السبت 20 تموز (يوليو) 2013

رواية مسلمة في الصين

السبت 20 تموز (يوليو) 2013 par علي عقلة عرسان

يلاحقني بؤس هؤلاء في أكثر الأوقات، عبر الفضائيات على الخصوص وفي الأماكن التي تتفجر بالناس ويتفجر فيها الناس تطرفًا يؤدي إلى الموت.. وأينما جلت ببصري وتابعت بقراءاتي أجد احترابًا ودمًا يسيل ونُذرًا بموت ودمار، وأحقادًا تقود أهلها إلى التهلكة.. لذا أردت أن أخرج من هذه البوتقة قليلًا لأشم الهواء في الفن بعيدًا عن مناقع الموت والحقد والفتن، فاتجهت إلى الصين.

أساء من قال لبعض المسلمين وهو منهم: “إنكم تحملون عقيدة تصلح للمتاحف”، إنه بهذا لا يصلح لمجرد الحوار الذي أعلا شأنه الإسلام وحث عليه وأمر به وأوجب أن يكون بالحسنى، وبيَّنه طريقًا للتفاهم والتقارب والتعايش والتعاون.. وتجاهلُ ذلك المستفز لحقيقة الإسلام ودوره جهلٌ وغطرسة وتهافت، فالحقيقة أن الإسلام موجود بحيوية في كل المجتمعات الحية، وهو يصلِحها ويصلح لها، ويحيي الإنسان ويغني الحياة، ويضيء طرق التجدد والتطور بأبعادهما الروحية والمادية، الدنيوية والأخروية، حين يتفقه به المرء ويتمثله في سلوك ويتعامل مع الآخرين وفق تعاليمه وقيمه وأحكامه: “بأفق تسامح عالٍ، وقيم سامية، وحرية متألقة بعبودية للخالق وحده، ومساواة بين الناس أيًّا كانت عقائدهم ومشاربهم وانتماءاتهم وهوياتهم القومية والعقائدية، ولجوء إلى الحكمة فيما يخرج عن الإرادة ويقتضي الصبر، وترك الحاكمية لله فيما ينشب بين الخلق من خلافات شتى، لا سيما ما يكون من ذلك حول الاعتقاد الديني على الخصوص”، فقد قال تعالى: “اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” الحج: 69
لقد ضيق على الناس عيشَهم ودينَهم وأشقاهم في دنياهم ضالون مضللون ومتعصبون يضفون على الدين جاهلية بجهالة عمياء.. وأخرجهم إلى العنت والعنف متطرفون يتحللون من قيم الدين، أي دين، حين يهزأ بهم وبالدين والمتدينين بغاة غوغاء، يلصقون بأتباع الديانات الأخرى صفات تستفزهم وتدعوهم إلى التطرف في الاعتقاد والدفاع عن عقائدهم وأنفسهم وخياراتهم في الحياة. حدث هذا ويحدث في كل البلدان والأزمان بين أتباع كل الأديان، وبين أتباع المذاهب في الدين الواحد.. ولا يكاد يخلو بلد أو مجتمع من متطرفين مستفزين ومعتنقين مسالمين يذهب بهم الاستفزاز إلى حدود الغلو والتطرف.
وفي وطننا العربي يكثر الاستفزاز الديني والرد عليه، وفي العالم الإسلامي نجد حالات كثيرة من العدوان على المسلمين بعضها يبلغ حد الإبادة كما هي الحال مع أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار.. ونلمس معاناة المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية وبعض البلدان الأوروبية وفي مناطق من روسيا الاتحادية وفي الصين، لا سيما منطقة شينجيان أو تركستان الشرقية.. لكن يبدو أن التطاحن السياسي الذي يقحم الخلافات الدينية والمذهبية في تياره وشعاراته وتفاصيله يحتل موقعًا متقدمًا في كثير من البلدان العربية في هذا الزمن.
