الخميس 12 كانون الأول (ديسمبر) 2013

المستقبل العميق . . مصادر القلق في أوساط الدفاع والأمن

الخميس 12 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par جميل مطر

مداخلة الوزير العماني يوسف بن علوي، حول إقامة اتحاد يضم دول مجلس التعاون الخليجي، لفتت الأنظار إلى أن مؤتمراً للأمن الخليجي منعقد في المنامة عاصمة البحرين يحضره عسكريون ووزراء دفاع وخارجية وخبراء أمن واستراتيجية من كافة أنحاء العالم . كان يمكن أن تنتهي أعمال المؤتمر وينفض الحفل من دون أن يحظى باهتمام الرأي العام لولا هذه المداخلة . جاءت المداخلة من الوزير العماني رداً على عبارة وردت في خطاب المندوب السعودي . المداخلة والرد السعودي ووقعهما على الرأي العام عناصر إشتركت في إثارة فضولي لمعرفة الحقيقة وراء ما بدا للكثيرين مصادفات وبدت لي تطورات مثيرة .
لن يكون مؤتمر المنامة الحدث أو التطور الأهم في سجل التطور الأخيرة في مجال الأمن الدولي والإقليمي . لقد شهدت مدن عدة خلال أقل من شهرين مؤتمرات عسكرية وأمنية متلاحقة . لم تكن مؤتمرات عادية . حتى عناوين بعضها كانت كاشفة لأهمية الموضوعات المثارة فيها . مثال على ذلك عنوان “المستقبل العميق” . قيل في تفسيره إن المؤتمر سيبحث في أبعاد المستقبل الذي بدأت تدلف إليه معظم جيوش العالم، وهي بالتأكيد، وحسب ما هو ظاهر وملموس في سلوكات وأداء معظم الجيوش، غير مستعدة له .
مؤتمر آخر اتخذ شعاراً له عبارة “قوة المستقبل”، بمعنى الحاجة الماسة إلى أنماط جديدة من التدريب والسلاح والقيادة اللازمة لمواجهة مستقبل ليس كالحاضر في الكثير وليس امتداداً له، كما أنه ليس كالماضي في شيء .
في مؤتمر ثالث لم يكن خافياً أن المشاركين، من عسكريين ومدنيين متخصصين في الحرب والسلام، جاؤوا ليتدارسوا مستقبل منطقة الخليج في ضوء إصرار الولايات المتحدة على استكمال انسحابها من مسؤولياتها في الدفاع الخارجي، وفي ضوء استمرار دول حلف الأطلسي في تقليص إنفاقها العسكري، وفي ضوء التردد المتزايد لدول الخليج في الالتزام بإقامة جيش خليجي موحد . بمعنى آخر، كان هناك في المنامة من أراد أن يستشرف مستقبل أمن الخليج ويعرض رؤيته لشكل هذا المستقبل، بينما آخرون في أمستردام راحوا يستشرفون مضامين ومعاني جديد لمفهوم العسكرية في ضوء تحولات جذرية في العلاقة بين المدنيين والعسكريين .
في أمستردام، أثار خبراء الأمن الأوروبيون قضية لعلها إحدى أهم قضايا الدفاع في معظم دول العالم . لا يجادل أحد في حقيقة أن المواطن العادي صار مبالياً، بل ومهتماً، بمسائل المزايا والميزانيات التي تحصل عليها القوات المسلحة في بلاده .صارت هذه القضية تشغل بال العسكريين وصانعي سياسات الدفاع في الدول الفقيرة والناشئة كما في دول أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة . كان هذا بالضبط جانباً من جوانب اهتمام الخبراء في مؤتمر أمستردام الذي عقد تحت عنوان “قوة المستقبل” بهدف التوصل إلى فهم مشترك لأسباب الظاهرة وسبل علاجها أو التكيف معها . اعترفوا بأن هناك فجوة متزايدة الاتساع تفصل بين الجيوش والشعوب، وأن المواطنين في شتى الدول يسألون عن جدوى الاحتفاظ بجيش جرار في بلد لا يتعرض، أو لن يتعرض في الأجل القريب، إلى خطر التهديد من الخارج . ينتقدون درجة الشفافية التي التزمت تطبيقها معظم جيوش أوروبا بسبب أنها مازالت غير مقنعة للمواطنين . هؤلاء يعيشون في أزمة اقتصادية ويدفعون ضرائب مرتفعة يذهب جزء منها إلى شراء سلاح أو دفع رواتب لضباط وجنود لا يعمل أغلبهم معظم أيام السنة وقد لا يأتيهم عمل “دفاعي” في الأمد المنظور .
