهة ثانية يعزز الظاهرة العالمية في مقاومة الاستعمار والاحتلال في العصر الراهن، هذا دون حاجة إلى العودة إلى التقليد الإسلامي في الرد على الغزوة الصليبية أو الغزوة المغولية.
- 2-
باختصار أن احتلال دولة ذات سيادة لأراضي دولة أخرى أو شعب آخر أو تغيير الحدود القائمة بالقوة يعتبر من وجهة نظر القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة عملاً عدوانياً غير مشروع وتجب مقاومته بكل الوسائل المشروعة، بما فيها المقاومة المسلحة، ومن ثم تجب إزالته.
وهو ما ينسجم مع الموقف الإسلامي الأشد وطأة على أي احتلال يتعرض له بلد إسلامي، والاحتلال يعتبر من أشد أشكال الظلم والعدوان والإكراه ونهب خيرات الشعوب وإلحاق اشد الأضرار بها، وارتكاب ألوان الجرائم الإنسانية، ولهذا فالاستعمار والاحتلال يعتبران من أشد الكبائر وأفدح الأضرار بالناس من وجهة النظر الإسلامية.
الإسلام من حيث المبدأ ضد الظلم والإكراه ونهب خيرات الشعوب وتحكم دول أو دول استكبارية في العالم، ولهذا فالاستعمار والاحتلالات يعتبران مخالفان للإسلام من حيث المبدأ وكقانون عالمي.
وفي ما يتعلق باحتلال قوة خارجية لأراضي دولة إسلامية فهذا يستوجب الجهاد وتحرير تلك الأرض وهو فرض عين على شعب تلك الأرض ويصبح فرض عين على الأمة كلها إذا لم يستطع ذلك الشعب رد الاحتلال لا هو ولا من يليه فتحرير الأراضي الإسلامية من الاستعمار أو من الاحتلال من الزاوية الإسلامية تدخل في الحقوق الأساسية في العقيدة وتدخل في الفروض من زاوية مقاومتها ودفعها.

