الأربعاء 10 تموز (يوليو) 2013

مرسي والسيسي وحكم التاريخ

الأربعاء 10 تموز (يوليو) 2013 par ربيع بركات

الزحف الشعبي المطالب بإسقاط الرئيس المصري في الثلاثين من «يونيو» كان مهولاً. لكن عملية إزاحة مرسي استوجبت تدخل الجيش. ليست هذه المرة الأولى التي يُنحى فيها رئيس من قبل المؤسسة العسكرية بحجة الانتصار لمطالب الشعب، لكنها قد تكون الأكثر جدلية إذا ما قورنت بغيرها.
عملية إسقاط مرسي وصفت بالثورة وبالانقلاب وبما بين الاثنين. نائب رئيس حزب «الحرية والعدالة» السابق رفيق حبيب، الذي يحلو لجماعة «الإخوان» التذكير دائماً بأنه «مفكر قبطي»، وصفها بالانقلاب العسكري المخطط «من خلال محاولات إعاقة الرئيس عن حل مشاكل البلاد».
تشبه هذه الوصفة، إن صحت، تلك التي أسقطت كلاً من رئيس الحكومة الإيراني محمد مصدق سنة 1953 والرئيس التشيلي سالفادور أللندي سنة 1973.
فمصدق عين رئيساً للوزراء مدعوماً بغالبية أعضاء البرلمان الإيراني في عهد الشاه، ولما أصر على تأميم نفط بلاده، نظمت ثلاث محاولات انقلابية للنيل منه، فشلت اثنتان منهما ونجحت الثالثة برعاية وكالة المخابرات المركزية الأميركية كما كشفت وثائقها بعد ثلاثين عاماً. عملية «أجاكس» اعتمدت على تحريض ممنهج يهدف إلى تشويه سمعة مصدق وعلى فبركة تقارير ودس معلومات مغلوطة لدى وسائل الإعلام، فضلاً عن رشوة مجموعات من البلطجية لتنظيم أعمال شغب. وقد نجحت حملة التحريض الداخلي في استقطاب شبكات مصالح مرتبطة بالشاه وأخرى بالطبقة الوسطى. وجاءت معطوفة على مقاطعة الصادرات البترولية الإيرانية بضغط غربي، حتى بلغ الوضع المعيشي دركه الأسفل. وفي خضم الفوضى، نُحي مصدق بانقلاب عسكري.
أللندي بدوره أسقط في ثالث محاولة انقلابية وفي ظروف مشابهة. لم ترد واشنطن السماح لرئيس ذي خلفية شيوعية بالتحرك في أميركا اللاتينية، حديقتها الخلفية. فُرض حصارٌ على صادرات البلاد، تداعى الوضع الاقتصادي مع وصول التضخم إلى ذرىً غير مسبوقة، أطلقت سلسلة إضرابات أنتجت حالاً من الفوضى، وتدخل الجيش بإشارة أميركية.
وتشبه حالة أللندي، أول رئيس ماركسي يفوز في انتخابات ديموقراطية في أميركا اللاتينية، حالة مرسي في كون الاثنين سعيا إلى الإفادة من آليات النظام القائم لإحداث تغيير بنيوي فيه. فالأول عمل إثر فوزه على تنظيم تحول اشتراكي قائم على التأميم وإعادة توزيع الثروة، فيما سعى الثاني إلى إطلاق تحول «إسلامي» لكن من غير أن يكون لديه تصور واضح أو برنامج حقيقي للحكم.
لكن أللندي يختلف، كما مصدق، عن حالة مرسي في كون الجماهير التي طالبت بإسقاطهما أقل بكثير من مليونيات إسقاط الرئيس المصري. ففيما كان مرسي يحاول جاهداً إبعاد كأس الانتخابات المبكرة، كان مصدق يحوز أغلبية داخل البرلمان في ذروة خلافه مع الشاه، وكان حزب أللندي يكتسح الانتخابات البرلمانية قبل أشهر من الانقلاب.
وهما يختلفان عن مرسي لجهة تحديهما للغرب ودفاعهما عن مصالح بلديهما الوطنية، وهو ما دفع بواشنطن عملياً إلى إطاحة حكميهما. بينما أثرت على مرسي رغبة دول الخليج (عدا قطر) في وأد نموذج الحكم «الإخواني» في مهده، من دون أن يشكل ذلك عاملاً حاسماً في قلب النظام، ولا في التأثير على علاقة النظام الإيجابية بواشنطن.
كما يختلف مرسي عن مصدق بتوظيفه الخطاب الديني في بازار السياسة، فيما كان الدين يُستخدم في مواجهة مصدق، بوقوف آية الله كاشاني مع آخرين من المؤسسة الدينية إلى جانب الشاه واعتبارهم مصدق «معادياً للإسلام والشريعة».