يلاحقني بؤس هؤلاء في أكثر الأوقات، عبر الفضائيات على الخصوص وفي الأماكن التي تتفجر بالناس ويتفجر فيها الناس تطرفًا يؤدي إلى الموت.. وأينما جلت ببصري وتابعت بقراءاتي أجد احترابًا ودمًا يسيل ونُذرًا بموت ودمار، وأحقادًا تقود أهلها إلى التهلكة.. لذا أردت أن أخرج من هذه البوتقة قليلًا لأشم الهواء في الفن بعيدًا عن مناقع الموت والحقد والفتن، فاتجهت إلى الصين، وتوقفت عند تجربة مسلمين من قومية “هوي” ترصدها كاتبة مسلمة تدعى “هوه دا أي هدى”.. وأحببت أن أشرك القارئ الكريم في التعرف على تجربة إسلامية تكاد تكون فريدة في مجتمع صيني معظمه من قومية الهان، ويأخذ بالكونفوشيوسية بعد الانفتاح وبالبوذية والهندوسية، ولديه أقليات دينية أخرى بينها أقليات مسلمة.
الرواية التي تقدم تلك التجربة هي رواية “عاشق اليشم” لهوه دا “أو هدى”، وهي من الروايات الصينية المعاصرة لكاتبة مسلمة؛ جعلت أحداث روايتها تدور في بكين ولندن بالدرجة الأولى، ويكتوي أبطالها بنار المعاناة والحرب والفقر، ويعيشون عصر الثورة القاسي، ثقافية وغير ثقافية، وإطلالات التحديث بالفهم الضيق والواسع والمتضارب أحيانًا للكلمة، ويتمسكون بدينهم وهويتهم الحضارية.
وترصد الرواية بحب لا ضفاف له تفاصيل تتعلق بفنون صناعة اليشم وتجارته وما يفرضه التعلق به على عشاقه من تكاليف. إنه يوفر لهم بعض الكسب، وحين يقبل الحظ وتواتي الظروف يدرّ ربحًا ويوفر شهرة واسعة، ولكنه يمتص ضوء العينين وحيوية الروح وطاقة الجسد. ومن الصعب أن أنسى لوحات فاحمة في هذه الرواية مثل: موت الفنان اليشمي الكبير ليانغ وراء آلته الصغيرة وهو يعمل لينجز تجسيد سفينة الملاح المسلم “تشنغ خه” في رحلته البحرية التي تمت قبل خمسة قرون وزار فيها عُمان ووصل إلى عدن، ينجزها على اليشب تلبية لما طلبه منه التاجر لزبون بريطاني. هو “هونت”، إن الفنان الكبير ليانغ يقول بصدق وعزم: “.. لا لم أقبل هذا العمل للاحتفاظ بسمعة محل التحف النادرة، أو لإظهار مهارتي الخاصة، ولا طمعًا في هذا الثمن، بل صممت على إنجاز هذا العمل لأن تشنغ خه مسلم، ومثلنا من قومية هوى هوى.” … وحتى يعرف الأجانب أن مسلمي الصين قد قاموا بواجبهم نحو وطنهم بصورة جيدة".
ومن الصعب أن تغيب عني صورة البنتين اللتين أنقذهما صبيّ والدهما، “أجيره”، من الحاجة وأنقذ سمعة محل معلمه والصنعة التي أنضم إليها، ولا ما حققه من نجاح، ثم ما آل الأمر إليه من بعد حين وقعت الحرب وتم التضييق على ممتلكات أصحاب الصناعات والتحف الجميلة، حيث غادر ملك اليشم إلى لندن ليعيش في الخطيئة وينقذ صناعات فنية، وكاد يفقد روحه وسعادته وسمعة الأسرة لولا جبروت زوجته التي سكتت وتجاوزت محنة زواجه من أختها، والدين يمنع ذلك الزواج المحرّم والمجتمع يدينه.
جميلة رواية عاشق اليشم، وعلاقات شخوصها شفافة وقوية. الحب فيها جارف ولكن في خضم التضحية والتسامي. النشوة الوقحة لا تكاد تلمس لها حضورًا فيها، والنتائج المأساوية التي تترتب أحيانًا على تصرف الأسرة من دون معرفة بعض الأفراد ومن دون موافقتهم لا تقدم تقاليد مجتمع صارم ولا حرية بلا ضفاف مما يدخل في باب التحلل والانفلات.
في هذه الرواية نلمس التحول في العلاقات والمواقف، ونوعًا من الصراع للمحافظة على تقاليد في أوساط شباب يحاول أن يثور على التقاليد، وأقليات ترى هويتها وخصوصيتها في المحافظة على تقاليدها وعاداتها وجوهر عقيدتها وثقافتها وخصوصيتها، وترى نفسها متهمة أو محاصرة بنوع من القصور ولذا تستنفر قواها للدفاع عن نفسها وإثبات ذاتها.
