الجمعة 2 تموز (يوليو) 2010

«محاصرات» في ثلاثية القهر!.. فلسطينيات بعيون إسرائيلية

الجمعة 2 تموز (يوليو) 2010 par بشار إبراهيم

الاقتراب من أمر ما، هل يجعلك تفهمه أكثر، أم يجعلك تألفه أكثر؟..

ربما، وبهذه الصيغة تقريباً، بات هذا هو السؤال الذي يشاغلني منذ وقت، والذي ازداد اضطراماً، منذ أن أمعنتُ في الدخول في عالمي السينما الفلسطينية، والسينما الإسرائيلية، كل من جهتها، وعلى تناقضهما!..

تحاول بعض الفضائيات العربية الإجابة على هذا السؤال، بطريقتها الخاصة، إذ تعمل (بسوء، أو بحسن نية) على خلق الألفة بينك، وبين ما لم تكن تتوقعه أبداً: هكذا يصبح منظر الأشلاء التي تترع بها نشرات الأخبار، الموت والقتل والتدمير، تحطّم طائرة، اصطدام قطارين، إعصار تسونامي، سقوط برجي التجارة العالمي.. أمراً «مألوفاً»، إلى حدّ فاجع، حتى أنه لن يمنعك من استكمال تناول طعام العشاء، أو المضي، بعد قليل، إلى متابعة برنامج المسابقات، أو التسالي، أو رصد مفارقات تلفزيونات الواقع..

الفضائيات، كذلك، تجعلك تألف رؤية جند الاحتلال، على شاشاتها، حتى تصبح (أنتَ) عمّا قليل، تنتبه إلى ملامح بعضهم، فتخذلك وسامة بعضهم، ورقِّة تفاصيل الوجوه، التي تعرف أيَّ معاناة تتولَّد من بين أيدي أصحابها؛ على وقع بساطيرهم، أو فرقعة رصاصاتهم، أو دويّ مدافعهم.. كما تجعلك تألف حضور قادة «العدو الإسرائيلي» ليس على شاشات العرب، فقط.. بل أيضاً على مدرجات مطارات المدن العربية، وقصور حكامها، وفنادقها، ومصافحاتها!..

«الألفة المذهلة» هذه، تتحوّل إلى سؤال جارح، كما عندما ترى صورة الإسرائيلي على شاشات العرب، متحدثاً بالعربية اللكناء، ومحاججاً ومنافحاً عن صهيونيته!.. كذلك عندما ترى صورتك، العربية الفلسطينية، أو بعض مفرداتها، كما يقدمها لك الإسرائيلي، بكاميرته!..

ربما يكون الكلام عن «الألفة» مدخلاً مناسباً للبدء في الحديث عن فيلم «محاصرات»، الذي أنجزته المخرجة الإسرائيلية «أنات إيفين» في العام 2001. هذا الفيلم التسجيلي الطويل ( مدته 71 دقيقة)، والذي نال عدداً من الجوائز، ربما أبرزها جائزة مهرجان لايبزيغ الشهير للأفلام التسجيلية. فالمثير أنك سترى، في كل لحظة من هذا الفيلم، مدى «التآلف» القائم بين المخرجة الإسرائيلية، وشخصيات أفلامها، من النساء الفلسطينيات اللواتي يقوم الفيلم بحكايته عليهن.

وإشارات «الألفة»، هذه، تتوارى، على الأقل، وراء اعتراف ابن واحدة من هؤلاء الفلسطينيات، بعد شوط من اللعب بالثلج، مع جند الاحتلال، وفي شوارع مدينة الخليل بالذات، قائلاً لوالدته، في لحظة اعتراف، بأنه شعر للحظة، وهو يلعب مع الجندي الإسرائيلي بالثلج، وكأنه يلعب مع «ابن الجيران»!..

تقتربُ من الاحتلال حتى تألفه!.. ويقترب الاحتلال منك، حتى يغدو تفصيلاً يومياً في حياتك!.. ومع ذلك فلا يمكن القول إن «الألفة» كانت هدف المخرجة الإسرائيلية «أنات إيفين» من وراء صنع هذا الفيلم، على الرغم من اعترافها بنشوء هذا النوع من المشاعر فيما بينها، وشخصياتها، من الفلسطينيات اللواتي أمضت قرابة عام في تصويرهن، ما بين صيف العام 1999، وصيف العام 2000، أي قبيل اندلاع أحداث انتفاضة الأقصى، التي اضطرت المخرجة إلى تصوير بعض المشاهد الأخرى، وإضافتها إلى الفيلم.

ومن الجدير ذكره، في هذا الخصوص، أن المخرجة «أنات إيفين» تنتمي إلى تيار (ربما لم يتبلور بعد تماماً) في السينما الإسرائيلية الجديدة، يريد النظر إلى الموضوع الفلسطيني، بعيداً عن القوالب الكلاسيكية، التي أسّسها قادة الصهيونية وروادها العتاة، بل من خلال معطى إنساني يكتشف أزمة الطرفين: المحتل والمحتل (الأول: مُمارسه، والثاني: ضحيته) على السواء!.. حتى لو لم يخرج هذا البعض من المخرجين عن صهيونيتهم تماماً، ولو لم يصلوا إلى المعنى المناسب لحقوق الفلسطينيين. والمخرجة «أنات إيفين»، بهذا المعنى، تنتمي إلى ما يشبه السياق الذي يسير فيه عدد من المخرجين الإسرائيليين، أمثال: عاموس غيتاي، وسيمون بيتون، وإيال سيفان، وآفي مغربي، وعيران ريكليس..