أشكال النضال والجهاد والمقاومة

- لا تستطيع دولة أن تحتل أرض دولة أخرى أو شعب آخر إلا إذا كانت متفوقة في قدراتها العسكرية بحيث تكسر كل مقاومة تبديها الدولة الضحية سواء عن طريق جيشها أو عن طريق شعبها.
فالقانون الأساس الحاكم من حيث منح أن القوى في حال حدوث احتلال هو التفوق العسكري للقوة المصيرية التي احتلت أراضي الغير، وما أن تتمكن من فرض سيطرتها بالقوة وتصفية القوة الأخرى وتحرير الشعب من السلاح حتى يدخل الوضع في معادلة جديدة من زاوية مواجهته.
التجربة التاريخية العالمية المعاصرة كما التجربة التاريخية الإسلامية قدمت مجموعة من النماذج للمسارات التي اتخذتها مقاومة الاستعمار والاحتلال:
1- المسار الأولى المقاومة المسلحة لردع القوة الغازية وذلك من قبل الجيش والقوات المسلحة للبلد المعني ولكن هذه كانت تنكسر بسرعة أمام التفوق العسكري والتكنولوجي والتنظيمي والتعبوي للقوة الغازية.
2- هنالك حالات كثيرة لا سيما في البلاد الإسلامية إن انتقلت المقاومة فوراً ومن اللحظة الأولى إلى مقاومة شعبية أو ثورة مسلحة مثل المقاومة الشعبية وغيرها في مواجهة حملة نابليون عن مصر وتزعم الأزهر للمقاومة الشعبية ومثال المقاومة المسلحة التي أخذت شكل حروب عصابات أو مناطق محررة تنطلق منها المقاومة: ثورات الجزائر عبدالقادر الجزائري، ولاد سيدي الشيخ وغيرهما.. عبدالكريم الخطابي في المغرب، وعمر المختار في ليبيا، والمهدي في السودان، وأمثال ذلك ما حدث في غرب أفريقيا وفي الهند وغيرهما في مواجهة الغزو الاستعماري.
3- كان في الغالب ينشأ وضع جديد بعد أن ينجح الاستعمار في قمع تلك المقاومات الأولى ويبدأ بترسيخ نفسه من خلال سلطة سياسية تحكم تحت إمرته أو أحياناً من خلال حاكم عسكري عرفي. أو من خلال عقد معاهدة بإقامة قواعد عسكرية وأمنية وسياسية مع حكومة صورية لإصباغ صفة الشرعية أو إبعاد صورة الاحتلال المباشر أو تغطيته باستقلال صوري وهو ما حدث في العراق ومصر وعدد من الجامعات المشابهة، الهند مثلاً حكمت من خلال حاكم عسري بريطاني.
4- بغض النظر عن تفرع الأشكال والمسارات التاريخية التي اتخذها الاستعمار والاحتلالات لتكريس حالة احتلال بعد أن قضي على ألوان المقاومة المسلحة والشعبية فإن المرحلة الجديدة اتجهت إلى غلبة ألوان المقاومة السياسية والشعبية للاستعمار سواء أكان مباشراً أم غير مباشر، وسواء كان هنالك استقلال صوري أو لم يكن.
هذه المقاومة كانت ذات طابع سياسي غير عنفي وذات طابع منظم من قبل أحزاب وطنية وذات طابع شعبي وعفوي.. وقد تعددت بأشكال المقاومة من إصدار النشرات السرية والبيانات التحريضية إلى التظاهرات المنددة وإلى الإضرابات.
فالمقاومة السياسية الشعبية أثبتت أنها مقاومة هامة ومعتبرة وفعالة في مقاومة الاستعمار في عدد من الحالات المعتبرة وفي مقدمتها الحالة الهندية إذ استطاعت الغاندية أن تقود نضالا شعبياً سلمياً يتسم بالتمرد والعصيان، وقد اعتبرها غاندي شكلاً من أشكال الحرب وقد نجحت بسبب ضخامة الهند وكبر عدد سكانها وعدم قدرة بريطانيا على الصمود لا سيما بعد أن خرجت بعد الحرب العالمية الثانية مثخنة الجراح خائرة القوى وتحت ضغوط دول منافسة جديدة (الولايات المتحدة) مما فرض عليها التسليم باستقلال الهند.
وهنالك حالات امتزجت فيها المقاومة الشعبية السلمية بألوان من المقاومة المسلحة بعضها تم ضمن تنسيق (مثال قبرص المطران سكاريوسوغريغاس) ومثال المقاومة الفلسطينية قبل 1948، ومصر (المقاومة السياسية والمقاومة ضد القاعدة العسكرية البريطانية، أو تونس، أو المغرب، وهنالك حالات سارت العمليتان من دون تنسيق مثل الهند.
ولكن هنالك حالات من الاحتلالات انتقل فيها النضال السلمي الشعبي بعد انسداد الأفق أمامه إلى العمل المسلح ومثاله الأبرز الجزائر.. وقبلها الولايات المتحدة الأمريكية.
وهنالك حالات لم يكن فيها مجال للعمل السياسي الشعبي مثل الحالات التي تعرضت للاحتلال الغازي في أوروبا أو الاحتلال الياباني في آسيا، مما فرض أسلوب المقاومة المسلحة على تعداد أشكالها من الصين إلى فيتنام إلى كورية إلى تايلاند والملايو واندونيسيا والفلبين.
معظم هذه الحالات لعبت نتائج الحرب العالمية الثانية، بهزيمة دول المحور ألمانية – إيطاليا – اليابان ، في انتصار تلك الثورات.
انتصار المقاومة الفرنسية بقيادة ديغول مع دور أساسي للحزب الشيوعي ----- الإيطالية والمقاومات الأوروبية المحتلة.
المقاومات في آسيا سرعان ما واجهت عودة التدخل الاستعماري مباشرة بعد الحرب: الفرنسيين في فيتنام ولاوس وكمبودية والانكليز في الملايو والأمريكان في الصين وكوريا والفلبين بصورة غير مباشرة والأمريكان عادوا إلى احتلال الهند الصينية، فيما تمكن الاستعمار البريطاني من تصفية المقاومة وإيجاد صيغة استقلال للملايو التي أصبحت ماليزيا (تانغو عبدالرحمن جنى ثمرات المقاومة المسلحة في تلك التسوية).
باختصار: وجود الاحتلال وسيطرته مع تفوقه العسكري في ميزان القوى عدد أشكال المقاومة وفقاً لخصوصيات كل بلد ولكن القانون الحاكم العام كان دائماً:
1- انتقال جزء من الفئات الاجتماعية إلى التعاون مع المحتل ومشاركته السلطة ولكن وفقاً لخطته وهو ما كان يضعها في نظر الشعب والقوى الأخرى بمنزلة العملاء والمتعاونين مع الاستعمار، وكلما كانت حركة المقاومة الشعبية أو المسلحة تشتد كلما ارتبط مصير تلك الفئات بمصير الاستعمار ومن ثم ترحل مع رحيله إلا في الحالات التي تمت فيها تسويات وخرج الاستعمار باتفاقات مع قوى من المعارضة ضمنت لها الأمان.
2- انقسام القوى المعارضة للاستعمار والرافضة التعاون معه إلى قسمين رئيسيين: 1- قسم يؤمن بالعمل المقاوم السياسي ويمتنع عن استخدام السلاح، ويفتح الباب للمفاوضة والمساومة ولكن من دون مشاركة الاستعمار بالسلطة والتعاون معه وهذه سمة أغلب الأحزاب الوطنية التي عرفتها مصر وسوريا والعراق والمغرب والجزائر.
2- قسم يرى أن العمل السياسي المقاوم لا يكفي وحده ليطرد الاستعمار ومن ثم لا مفر من المقاومة المسلحة أو المواجهات الأكثر حسماً في النضالات الشعبية مثل العصيان المدني وما شابه.
3- التجربة دلت أن القوى التي تتعاون مع الاستعمار وتشارك في السلطة تمت الهيمنة عليها وأصبحت حارساً للاحتلال وحماية حرابه وبذلك لم يعد باستطاعتها أن تحقق الاستقلال ولا يمكنها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه كما تدعي وإنما هي تكون العرف الداخلي له بالضرورة وموضوعياً ولا بد من أن تصطدم مع الرأي العام والشعب ويتعمق الشرخ بينها وبين المقاومة الشعبية والمسلحة.
هذا النمط من التعامل لا يدخل ضمن إطار المقاومة السياسية.
4- المقاومة السياسية في ظل الاحتلال والاستعمار تكون بشن أشكال النضالات المختلفة لمقاومة كل سياسات الاحتلال ومشاريعه أو معاهداته واتفاقاته.. وليس بالضرورة أن تكون مسلحة بل هي مقاومة مهمة وضرورية وتحتمها موازين القوى ولكن عنوانها أنها ترفض التعاون والمشاركة في السلطة.
المشاركة في البرلمان أو الانتخابات تستخدم كجزء من التحريض ضد الاحتلال وليس لدعم محاولة تغطيته بإعطاء أشكال الشرعية السياسية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 252 / 2177233

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع كتاب وقضية   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2177233 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40