الأحد 8 كانون الأول (ديسمبر) 2013

نيلسون مانديلا: أي روح سامية صعدت إلى بارئها..

الأحد 8 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par تركي الحمد

في كتابي: “ويبقى التاريخ مفتوحاً: أبرز عشرين شخصية سياسية في القرن العشرين”، كان ترتيب نيلسون مانديلا هو العشرين في قائمة كان المهاتما غاندي يقف على رأسها، وكأن غاندي ومانديلا يشكلان البداية والنهاية وبينهما سلسلة من أبرز الشخصيات السياسية المؤثرة في القرن الماضي، أو كأنهما جزئي غلاف كتاب اسمه القرن العشرون.
بموت نيلسون مانديلا في بداية القرن الحادي والعشرين، تكون صفحة القرن العشرين قد انطوت في هذا المجال، وبدأت صفحة جديدة لا ندري من سيسطر اسمه فيها، سواء خيرا أو شرا، على اختلاف مفاهيم الخير والشر بين البشر. عظمة نيلسون مانديلا لا تكمن في كونه واحدا من أبرز وجوه السياسة في عالم اليوم، فوجوه السياسة كثيرة في هذا العالم، ولا في كونه مناضلا عنيدا وصلبا في سبيل حرية شعبه والقيم التي كان يؤمن بها، فالمناضلون العنيدون والصُّلَبَاءُ كثيرون أيضا عبر التاريخ، ولا حتى في كونه واحدا من أولئك السجناء الذين خرجوا من السجن إلى الرئاسة في دولة كان لا يؤمن بالأسس التي قامت عليها، فدفع ثمنا غاليا من حريته في سبيل تغيير تلك الأسس، ولكنه كسب في النهاية حرية روحه وحرية شعبه وحب هذا الشعب، فمثل هؤلاء كثيرون عبر تاريخ الإنسان، وإن كانوا قلة على كثرتهم. عظمة نيلسون مانديلا الحقيقية تكمن في كونه إنسانية تجسدت بشرا يمشي على الأرض، بكل ما تحمله هذه الإنسانية المجردة من قيم الحب والسلام والعدل والتسامح والصفاء والإحساس العميق بالأخوة بين البشر، مهما اختلفت الجذور التي أتوا منها. أو السبل التي سلكوها، والأدوار التي أدوها خلال هذه المسرحية الإلهية التي نسميها الحياة.
لقد كان دور مانديلا في هذه الحياة هو دور الضمير مجسدا، في عالم فقد في مجمله فضيلة تأنيب الضمير، ودور الصارخ بقيمة الإنسان وحريته وكرامته في مسرحية غلبت عليها التراجيديا الكئيبة والمحبطة، كوميديا سوداء تقطر سما، أين منه سم أنثى العنكبوت السوداء. قلة من الأشخاص عبر التاريخ المعاصر، بل وعبر التاريخ بشكل عام، لعبوا مثل هذا الدور السامي، فكانوا تجسدا لقيم سامية في عالم غير مكترث بالقيم ولا بالجوهر الإنساني للإنسان. عقد لؤلؤي جميل وبراق ينتظم مثل هؤلاء على قلتهم مقارنة بتلك الأعداد ممن نسميهم بالعظماء عبر تاريخ الإنسان على هذه المعمورة، والتي لم تصبح معمورة حقا إلا بوجود مثل هؤلاء، وخاصة في العصر الحديث. إن أشخاصا مثل المهاتما غاندي أو الأم تيريزا أو مارتن لوثر كينغ، وغيرهم أرواح سامية دبت ذات يوم على هذه الأرض، يذكروننا أنه ورغم البؤس الذي يحيط بالإنسان جسدا وروحا، وبرغم قسوة الدنيا وتوحش البشر، فإن روح الإنسان ما زالت كامنة في الأعماق رغم كل نفايات القسوة والتوحش المتراكمة عبر العصور، وهنا يقبع الأمل.. الأمل بمصير إنساني للإنسان في النهاية.