درست «أنات إيفين» الفن والمسرح في لوس أنجلوس، منذ عام 1981 حتى 1984، وخلال عامي 1983 ـ 1984، عملت مديرة وكاتبة للأخبار والأفلام التسجيلية في محطة تلفزيونية أمريكية إسرائيلية، ومنذ عام 1988 حتى عام 1992 عملت في مجلات وعروض في التلفزيون الإسرائيلي. وكانت قد قدَّمت فيلمها الأول عام 1996، بعنوان «تسوية»، وهو فيلم تسجيلي طويل (مدته 52 دقيقة)، عن مجموعة مشتركة من ممثلين إسرائيليين وفلسطينيين، يقومون بجولة فنية في أوروبا، قدموا خلالها عرض مسرحية «روميو وجولييت» لشكسبير.

«محاصرات» بين يدي قهر الاحتلال

يتناول فيلم «محاصرات» ثلاث نساء فلسطينيات هن: نجوى، ونوال، وسهام. يجمع بينهن العديد من القواسم المشتركة فهن أولاً: فلسطينيات يعشن في بيئة فلسطينية نموذجية، في مدينة الخليل على الأقل، سمتها البيئة الشرقية المحافظة. وهن ثانياً: أرامل، توفّي عنهن أزواجهن، لأسباب متعددة، ليس بينها المقاومة أبداً. وهن ثالثاً: يقمن في مبنى يقع وسط مدينة الخليل، على الحافة تماماً، ما بين المنطقة المحتلة التي يسيطر عليها جند الاحتلال، والمنطقة التي تديرها السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق الخليل، الموقَّع في عهد نتينياهو، عام 1997.

المبنى يقوم على الحافة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بشكل نموذجي الانتقاء، فواجهة المبنى ومدخله تتجه نحو المنطقة التي يحتلها الجنود، وخلفية البناء تتجه نحو المنطقة التي تسلمت إدارتها السلطة الفلسطينية، حينذاك، وبالتالي فكل جهة من المبنى تمثل عالماً خاصاً، وكلاهما (مفردين ومعاً)، يختزلان المأساة الفلسطينية بين أيدي الاحتلال، فهذه النساء الفلسطينيات لن تستطيع السلطة الفلسطينية القيام بأي شيء لهن، بل سنرى كيفية التسلل من النوافذ الخلفية إلى المنطقة التي تديرها السلطة الفلسطينية، ولا يقدر على ذلك إلا الأولاد الذين جاوزوا سن الطفولة.

كما أننا سنرى كيف تحوَّل سطح المبنى ذاته، إلى متراس لجند الاحتلال، يطلُّون منه على مناطق السلطة الفلسطينية، ويطلقون نيرانهم حيث شاؤوا، ويسيطرون على المساحات المكشوفة أمامهم. هكذا سنرى الجنود يصعدون درج البناية، فيما النساء منتشرات على الدرج، يكنسنه، أو يشطفنه، أو ينشرن الغسيل على السطح، أو يتبادلن تفاصيل حياتهم اليومية. وأيضاً فيما يمارس أطفالهن لهوهم العابث على الدرج ذاته، الذي بات المتسع المكاني الوحيد لهم، يجلسون أو يلعبون.

إنه شكل من أشكال التداخل المذهل بين جنود الاحتلال، ومجتمع النساء الفلسطينيات الثلاث، وأطفالهن الأحد عشر. ونرجو أن لا يفاجئ المشاهد منظر جنود الاحتلال الصاعدين والهابطين، أو الجنود الجاثمين على السطح، والمصوبين بنادقهم، في هذا الاتجاه أو ذاك، فيما النساء وأطفالهن يحاولون ممارسة حياتهم، بأدنى تفاصيلها، في واقع قهري منقطع النظير.

يبلغ الفيلم ذراه التعبيرية في هذا المجال، عندما نرى النساء الفلسطينيات يقمن بكنس فضلات الجنود، بعد نوبة اشتباك، أو ليلة قصف، بدءاً من خراطيش الطلقات الفارغة التي أطلقوها على فلسطينيين، وبقايا الطعام، وأعقاب السجائر، وصولاً إلى آثار البول الذي أهرقوه بالقرب من خزانات ماء الشرب..

القهر النفسي والجسدي.. في مجتمع محافظ

لا تكتفي المخرجة «أنات إيفين» بالحديث عن الآثار القاسية التي يخلقها الاحتلال، فيحوّل حياة الفلسطينيين إلى جحيم حقيقي، بل ستتوقف ملياً أمام متلازمات القهر الذي تعاني منه المرأة الفلسطينية، على العديد من الأصعدة، خاصة وأنها اختارت نماذج خاصة: أرامل، في مجتمع شرقي محافظ، لا يأبه بحقوق المرأة، ولا بمشاعرها الدفينة، ولا حاجاتها النفسية أو الجسدية، مادية كانت أو معنوية.

