الأربعاء 11 كانون الأول (ديسمبر) 2013

تشييع مانديلا بلا صهاينة وبلا عنصريين

الأربعاء 11 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par فيصل جلول

طبع نيلسون مانديلا الألفية الثانية بنضاله، وها هو يطبع الألفية الثالثة بأفكاره وقيمه بعد وفاته عن 95 عاماً . لا يشبه هذا الرجل زعيماً دولياً واحداً من قبل أنه فريد حقاً، وذلك لأسباب عديدة، من بينها مرونته وعقلانيته وبراغماتيته اللائقة . فقد طبعت ثقافته السياسية في بداية نضاله في خمسينات القرن الماضي بالطابع القومي، فكان مناهضاً للعنصرية والماركسية في آن، ورافضاً للتعددية العرقية، لكنه عاد وجمع في الستينات القومية والماركسية ودعا لاستخدم العنف للوصول إلى أهدافه، عندما ترأس الكفاح المسلح في المجلس الوطني الإفريقي، ومن ثم رفض العنف وتبنى النضال السلمي للتحرر من العنصرية والكولونيالية البيضاء . وفي العام 1990 ومع نهاية الحرب الباردة تخلى عن الماركسية، وصار أقرب إلى الفكر الديمقراطي الاجتماعي المطعم بالليبرالية . وبطبيعة الحال اعتمد التعددية العرقية والتعايش السلمي بين المستعمر الأبيض السابق وضحاياه الأفارقة السود . بل يمكن القول إن رمزيته ساهمت إلى حد كبير في إقناع مواطنيه السود بقبول حكومة التعايش المتعددة الأعراق بدلاً من استئصال البيض استئصالاً تاماً كما كان مطروحاً من قبل .
في وجه آخر من وجوهه المتعددة جمع مانديلا بين المتناقضات، فقد وضع اسمه لسنوات طويلة على لائحة الإرهاب، ومن ثم منح جائزة نوبل للسلام، ونال ميدالية الحرية من الرئاسة الأمريكية جنباً إلى جنب مع وسام لينين من الاتحاد السوفييتي السابق . وكان آخر الكبار الذين تلقوا الوسام، هذا فضلاً عن جوائز مصطفى كمال أتاتورك، ومعمر القذافي، وأخرى عديدة شرقاً وغرباً ويميناً ويساراً بلغ عددها نحو 250 جائزة بحسب سيرته الرسمية .
وفي غيابه كما في حياته واصل مانديلا جمع ما يصعب جمعه، فقد قرر باراك أوباما اصطحاب خصمه جورج بوش الابن إلى مراسم العزاء في جنوب إفريقيا، ومثله فعل فرنسوا هولاند الذي دعا خصمه نيكولا ساركوزي إلى المشاركة في
المراسم نفسها، علماً أن أكثر من 50 رئيس دولة وحكومة سيشاركون في هذا الحدث الذي قلّما وقع من قبل في تشييع زعيم عالمي .
لقد جمع مانديلا بين المتناقضات، لكن من دون أن يتنازل قيد أنملة عن مبادئه ومعتقداته، خصوصاً تجاه القوى الظالمة وعلى رأسها الولايات المتحدة، فقد عارض بشدة حرب العراق، ورفض الحرب الأطلسية على ليبيا، ولكنه زار عام 2006 جورج بوش الابن في البيت الأبيض، وقبل زيارته أدلى بتصريح تاريخي حول الظلم الأمريكي إذ قال: “ليس هناك دولة في العالم ارتكبت فظائع تفوق الوصف كالولايات المتحدة الأمريكية ولكنهم لا يبالون” .
وعلى الرغم من اجتماع العالم بأسره تقريباً حول غيابه ومن أجل تحيته فإن حالتين فقط سجلتا كعلامة فارقة، الأولى تمثلت بامتناع الدالاي لاما عن المشاركة في العزاء، مبرراً ذلك بقوله إنه تقدم مرتين بطلب للحصول على الفيزا في جنوب إفريقيا، لكنه لم ينلها، وتبدو هذه الإشارة انتقامية من رجل يقدم في العالم بوصفه رمزاً من رموز النضال السلمي والتسامح والتأمل الفكري والابتعاد عن الانتقام والفئوية، ولعل هذا يفسر سبب امتناع مانديلا عن تبني قضية الدالاي لاما، فمنطقة التيبت استخدمت طويلاً من طرف الولايات المتحدة لإلحاق الضرر بالصين أكثر من الدفاع عن حقوق فئة صينية مقهورة، فضلاً عن كونها حركة توصف بالانفصالية، وهو أمر لا يتناسب مع القيم التي دافع عنها مانديلا، والقاضية بتحصيل الحق في إطار وحدة الوطن والدولة .
والحالة الثانية تتمثل ب“إسرائيل” التي أعلن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو أنه لن يشارك في مراسم العزاء في جنوب إفريقيا لأن كلفة الزيارة عالية جداً، وأن حكومته تعتمد إجراءات تقشفية، وللسبب نفسه امتنع أيضاً شيمون بيريز عن المشاركة في هذه المناسبة التي يتجمع فيها العالم بأسره .
الظن الغالب أن ثمة من همس ل“الإسرائيليين” بوجوب الامتناع عن المشاركة في المراسم لأسباب عديد، من بينها أن “إسرائيل” هي الدولة الوحيدة التي دافعت عن النظام العنصري في جنوب إفريقيا، بعد أن تخلى العالم عنه، بما في ذلك الولايات المتحدة والغرب، ولم تتخل عن هذا النظام إلا بعد هزيمته، وبالتالي لم تكن يوماً موضع ترحيب لدى السلطات الجديدة في البلاد، بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، فقد ساهمت جنوب إفريقيا في استقبال مؤتمر ديربان الحقوقي الدولي المناهض للعنصرية عام 2001 الذي تلقت خلاله “إسرائيل” الصفعة الأهم على الصعيد الدولي .
من جهته كان مانديلا صوتاً مدوياً في الدفاع عن فلسطين والحقوق الفلسطينية، إذ أكد من دون لبس أن “. . حرية العالم منقوصة لأن الفلسطينيين لم ينالوا حريتهم بعد” . وفي رسالة جوابية للصحفي الأمريكي توماس فريدمان قال عن فلسطين ما لم يقله زعيم دولي من قبل وفيه “. .الصراع الفلسطيني”الإسرائيلي“ليس احتلالاً عسكرياً، ف”إسرائيل“دولة لم تقم بظروف عادية وصودف أنها احتلت بلداً آخر . والفلسطينيون لا يناضلون من أجل دولة، بل من أجل الحرية والمساواة كحالنا في جنوب إفريقيا”، وأضاف “. . لقد حرمت”إسرائيل“ملايين الفلسطينيين من حريتهم وأملاكهم، وأقامت نظاماً انتهج التمييز العنصري وتغييب العدالة وشن الحروب على المدنيين وخصوصاً الأطفال” .
لن يجد نتنياهو مقتنعين كثر في زعمه أنه امتنع عن مشاركة قادة العالم في تشييع مانديلا لأسباب مالية، فالواقع ينطق بوضوح بأن حضوره المراسم سيكون تدنيساً لسيرة الراحل ولنضاله، وسواء أوصى مانديلا بذلك أو لم يفعل، فقد تحولت مراسم تشييعه إلى مناسبة لعزل الدولة الصهيونية وإدانة عنصريتها ووسمها بالمارقة في المجتمع الدولي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2177229

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2177229 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40