في مقابلة مع إذاعة البي. بي. سي. بعد خروجه من سجنه الجسدي الطويل، وهي مقابلة أوردتها في كتابي آنف الذكر، يقول مانديلا إجابة على سؤال قارنه بالمسيح عليه السلام في سيرته: “لم أكن مسيحا في يوم من الأيام، ولكني مجرد إنسان عادي وجد نفسه زعيما نتيجة ظروف غير عادية.. لقد ساعدتني (أي هذه الزعامة) في أن أجعلكم تشعرون بإنسانيتكم”. هنا، وهنا فقط، تكمن عظمة نيلسون مانديلا، أي في بساطته وإحساسه الغامر بإنسانية مزروعة في أعماق أعماقه، وهي مزروعة أيضا في أعماق أعماق كل إنسان وجد ويوجد في هذا العالم وهذه الدنيا، ولكن العظمة الحقيقية تكمن في إخراج هذا الإحساس المطمور في أكوام تاريخية من أمراض البشر غير الجسدية، وممارسة هذا الإحساس الذي هو في النهاية لبّ الفطرة السليمة التي جبل الله الناس عليها منذ القدم، ومضمون الروح الإلهية، روح الحياة، التي نفخها الخالق في جسد آدم الميت في الأزل.
هنا تكمن عظمة رجال ونساء مثل مانديلا وغاندي وغيرهم والأم تيريزا وغيرهم، أي في تجسيدهم لأسمى ما يكمن في أعماق الإنسان من قيم هي في النهاية من يجعله إنسانا، وبغير ذلك لا يكون إلا كائنا من كائنات مملكة الحيوان، وموجودا من موجودات الزمان، حتى لو كان العقل ميزة يتميز بها عن كل أولئك وهؤلاء، فالعقل دون وجود قيم تهذبه، هو في النهاية مجرد أداة ليس من الضروري أن تكون في خدمة الإنسان. وعمارة الأرض، التي هي جوهر غاية الإنسان على هذه الأرض، تكون ناقصة، بل ومشوهة إذا لم تكن تجسدا لأسمى ما في الإنسان من قيم، وهنا تكمن أزمة الحضارة، أيّ حضارة وكل حضارة، فما الحضارة في النهاية إلا قيم إنسانية متجسدة تشكل روحها، وبغير هذه القيم، تموت الحضارات، كما يموت الجسد حين تُسلب منه الروح.
في شهر فبراير/ شباط، من عام 1948، صدرت الرواية الأولى للروائي الجنوب أفريقي “آلان ستيوارت باتون (1903-1988)،” إبك يا بلدي الحبيب “، صدرت ترجمتها العربية عام 1964، وهي رواية تتحدث عن المهزلة المبكية” للأبارتايد “(نظام الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا، الذي كانت تتمتع في ظله قلة بيضاء طارئة ذات أصول أوروبية (الأفريكانرز) على البلاد بكل الحقوق، فيما تبقى الأكثرية السوداء صاحبة الأرض محرومة من كل الحقوق، وقد انهار هذا النظام عام 1990، وخرج مانديلا من سجنه الطويل الذي دخله عام 1964، وأصبح أول رئيس أفريقي أسود لجنوب أفريقيا، وربما لو كان آلان باتون حيّا في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة في تاريخ أفريقيا والعالم، لربما كتب رواية أخرى وعنونها:” ابتهج يا بلدي الحبيب ". في ظل هذه العنصرية وأنظمة امتهان إنسانية الإنسان بسبب لونه أو عرقه، أو أي صفات أخرى طارئة على جوهر الإنسان، ولد روليهلاهلا مانديلا، الشهير باسم نيلسون مانديلا، ونيلسون هو اسمه الأوروبي الذي سمته به مدرّسته في سنته الأولى في المدرسة، في الثامن عشر من يوليو/ تموز عام 1918، في قرية مفيزو، مقاطعة أمتاتو، في إقليم ترانسكاي في جنوب أفريقيا. ومنذ شبابه المبكر دخل معترك السياسة مناضلا في سبيل الاعتراف بإنسانية الإنسان في جنوب أفريقيا وكل العالم، وهو النضال الذي عرّضه للملاحقة الدائمة من قبل السلطات العنصرية في جنوب أفريقيا، حيث دخل السجن عدة مرات كان آخرها عام 1964، حيث قبع هناك سجين الجسد طليق الروح إلى عام 1990، وفي عام 1994، انتخب بأغلبية ساحقة رئيسا للجمهورية الجديدة في جنوب أفريقيا في أول انتخابات حرة وعامة في البلاد، والتي شاركت فيها الأغلبية السوداء لأول مرة في تاريخ البلاد، واستمر رئيسا حتى عام 1999، حيث انسحب من الحياة السياسية وتفرغ حقيقة للشؤون الإنسانية في بلده وحول العالم، حتى أضحى رمزا للضمير الإنساني بأبسط صوره في كل أنحاء العالم. وخلال فترة رئاسته الوجيزة، وهو الذي كان قادرا على الاستمرار فيها مدى الحياة، تبين معدن مانديلا الحقيقي وجوهر الإنسان فيه، وهو الذي أصبح قادرا على كل شيء تقريبا في بلد يحبه ويحترمه إلى درجة التقديس.