أن تفقد المرأة زوجها في مجتمع شرقي محافظ، هذا يعني أنها قد أصبحت أرملة. وإذا كانت الشريعة الإسلامية، بنصوصها الواضحة، والتي لا لُبس فيها، تطلب من الأرملة أن تعتزل العالم، مدة تسميها «العدّة»، والتي تنحصر في قرابة المئة يوم فقط، ومن ثم تعود إلى حياتها، فإن التقاليد والأعراف الشائعة، ذهبت أبعد من ذلك، فوصلت إلى الكثير من المتطلبات التي لا يطيقها بشر، حتى ليبدو في بعض الحالات أن «العدّة» التي يتمناها المجتمع تمتد لتشمل باقي الحياة كلها.

سنرى كل واحدة من هؤلاء الأرامل، وهي تصطلي بنار جحيمها الداخلي، الخاص، والمسكوت عنه غالباً، إذ من المطلوب منها أن تكظم مشاعرها وأحاسيسها، وأن تقف حياتها على تربية أطفالها، وأن تضبط حركتها، في الخروج والدخول، وفي الكلام، قبل الضحك، أو التبرج، أو المزاح..

من تراه، في مجتمع شرقي محافظ، لم يسمع أحاديث الإعجاب (التي ترقى إلى منح صفة البطولة والقداسة) إلى هذه المرأة، أو تلك، ممن فقدن الزوج، فوقفن حياتهن على تربية أطفالهن، أو بقين متعبدات «مترهبنات» في محراب الزوج الراحل، يعشن على ذكراه، ويتوسَّلن في كل لحظة القدرة على الوفاء لذكراه؟..

ومن تراه، لم يرَ أيَّ نظرة قاسية الحكم، صارمة الأداء، يمتلكها المجتمع تجاه الأرملة، فيضعها دائماً تحت مجهر الاختبار، والرصد والمراقبة، ليس من قبل أقربائها، أو أقرباء الزوج الراحل، بل من عموم المجتمع؟..

تضع المخرجة «أنات إيفين» هذه التساؤلات تحت مجهر الكاميرا، وتغتنم فرص البوح المدهش، الذي تنخرط فيه كل واحدة من شخصياتها الثلاث، وكل بطريقتها الخاصة، لتضعنا أمام مأساة إنسانية، يفاقم حال الاحتلال منها، بالطبع.

تتوغل الكاميرا خلف الأبواب المغلقة، وصولاً إلى غرف المعيشة، والمطابخ، وغرف النوم، حيث علب الماكياج، وأصابع الروج، وأمشاط الشعر.. أمام الكاميرا، ستخلع نجوى وسهام ونوال الحجاب، الذي لا بد منه خارج البيت، وسينطلقن على سجيتهن الحميمية، في البيجامات، أو ثياب النوم، أو ملابس البيت.. وسيقلن ما لا تتوقع أن لا يُقال.. عن الحريق الداخلي، عن الزوج الراحل، أو الأقرباء..

ستتمنى إحداهن أن تترمَّل كل نساء العالم، ليعرفن أي معاناة تحيق بالأرملة، كما ستتحدث أخت إحداهن (وتستنطق طفلها الصغير)، عن تمنياتها بموت زوجها، ليس لأنه تزوج عليها امرأة أخرى (ضرّة)، فقط، بل بسبب ممارساته القاسية ضدها، وضد أطفالها.

التحرر.. أولاً..

في حديثها عن ثلاثية القهر: القهر الناجم عن الاحتلال، القهر النفسي والجسدي، القهر المجتمعي المحافظ. لا تمارس المخرجة الإسرائيلية «أنات إيفين» أي مواربة في الكلام، بل إنها تعلن رأيها صراحة بالقول إن الخلاص من القهر الناجم عن الاحتلال، هو بداية السير على طريق الخلاص من القهرين الآخرين، فلا يمكن لمجتمع يعاني من الاحتلال أن يفكر في قضاياه الأخرى، قبل الخلاص من الاحتلال، أولاً وبداية.

ولعل في المشاهد الأخيرة، التي أضافتها المخرجة بعد اندلاع أحداث انتفاضة الأقصى، اعتباراً من 28 أيلول (سبتمبر) 2000، ما يدلل بوضوح على تلك المقولة، فبعد فرض الإغلاق ستضطر نجوى وسهام ونوال إلى حمل القليل من أغراضهن، وأقفال بيوتهن، ومغادرة المبنى الذي أضحى منطقة عسكرية، وبالتالي فقد أصبحن «محاصرات» و«لاجئات».. وهذا أقسى ما يفعله الاحتلال.. واسألوا اللاجئين المحاصرين.. إذا لم تصدقوا!..



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 25 / 2180584

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع فنون مسرح وسينما   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2180584 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40