كيفما حاولت التملص تلاحقني مأساة هلال: الفتاة الجامعية الرقيقة المسلمة، والضحية لزواج محرم إسلاميًّا من غير مسلم، والمصابة بمرض في القلب من دون أن يعرف أحد بإصابتها إلا بعد فوات الأوان، هلال العاشقة لأستاذها من دون أمل لهما في الزواج، لأن ما يفرق بينهما كبير ويقف على رأس ما يفرق أو ما فرّق بينهما “الدين” ـ على الرغم من السؤال الاستنكاري في الرواية: “وهل هلال تعتنق الدين”، حيث قيادة المجتمع شيوعية؟! ـ هلال التي تعاني من المرض حتى الموت ترتسم مأساتها مؤثرة إلى أبعد الحدود، وتغوص في أعماق نفس المتلقي الذي يصعب عليه أن يتخلص من تأثيرها.
إن سيدة أيضًا في هذه الرواية، “عاشق اليشم”، تمسك بزمام الأمور وتقود البيت وترسم الخطط، وتحرم نفسها من الراحة والسعادة، بعد أن وجدت نفسها محرومة منهما على نحو ما، في ظل الصراع من أجل الحياة والصراع فيها، هي السيدة هان؛ إنها تحافظ على البيت والتقاليد والعقيدة وتريد أن تموت مرتاحة بعد أن تؤدي واجباتها على أكمل وجه.:
تقدم الكاتبة هدى “هوه دا” في روايتها عاشق اليشم علاقتين إنسانيتين تكشف من خلالهما طبيعة الصلات الاجتماعية وعمق العلاقات الإنسانية في المجتمع الصيني، على الرغم من تعدد القوميات والأديان والتوجهات الفكرية. فهلال هان (1943ـ1963) الفتاة المسلمة من قومية هوي تحب الأستاذ تشو البوذي من قومية الهان، وتنمو تلك العلاقة البريئة التي نشأت في حرم جامعة بكين بين طالبة وأستاذها متجاوزة حدود الأديان والقوميات، من دون وعي بتلك الحدود في بدايتها، وتتحول بعد موت هلال إلى صلة روحية متينة تجمع أرواحًا وراء حدود الموت والحياة.
تقدم المؤلفةُ الأستاذَ تشو: رقيقًا ودودًا وفيًّا صافيًا كما آلة الكمان التي يعزف عليها. ومنذ لحظة لقائه الأولى بهلال تنشأ بينهما علاقة تتبدى مع الأيام على أنها الحب: وبدا لهلال “الحب بكل وضوح شعورًا نزيهًا، ينبت في قلب الإنسان، ثم يتنامى ويخلد فيه أبدًا”. وعلى الرغم من نفور والدة هلال “خالتها” من هذه العلاقة، وإفهام الأستاذ تشو الذي طلب الزواج من هلال بأن زواجه منها غير ممكن:
السيدة هان: إنك لست من ديننا!!
الأستاذ تشو: الدين؟! وهل هلال تعتنق الدين؟!
السيدة هان: طبعًا!! كيف يمكن للمسلمين ألا يعتنقوا الدين الإسلامي؟ إننا نؤمن بالله أما أنتم، أبناء قومية هان، فتؤمنون ببوذا...
الأستاذ تشو: لستُ مؤمنًا ببوذا ولا بأي دين آخر، أحترم عقيدتكم الدينية، الإسلام يدعو إلى السلام، والتحابب، في صالح البشر، والدين الإسلامي يجعل المرء نبيلًا ويطهر روحه، لدى المسلم الورِع احترام للناس.
السيدة هان: إن الاحترام لا يعني الاعتقاد....".