يقول مثل إنكليزي أنه إذا أردت أن تختبر حقيقة شخص ما، وجوهره الحقيقي دون رتوش تجميلية قد يضفيها على نفسه، فامنحه سلطة أو مالاً أو الاثنين معاَ، فالسلطة في عالم الإنسان الثالث غالبا ما تأتي معها بالمال الوفير، فيما المال الوفير هو الذي يأتي بالسلطة في عالم الإنسان الأول غالب الأحيان. فروبرت موغابي (1924-الآن)، المناضل الأفريقي السابق، وأول رئيس حكومة لجمهورية زيمبابوي، وثاني رئيس للجمهورية السوداء الجديدة، في أعقاب سقوط النظام العنصري في جمهورية جنوب روديسيا البيضاء، وهي الجمهورية العنصرية التي أعلن أيان سميث (1919-2007) عن استقلالها عن بريطانيا عام 1965، حوّل زيمبابوي في النهاية إلى مزرعة خاصة به، وحرض المواطنين السود على المواطنين البيض، مما حول زيمبابوي إلى واحدة من أكثر الدول فقرا وفسادا وتخلفا في عالم اليوم، على عكس الوضع في جنوب أفريقيا بعد استلام مانديلا للحكم، رغم أن الظروف في البلدين كانت هي نفس الظروف تقريبا حين لحظة الاستقلال، وهذا مما يبين عظمة نيلسون مانديلا. لم يحول مانديلا جنوب أفريقيا إلى ملكية خاصة له أو لنخبة معينة، ولم يُحرّض السود على البيض انتقاما لعهود طويلة من الظلم والازدراء العنصري، بل فتح صفحة جديدة ملؤها التسامح بين عنصري الأمة، في ظل مواطنة متساوية للجميع، حيث يقول وهو المكتوي بنار العنصرية “إن جنوب أفريقيا ملك لجميع الذين يعيشون فيها، بيضا وسودا”، وها هي جنوب أفريقيا اليوم تتباهى بديموقراطيتها، فيما تقبع زيمبابوي في الدرك الأسفل من سلم التخلف والفساد والحقد والكراهية، ومعظم ذلك كله يرجع الفضل فيه إلى رجل واحد تسامت به قيم الإنسان، حتى أصبح رجلا في أمة، وأمة في رجل.
نيلسون مانديلا درس حقيقي لكل من يريد بناء مجتمع جديد ودولة جديدة، أو حتى قديمة على أسس جديدة، تكون قيم الإنسان من حرية وعدالة ومساواة وتسامح هي العنوان وهي خريطة الطريق، ولعل درس مانديلا هذا يكون هاديا لكل حاملي أدران الإنسان من مرضى السياسة وأحقاد البشر، وخاصة في عالمنا العربي الموبوء بكل ما لا يخطر على ذهن بشر من هذه الأمراض. ففي كل بقعة من أرض عالمنا العربي هذا تنخر سوسة الطائفية والقبلية والإقليمية والاضطهاد والمحسوبية، والقائمة تطول بكل تجل للكراهية المقيتة، وما عراق المالكي وسوريا الأسد اليوم إلا أمثلة يمكن ضربها في هذا المجال، وإلا فإن الوقائع أكثر. رحم الله نيلسون مانديلا، وهو الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، تلك الروح السامية التي مات منها الجسد ولكن الروح بكل جمالها باقية ما بقي مؤمن بقيمة الإنسان..



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165792

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165792 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010