الشق الآخر من المقارنة، ذاك الخاص بوزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، يستدعي تجربة وزير الدفاع السوداني عبد الرحمن سوار الذهب الذي انقلب على الرئيس السوداني جعفر النميري أثناء انتفاضة أبريل الشعبية في العام 1985 ثم سلم الحكم للمدنيين. فانقلاب سوار الذهب جاء على خلفية تأزم في الوضع الداخلي واندفاعة غير محسوبة في السياسة الخارجية للنميري، واكبهما توظيف أداتي للعامل الديني من جانب الأخير. إذ إن الانقلاب أتى مع أزمة اقتصادية حادة ومع تردي الأوضاع الإنسانية في دارفور غرباً وتأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان جنوباً (العام 1983). كما جاء تالياً لتحولات كبرى في السياسة الخارجية تمثلت بتأييد النميري مفاوضات السادات مع إسرائيل (العام 1984)، فضلاً عن لجوئة إلى خطاب ديني لحرف الأنظار عن مشاكله الداخلية والخارجية بإعلانه «الثورة التشريعية» (تطبيق الشريعة الإسلامية) التي وصفها خصمه الصادق المهدي وقتها بـ«أكبر تشويه للشرع الإسلامي».
ورغم الاختلاف في شرعية كل من الرئيسين (النميري تبوأ السلطة إثر انقلاب عسكري بينما وصل مرسي إليها عبر الانتخاب)، والفارق في حجم الأزمات التي عصفت بكل من الحكمين، فإن التشابه يبدو ظاهراً في المسائل التي عجلت في الانقلاب عليهما. فكما في حال النميري، كان حكم الرئيس مرسي في الداخل مأزوماً، وأسباب الأزمة كانت سياسية واقتصادية حادة. وفي ما يخص الخارج، مثلت السياسة حيال الأزمة السورية انعطافة غير مدروسة، وجاءت معطوفة على خطاب ديني منتفخ، تجاوز بكثير من المبالغة تعقيد الحسابات وعقلانية الطرح. وقد مثلت هذه الأسباب، مع غيرها، دوافع لـ«انقلاب» السيسي على «الشرعية».
ماذا في نتائج «الانقلابات»؟
أبعد النميري إلى مصر حيث مكث فيها خمسة عشر عاماً قبل أن يعود إلى السودان العام 2000. وما زالت تجربة الجنرال سوار الذهب توصف بالنموذجية في دول العالم الثالث، فيما الإرث السياسي للنميري يكاد يندثر.
في إيران، حكم مصدق بالإعدام وخفف الحكم إلى ثلاث سنوات وضع بعدها في الإقامة الجبرية. استمر قيد الإقامة حتى وفاته العام 1967. بعد اثني عشر عاماً، أطاحت الشاه ثورة رفعت شعارات أكثر راديكالية من تلك التي طرحها مصدق. ورغم تحول إيران إلى دولة إسلامية تكاد تحصر رموزها بمرحلة ما بعد الثورة، فقد حافظ مصدق على صورته لدى قطاع كبير من الإيرايين كرمز وطني تحرري.
في تشيلي، حين أطلقت دبابات الجيش النار على القصر الرئاسي الذي حوصر أللندي داخله مع ثلة من أنصاره، طلب الأخير ممن كان برفقته الاستسلام، وفضل أن يموت وحيداً. بقي قائد الانقلاب، الجنرال بينوشيه، على رأس الدولة حتى العام 1990. لكن لعنة آلاف الذين قضوا في عهده ظلت تلاحقه. فاستدعي للمحاكمة بتهم تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان، وقضى بسكتة قلبية أثناء وضعه تحت الإقامة الجبرية العام 2006. اليوم، ينتصب تمثال سالفادور أللندي في قلب العاصمة التشيلية سانتياغو.
في مصر، يمكن الزعم أن التاريخ لم يصدر حكمه بعد، وأن كل طرف ما زال قادراً على تجيير هذا الحكم لمصلحته.
ويمكن القول إن الحكم معلق على من يدفع في اتجاه توسيع بقعة الدم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2177925

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2177925 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40