إن هلال وتشو “يشتركان طبعًا في وطن واحد ولغة واحدة وهدف واحد ولون بشرتهما واحد...” إلا أن هناك فرقًا يجعل السيدة هان تستنكر في أعماقها قوله “لستُ مؤمنًا بأي دين” وتنهي الحوار بقولها: أمّا زواجكما فلن نوافق عليه حسب قواعدنا الإسلامية، ويحسُن بنا أن نتوقف عند هذا الحوار.“.. أقول على الرغم من نفور والدة هلال هان وقرارها بإيقاف الحوار يبقى الأستاذ تشو متعلقًا بهلال؛ ويفقد بوفاتها ما لم يفقده أحد من أفراد أسرتها، ويبقى ما قالته له هلال في وقت سابق رفيقًا لروحه وهاديًا له:”إنني مثلك تمامًا صاحبة روح وقلب زاخر... لست أتكلم معك بحكم العادة والعرف، بل لستُ أتكلم معك مستعينة بالجسم البالي، ولكن أتكلم معك بروحي كأننا بعثنا نحن الاثنين من القبر ووقفنا عند قدمي الله متساويين لأننا شخصان متساويان."
إن الأستاذ الشاب تشو الذي تعلق بهلال عاش علاقة حب أظهرت إنسانيته وصقلت جوهرها أكثر مما حطمت جوهر الإنسان فيه، وقد بقي روحه ووجدانه ملتصقين بهلال على نحو لم يبرحا معه القبر الذي نزل في حفرته كواحد من أفراد الأسرة ليضع جثة هلال فيه مع أخيها نجم السماء يدًا بيد.
وفي لقاء الأرواح والقلوب ومُجتلى القيم ذاك، تقدم “هوه دا” صورة لتعايش وتعاون وتفاهم عضوي بين القوميات، أو تريد أن توفر الدعوى لذلك في ضوء الإنساني والوطني؛ وتتسامى بهذه الصورة مع المشاعر والقيم إلى درجة تميزها في الأداء عن كثيرين ممن يتوطّن الحقد العنصري في قلوبهم؛ وتجعل ختام روايتها هذه الكلمات المتألقة في صباح ندي على خضرة من الطبيعة وفن اليشم الزمردي البديع: “.. وتحت ضوء القمر، بجانب تلك الشجرة ـ شجرة الكمثرى في الحديقة التي كانت مقبرة المسلمين ـ ارتفع لحن كمنجة بطيء لطيف كأنه نشيج أو مناجاة، يحكي قصة غرامية قديمة رائجة في الشرق ومعروفة لدى الجميع وهي”ليانغ شان بوه وحبيبته تشو ينغ تاي.“وهذا يؤكد ما ذهبت إليه المؤلفة حين قالت على لسان هلال لوالدتها”خالتها“:”عندما يندمج قلبان بعد اجتياز مسافات طويلة ويتبادلان الثقة المطلقة، وعندما يخفق كل قلب من القلبين قائلًا للآخر: لن أنفصل عنك إلى الأبد، فإن الحب قد وحّد بين هذين القلبين، وما من قوة تستطيع تفريقهما."
وبالمقابل فإن لأخيها نجم السماء قصته المحزنة هو الآخر مع حبيبة لا يوفّق إلى الزواج منها. فنجم السماء، أخو هلال، يحب فتاة بوذية ويتعلق بها وتخلص له، ويقرر الزواج منها، إلا أن أمه تدبر مكيدة تفضي إلى اعتقاد نجم السماء بانصراف حبيبته عنه واعتقاد تلك الفتاة بأن نجم السماء غدر بها؛ فعلت الأم ذلك لأنها لن ترتاح ما لم تزوج ابنها من فتاة مسلمة. وقد تزوج نجم السماء من فتاة مسلمة هي تشن تشو يان، ولكنه لم يسلَم من توجيه النقد لموقفه وسلوكه، فقد واجهه زملاؤه في العمل بتهمة الخداع والغدر، كما واجهته الفتاة نفسها بذلك. وكادت هذه المواجهة المصحوبة بالاحتقار، لا سيما من قبل زملاء المهنة، أن تودي بنجم السماء إلى الجنون أو الانتحار في العاصفة الليلية الثلجية الهوجاء التي اكتسحت المدينة كما اكتسحت نفسه وجعلته يهيم في الطرقات.
ولكنه لم يستطع أن يغير من الأمر شيئًا: “إلهي الذي في السماء: لماذا يتعرض الإنسان لبلايا متوالية؟! أنقذني يا رب واهدني إلى الطريق المستقيم (...) وشق القمر الغيم الكثيف في تلك الليلة العاصفة ليطل على نجم السماء التائه بصحبة ظله كشبح على خشبة مسرح مظلمة.” إن القدر يعبث بنا أو أننا نتحول على نحو ما إلى قدر حيث يعبث بعضنا ببعض.