مؤتمر المنامة الذي انعقد هذا الأسبوع هو الحلقة التاسعة في سلسلة مؤتمرات يجتمع فيها خبراء الأمن والدفاع ورجال السياسة وممثلو شركات الأسلحة والأمن الخاص لمناقشة القضايا المتفرعة عن أمن الخليج . وكان طبيعياً في المؤتمرات السابقة أن يخرج المشاركون بانطباع أنه لا جديد في أمن الخليج لم نعرفه قبل المشاركة ولا جديد قادماً . لم تكن الرؤى والاقتراحات في الاجتماعات السابقة متباعدة وكانت الثوابت راسخة، وهي أولاً: تعهد أمريكي متجدد بالدفاع عن الإقليم . ثانياً: مناقشة التزام دول مجلس التعاون إقامة جيش دفاع إقليمي حقيقي وفعال . ثالثاً: تعزيز تعهد الطرفين، الغربي والمحلي، تخصيص مواني ومواقع بعينها لخدمة أساطيل وقوات الدول الغربية، لأغراض الدفاع الإقليمي ولاستخدامها في حربي أفغانستان والعراق وغيرهما .
هذه المرة اختلفت الظروف، فالمؤتمر ينعقد في ظل قلق شديد بسبب اتفاق الغرب وإيران، أو أمريكا وإيران توخياً للدقة، والخشية من أن يكون الاتفاق قد جاء على حساب “أمن الخليج العربي” وهويته، وهي الخشية التي لا تجد أمريكا ما يبررها . ولكن للخشية مبرراتها لدى الخليجيين، بل وأصبح يوجد ما يعززها . إذ أدى الاتفاق بالفعل إلى اختلافات في الرؤية والتحليل ونشوب خلافات حولها، وربما رفع مستوى الخلافات إلى حد الانقسام المعلن كما كشفت مداخلة الوزير العماني وردود الفعل لها .
على مستوى آخر، وفي موقع آخر، اجتمعت نخبة الفكر الأمني والاستراتيجي في مؤتمر تنظمه سنوياً “رابطة الجيش الأمريكي”، ويشترك فيه العديد من ضباط الجيش والمسؤولين في البنتاغون وممثلين عن شركات السلاح وشركات الأمن الخاص، وبخاصة تلك التي أصبح لها نفوذ كبير وتمثل قوة ضغط مؤثرة في واشنطن وعواصم أخرى .
دارت المناقشات حول “التهديدات التي تواجهها العسكرية الأمريكية في المستقبل العميق”، والمقصود بالعمق هنا، عمق المضمون والأجل، بمعنى أن المؤتمر سوف يبحث في قضايا المستقبل باعتبار أنها ستختلف حتماً عن قضايا الدفاع الراهنة، وبمعنى أن المؤتمر سوف يستشرف مستقبلاً تقع حدوده على مشارف عام 2030 . برر منظمو المؤتمر أهمية مناقشة الموضوع بالقول إنه لا يجوز أن تستمر الحكومات في الإنفاق على مشروعات دفاعية طويلة الأمد، بينما الظروف تتغير بسرعة، كما هي تتغير الآن، وبينما شؤون الدفاع واستراتيجيات الدول تتعقد بشدة، كما هي معقدة الآن .
لذلك اهتم المؤتمر بمناقشة المخاطر الأكثر احتمالاً أن تهدد الاستقرار العالمي، وأن تتحدى “العسكرية” الأمريكية في عام 2030 وما بعدها، واختار المنظمون ثلاثة منها، وهي بالفعل اختيارات تستحق منا في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا الاهتمام بها أكثر من أي شعوب أخرى هذه المخاطر هي:
* أولاً: تتوقع الدراسات المقدمة للمؤتمر أنه بحلول عام 2040 سيعيش نحو 65% من سكان العالم في المدن . بمعنى آخر سيعيش نحو ستة مليارات إنسان في المدن . معنى هذا، أن ثلث هذا الرقم، أي مليارين من البشر سيقطنون العشوائيات، أو على الأقل سيحيون “حياة عشوائية” . هذه العبارة استخدمتها في المؤتمر كاتلين هيكس، واعتقد أنها عبارة ذكية وتعكس حال قطاعات واسعة من السكان تعيش خارج العشوائيات ولكنها تمارس سلوكاتها . جيوش المستقبل في دول متقدمة وجيوشنا في الوقت الراهن تعيش تحت تهديد محتمل بأن تصبح معظم المدن بيئة صالحة تماماً للحكم السيئ وربما العجز تماماً عن ممارسته، إذ إنه مع استمرار نمو المدن، ومع انتشار العشوائيات والسلوكات العشوائية ستجد الحكومات نفسها عاجزة عن التصدي للأوضاع الناجمة عن هذا التطور، وبخاصة خدمات الصحة وجمع القمامة، خاصة أن تقارير عدة تشير إلى أن القمامة في حد ذاتها قد تكون أحد أهم أسباب انتشار الجريمة، لما تثيره من ضيق وقرف يتحولان إلى غضب وتمرد ورغبة في الانتقام . كما أنه لا يخفى أن سلوكات العشوائيات وعجز الحكم كانا من دوافع نشأة “وسائل بديلة للحكم” مثل الجماعات المنظمة التي يختلط فيها الدين بالنشاط الاجتماعي بالسياسة، وهو ما حدث في مصر وإندونيسيا وباكستان وبنغلاديش وغيرها .
