الأربعاء 25 أيلول (سبتمبر) 2013

عودة روسية إلى المسرح الدولي

الأربعاء 25 أيلول (سبتمبر) 2013 par فيصل جلول

لا بد من العودة إلى مطالع الألفية الثالثة للوقوف عند المحطة الأولى للتقدم الروسي نحو صدارة المسرح الدولي، وتحديداً في العام ،2002 حيث اندلعت الأزمة العراقية بتخطيط وتصميم من البيت الأبيض . كان الرئيس الأمريكي بوش الابن يريد حرباً على العراق بتغطية من الشرعية الدولية . رفضت فرنسا هذه الحرب واعتبرتها غير مقبولة وغير مبررة . اصطفت ألمانيا إلى جانب فرنسا وانضمت إليهما روسيا ضمن محور ثلاثي نجح في جعل تلك الحرب ظالمة وباطلة، وأسهم مساهمة كبيرة في إخفاق الاحتلال الأمريكي لبلاد الرافدين .

كان جاك شيراك الرئيس الفرنسي صريحاً وعنيدًا في رفضه للحرب إلى حد التهديد باستخدام “الفيتو” في مجلس الأمن اذا ما أصرّت واشنطن على طلب شرعية غير مستحقة . ولربما يكون هذا التهديد الأول من نوعه في علاقات البلدين منذ زمن بعيد يرقى إلى جلاء القواعد العسكرية الأمريكية

من فرنسا في عهد الجنرال ديغول بعيد الحرب العالمية الثانية .

كان “الفيتو” الفرنسي الافتراضي على أهميته يخفي حدثاً سيكون بالغ الأهمية بعد عشر سنوات في الأزمة السورية، أعني بذلك اصطفاف موسكو في الحلف الثلاثي المناهض للحرب . منذ ذلك الحين بدأت بوادر التقدم الروسي إلى صدارة المسرح الدولي بالظهور عبر مبادرات هجومية مهمة كتأسيس منظمة شانغهاي التي تضم القوى الأكثر تأثيراً في أوراسيا، واتحاد الدول المستقلة الذي يضم البلدان المحاذية لروسيا التي تغطي نحو 99 في المئة من العالم السوفييتي السابق .

هكذا تبدو محطة حرب العراق (2003) مهمة للغاية في تحديد مسار ومراتب القوى المؤثرة على المسرح الدولي . كانت واشنطن يومها القوة الأعظم بلا منازع، وكانت تنظر إلى روسيا بوصفها قوة إقليمية بعد خسارتها الحرب الباردة، وهذه النظرة عكستها مستشارة بوش للأمن القومي كونداليزا رايس، إذ أكدت بعد دخول الجيش الأمريكي إلى بغداد أن أمريكا ستعاقب معارضي الحرب في الحلف الثلاثي عبر إهمال روسيا ومسامحة ألمانيا ومعاقبة فرنسا، ويعين هذا الكلام مراتب الأقطاب الثلاثة بوضوح، فالقوة الأعظم تهمل وتسامح وتعاقب وهي أفعال لاتستخدم عادة في علاقات الدول الندية المتساوية .

بيد أن حرب العراق معطوفة على حرب أفغانستان ستحلق أذى كبيراً بالولايات المتحدة الأمريكية على كل صعيد وستضطر واشنطن لاصدار وثيقة بيكر - هملتون التي تنطوي على طلب المساعدة من خصومها لتسهيل انسحابها من العراق والتفاوض مع اعدائها للانسحاب من أفغانستان، ومن ثم مواجهة أزمة الأسواق العالمية الناجمة في أحد أهم أسبابها عن تكلفة الحربين الباهظة، وسينعكس هذا الضعف على نفوذ واشنطن في أمريكا اللاتينية التي شهدت انبثاق أنظمة سياسية شديدة العداء في حديقة أمريكا الخلفية، لا سيما في فينزويلا وبوليفيا والأرجنتين .