وفي القلوب الأربعة: هلال وتشو، نجم السماء وفتاته البوذية، صفاء العلاقة الإنسانية التي تؤسس لها الطبيعة البشرية، على الرغم من عدم نجاح أي من الشخوص الأربعة في تحقيق علاقة اجتماعية تامة. إن التقاليد وحراسها ينتصرون ولكن هؤلاء الشباب يخترقون بعزم كبير جدار تلك التقاليد شيئًا فشيئًا... والصراع يستمر.
لقد نذرت جيون بي “السيدة هان” ابنة الفنان اليشمي الكبير ليانغ وزوجة ملك اليشم الذي خلفه، نذرت نفسها لحماية التقاليد الأسروية والأصول المرعية، وكانت تعمل بوحي من اعتقادها العميق ورغبتها القوية... تعمل لتحقيق أمل والدها الذي اختلط دمه بغبار اليشم، ومات ولم يحقق الهدف الذي رأى فيه راحة روحه حيًّا وميتًا، ليس بدافع وفائها لذلك الوالد فقط وإنما لإيمانها أيضًا بذلك الذي كان يرغب في تحقيقه ليموت بسلام واطمئنان، فقد كان هاجسه الملحّ يتجلى في قوله لهان تسي تشي الصبي الذي التحق بالعمل معه: “فإذا قدر لي أن أرى ابنتيَّ تُزفَّان إلى أسرتين مسلمتين تجدان ما يسد الرمق، وأراك تتزوج وترث في محل التحف النادرة، فإنني أنا وزوجتي سنذهب إلى لقاء ربنا بقلوب راضية مطمئنة..” ونجحت جيون بي في استرداد محل والدها وسمعة ذلك المحل، وأصبح زوجها هان ملك اليشم في الصين... ولكن أشياء كثيرة أخرى لم تتحقق، كان أكثرها فجيعة ومأساوية ذاك الذي واجهته في لحظة مذهلة قبل وفاة زوجها، وبدت كأنما يعبث القدر عبثًا “مَضْكيًا” “مضحكًا مبكيًا” بكل ما قررت وقدّرت ودبرت لتكون مسلمة ومحافظة على الأصول والاستقامة ونقاء الأسرة وتماسكها وسمعتها!! فقد اعترف زوجها السيد هان تسي تشي، وهو في مرض الموت، بين يديها، بأنه لم يكن مسلمًا:
"هان: يا جيون بي، إني خائف..
جيون بي: لا تخف. دع كل شيء إلى الله، وأخلص قلبك لله، فلن تخاف بعون الله.
هان: إني مذنب... أيمكن أن أعتبر نفسي مسلمًا؟!
جيون بي: هان.... كيف يمكن لمسلم مؤمن بالله أن يتريب “يرتاب” بكونه مسلمًا؟!“”عشرات السنين انقطع عن الصلاة والصوم، وتلاوة القرآن الكريم“، حتى أنّه لم يؤد فريضة الحج عندما مر بقناة السويس فمن أين له أن يكون مسلمًا؟! في أعماق قلبه إثم مقيم قد يودي به إلى أعماق جهنم، فقد تزوج من أخت زوجته، من بينغ يوي وأنجب منها هلال، وهو زواج محرم، بل هو الزنا الأكبر...!؟ وفي خضم هذا الأسى.. وبحضور كنته وابنه نجم السماء، قال هان لزوجته:”إني لست مسلمًا من قومية هوي.. كنتُ يتيمًا من قومية هان.. خدعتكم كما خدعت معلمي.“و”بهتت السيدة هان وابنها وكنتها!! هل الدم الذي يجري في عروق خلف أسرة هان دم مزيج من قومية هان وقومية هوى المسلمة؟!"
كانت السيدة هان أمام فجيعة من نوع خاص، فجيعة أمام أسرتها ومجتمعها وروحها وربها... فهي التي دافعت عن الإسلام والتقاليد ونقاء الأسرة وحرصت على اختيار زوجة مسلمة لابنها وقامت بما قامت به من أجل ذلك، كما حرصت على عدم زواج هلال من بوذي، تكتشف أنها ربما كانت طوال حياتها زوجة لشخص بوذي من قومية هان ادَّعى أنّه مسلم؟!