* ثانياً: ناقش المؤتمر الحال الخطير للعالم بعد عام 2030 حين تبدأ الآثار بالظهور “الآثار المؤجلة” للهزات العنيفة التي شهدها العالم العربي . عندئذ سيكون العالم العربي مختلفاً شكلاً وموضوعاً عن العالم العربي الذي نعرفه الآن . سيكون قد مضى عشرون عاماً على ثورات وصلت إلى كل ركن من أركان الإقليم خلال سنوات عنيفة لتترك لنا في النهاية “شرق أوسط مختلفاً كل الاختلاف” .
في هذا الإطار طرح للنقاش ما يجب على المؤسسة العسكرية الأمريكية عمله من الآن لمواجهة هذا التحول الهائل في إقليم له أهمية كبيرة لدى الولايات المتحدة لاتصاله بخطط أمريكا في آسيا وفي المستقبل . وكان بين الاقتراحات التي قدمت في المؤتمر الاقتراح بالاهتمام بلغات الشرق الأوسط ومناهج الثقافة والحضارة في المدارس والجامعات الأمريكية، وبخاصة المعاهد العسكرية، واقتراح بإقناع دول الخليج بتمويل مشروع إقامة “أساطيل عربية” تحمي الشواطئ العربية .
* ثالثاً: ثالث المخاطر ستجسدها هذه القدرة الهائلة لدى الأجيال الجديدة على ممارسة “التشبيك” في إطار الثورة المعلوماتية بسرعة فائقة . ويعتقد معظم الحاضرين المؤتمر أنها ستكون “أشد رعباً” مما يتخيل رجال السياسة . تحدث المشاركون مثلاً عن دور الإنترنت في تغيير كثير من معالم الشرق الأوسط خلال سنوات معدودة، وما يمكن أن يفعله إذا ما قرر المواطنون الغاضبون في الشرق الأوسط استخدامه ضد أنشطة “دفاعية” لجيش أو آخر من الجيوش العربية . نعيش بدايات عصر “عسكرة التكنولوجيا” بمعنى أن أي فرد عادي يستطيع الآن من مكانه الآمن الإبلاغ بالتويتر عن مواقع جنود وضباط، وأن جماعات مسلحة يمكنها في المستقبل أن تحصل على طائرات من دون طيار صغيرة جداً وتسيرها بالهاتف المحمول لتضرب تجمعات ومواقع عسكرية .
جيش بعد آخر صار مضطراً لأن يتعامل مع مخاطر “المدن” المكتظة بالسكان، وبعضهم غاضب أو متوتر أو متمرد بحكم الازدحام وارتباك المواصلات وسوء الحكم . بمعنى آخر صارت تحركاته وبعض أسراره ومزايا غموضه مواقع مكشوفة لمواطنين عاديين يمتلكون أجهزة إلكترونية رخيصة وبسيطة . لم تعد التكنولوجيا حكراً على مؤسسات الدولة والشركات الكبرى، صارت في منازل الجميع وجيوبهم وحقائبهم .
بهذا المعنى ومعان أخرى عدة، أستطيع أن أفهم لماذا وقع الاختيار على عبارة “المستقبل العميق” عنواناً لمؤتمر يبحث في مسار العلاقة بين العسكريين والمدنيين في كل أنحاء العالم، والمخاطر الجديدة والمتوقعة التي تفرض على المسؤولين عن الدفاع والأمن وعلى صناع الرأي صياغة تعريف جديد لمفهوم الدفاع
وإعادة النظر في وظائف الأجهزة المنوط بها تحقيق أمن الوطن والمواطن .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 28 / 2165274

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165274 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010