مقابل التراجع الأمريكي كانت روسيا الاتحادية تتقدم بخطى حثيثة بعد أن تخلصت من المشكلة الشيشانية بواسطة العنف وعبر تسوية الكيان الشيشاني بالأرض، وضربت البنية التحتية للمنظمات غير الحكومية الممولة من الخارج التي كانت تلعب دوراً مهماً في الضغط على السلطة الروسية جراء انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير، وحجّم بوتين المعارضة الداخلية الليبرالية ووصل إلى حد الدفع بالمعارضين إلى السجن .

وفي الخارج، لم يتردد مدفيديف، ومن ثم بوتين، في مساعدة حليف روسيا الكازاخستاني نور سلطان نزارباييف على البقاء في السلطة بمواجهة خصومه المدعومين من الغرب، واستوعب بسرعة الاضطرابات “المصطنعة” في قرغيزيا عام 2005 وهاجمت قواته جورجيا في صيف العام ،2008 الأمر الذي أدى إلى تغيير جذري في السياسة الخارجية لهذا البلد، ومثله فعلت أوكرانيا إذ رجعت للاصطفاف إلى جانب روسيا في السياسة الخارجية . أما أزمة الأسواق العالمية فقد مرت على بلاد الروس بأقل قدر من الخسائر .

ثمة من يعتقد أن تجرؤ فرنسا على رفع “الفيتو” بوجه القوة الأعظم في العالم عام 2003 كان مبنياً على قناعة راسخة بأن السلطة في العالم ستكون بيد الغرب بصورة مطلقة، وأن الفرصة مؤاتية لرسم حدود بين الغربيين أنفسهم، بيد أن “الفيتو” الروسي المثلث عام 2013 معطوفاً على جرأة صينية غير معهودة و”فيتو” صيني مثلث أيضاً يعكس بوضوح كاف شعور البلدين بالضعف الأمريكي والغربي المتواصل، وبالرغبة الشعبية الأمريكية المتزايدة في وجوب الانكفاء والكف عن لعب دور الشرطي الأوحد في العالم .

على الرغم من ذلك، يخطئ بعض المحللين العرب عندما يرسمون صورة مانوية للعلاقات الروسية - الأمريكية، ويخطئون أيضاً عندما يظنون أن العالم يعود إلى أجواء الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، ولا يصيبون كبد الحقيقة عندما يتوهمون أن روسيا والولايات المتحدة أصبحا قطبي العالم على قدم المساواة، ذلك أن أمريكا مازالت وفق الباحثين المختصين القوة العسكرية الأولى في العالم، وتأتي الصين في المرتبة الثانية ولربما احتلت روسيا المرتبة الثالثة، أما في المقاييس الاقتصادية فما زالت واشنطن تحتل أيضاً موقع القوة الاقتصادية الأولى في حين تتراجع روسيا إلى مراتب خلفية بعد الصين والمانيا وربما البرازيل . . إلخ .

يسمح ما سبق باستبعاد فرضية الحرب الباردة التي كانت قائمة على أسس عسكرية وإيديولوجية واقتصادية، وكل هذه الأسس ما عادت قائمة في عالم متعولم وتدور حركته الأساسية في اقتصاد السوق الواحد والكلي القدرة .

يبقى القول إن الدينامية الروسية التي شهدناها مؤخراً والصعود الروسي السريع نحو صدارة المسرح العالمي ناجم ليس عن العناصر والأسباب الداخلية والخارجية المذكورة آنفاً فقط وإنما أيضاً عن شعور بالخطر جراء الاصرار الغربي على طرد الروس من المياه الدافئة وحملهم على الارتداد الدفاعي وقبول دور القوة الإقليمية المتواضعة في محيطها . لا ليس هذا ما يريده بوتين الموصوف مجاملة بالقيصر، فعينه شاخصة نحو قلب النظام العالمي الجديد أي أوراسيا ونحو عملة جديدة في فضاء “البريكس” تحل محل الدولار وتعبر بدقة عن التعددية القطبية التي يتطلع إليها بشغف .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165275

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165275 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010