لقد صعقت السيدة هان، واستنفرت كل ما في تاريخها وتاريخ قوميتها من عزم لتصمد وتواجه الكارثة... لن تدعه يدمر نفسه ويدمر الأسرة“.”أنت مسلم حقيقي من قومية هوى! لا تكن مشوش الذهن! هيا تب إلى الله وتشهّد، واذهب مع الإيمان بالله.. وبهذا تكفّر عن ذنبك..(....) فتشهّدَ بصوت ضعيف متقطع: لا إله إلا الله محمد رسول الله.".
لقد نجحت السيدة هان، نجحت ولو في اللحظة الأخيرة، إن هان تسي تشي نطق بالشهادة، ولم يكن ليمر بخاطرها قبل ذلك أنّه غير مسلم... إنه من الأسرة وفي محيط المسلمين ويقوم بكل شعائرهم... ولكن حتى إذا كان لحِق بذهنه تشوش بعدما مر به من مآسٍ؛ وبعد موت هلال وحكاية بينغ يوي والكارثة التي ألحقتها به الثورة الثقافية... فإنه أخيرًا سيموت على الإسلام بشكل مؤكد، فقد نطق بالشهادة. تركت هان يمضي لسبيله بأمان“أمسك هان تسي تشي الشمعتين بيديه المتشنجتين، ومضى في الظلام مترنحًا يحمل معه الندم والأسف والخوف والرجاء.”
كانت السيدة هان أمام فجيعة من نوع خاص، فجيعة أمام أسرتها ومجتمعها وروحها وربها.. فهي التي دافعت عن الإسلام والتقاليد ونقاء الأسرة وحرصت على اختيار زوجة مسلمة لابنها وقامت بما قامت به من أجل ذلك، كما حرصت على عدم زواج هلال من بوذي، تكتشف أنها ربما كانت طوال حياتها زوجة لشخص بوذي من قومية هان ادَّعى أنّه مسلم؟! قالت هان: مسلم عاصٍ. لقد لقنته الشهادة ونطق بها، وارتاح قلبها قليلًا. ولكن هل نجحت تمامًا في جلب الاطمئنان التام لروحها بعد كل هذا العناء الطويل؟!
إنها تدفع اصطفاق أجنحة الغربان الشريرة والأفكار السيئة من فوق رأسها وبين عينيها، ويسيل دمعها ممزوجًا بالقهر، وتريد أن تتماسك وتحفظ الأسرة.. تحفظ ما كانه أبوها ليانغ الذي مات وهو يكافح ليجسد سفينة “تشنغ خه” في يشم يتوثب حياة، وما سيكون عليه نجم السماء ولدها، ويوسف وزهراء حفيداها.
كثير من البشر يصحون متأخرين، وكثيرون من المجربين تفشل تجاربهم، ولكن هذا لا يعني النوم والكسل وترك التجربة. وأنا أقدر تقديرًا تامًّا رأي الكاتبة الذي أبدته في كلمة لها حول الرواية إذ قالت: “إن المرء في حاجة إلى المثل والوهم والجمال، وكذلك في حاجة إلى التصور الجميل والوجدان الجميل لتكوين نفسه” وقولها أيضًا: “وكان لا بد أن يفهم المرء حق الفهم أن التاريخ عديم الرحمة، وأنه ما من أحد يستطيع تغيير التاريخ أو اختلاقه.”
تلك حقائق التراجيديا الكامنة في أعماق شخوص رواية عاشق اليشم التي أبرزتها “هوه دا” بفنية عالية وتشويق وقدرة على الأداء والغوص في عمق النفس البشرية، مستفيدة من التاريخ، مقدمة غذاء معرفيًّا ووقائع عاشتها الشخوص، وتقاليد مجتمع المسلمين في بيجينغ “بكين”، وما تزخر به حياة الأسر المسلمة والأقليات من هموم وهواجس وتطلعات.. وما يعمل من أجله ويتطلع إليه مجتمع الصين الأوسع من حياة وعلاقات وقيم في ظل التحديث، وما بعد الثورة الثقافية التي لم تترك المؤلفة آثارها على شخوصها من دون إيضاح، لا سيما ما تعلق من ذلك بملك اليشم هان تسي تشونغ وما يملكه من كنوز الحضارة الصينية في هذا المجال.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 89 / 2182053

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2182053 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 35


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40