الأربعاء 18 كانون الأول (ديسمبر) 2013

طريق تونس المتعرج

الأربعاء 18 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par د. أيمن مصطفى

ربما يتصور من هم خارج تونس، وحتى كثيرين داخلها، إن الاتفاق على مرشح لرئاسة الحكومة بين السلطة التي يقودها الإسلاميون والمعارضة حسم الأزمة السياسية التي كبلت تونس على مدى أسابيع عدة مؤخرا. لكن الاختيار نفسه، لوزير الصناعة السابق مهدي جمعة، لم يكن توافقيا بالقدر الكافي. فمن بين 19 حزبا شاركت في الحوار الذي رعاه الاتحاد التونسي للشغل (اتحاد نقابات العمال) ونقابات مهنية أخرى لم يصوت لصالحه سوى 9 أحزاب (بالطبع منها الأحزاب الثلاثة الحاكمة بقيادة حركة النهضة الإسلامية) وصوت حزبان ضده وامتنعت البقية عن التصويت. ولا شك أن انسحاب حزب نداء تونس بقيادة الباجي قايد السبسي (وهو اكبر الأحزاب المعارضة، ويضم ما يمكن وصفهم بفلول النظام السابق مع مؤيدي سلطة الدولة التقليدية) من عملية التصويت ينتقص بقدر كبير من توافقية الحكومة الجديدة. ورغم أن مهدي جمعة ليس منتميا إلى اي تيار سياسي بشكل رسمي إلا أن كثيرا في تونس يعتبرونه “مقربا من حركة النهضة” ولهذا اختاره رئيس الوزراء السابق وأمين عام حزب حركة النهضة حمادي الجبالي وزيرا للصناعة في حكومته التي سبقت حكومة علي العريض.
حتى اذا سلمنا بأن مهدي جمعة رئيس حكومة تكنوقراط بعيد عن التجاذبات السياسية التونسية، فإن غياب كتل سياسية أساسية عن دعمه ينتقص من “الشرعية النخبوية” لحكومته المفترض ان تكون توافقية. والقصد من ان التوافق المنشود كان توافق نخبة له دلالة اساسية في ان الناس والجماهير العادية في تونس ربما تفكر بشكل مختلف. فالناس معنية بما كان سببا لإضرابات واعتصامات في الاسابيع الخيرة، بينما النخبة مشغولة بجهود “الرباعية” للتوصل إلى حل توافقي يجنب انهيار حكم النهضة الاسلامي المتحالف مع حزبين اخرين في اطار ما يسمى “الترويكا” الحاكمة. فالناس في تونس معنيون اساسا بالتراجع الاقتصادي وصعوبة توفير تكليف المعيشة، وتبرز على السطح منذ حكم الإسلاميين قضية اقتصادية/اجتماعية تتفاعل منذ حكم بن علي ـ وربما حتى بورقيبة ـ من قبله. تلك هي التمايز الشديد بين الساحل والداخل. فولايات الساحل التونسي تحتكر تقريبا الثروة والسلطة بينما ولايات الداخل (التي تغذي الساحل بالمأكل ومقومات الصناعة) تعاني الإهمال وضعف الاستثمارات والخدمات والرعاية عموما.
هذا الانقسام، تعزز بانقسام آخر فجرته الانتفاضة على حكم بن علي واسقاطه وصعود الاسلاميين إلى سدة السلطة وهو نشاط التيارات السلفية والجهادية في تونس. ورغم ان تلك التيارات كانت موجودة وتتفاعل تحت السطح ايام ابن علي، إلا أنها خرجت إلى العلن معبرة عن وجودها وقوتها بالمظاهرات ـ العنيفة احيانا ـ واستهداف قوات الامن والجيش بالهجمات والتفجيرات. ورغم ان حركة النهضة تحاول دوما النأي بنفسها عن تلك التيارات المتشددة والعنيفة، إلا أنه من الصعب استبعاد ان تلك التيارات زادت جرأتها في ظل صعود الاسلاميين إلى السلطة وليس فقط بسبب انهيار حكم ابن علي. ورغم ما بدا من تعلم حركة النهضة من تجربة الاخوان في مصر، الذين تفردوا بالسلطة واقصوا بقية المجتمع تقريبا، ومحاولتهم ان يكونوا “مشاركين” للآخرين بتحالفهم مع حزبين من الوسط، إلا أن بقية قوى اليسار والليبراليين رأوا تفردا من الاسلاميين.
ولم تتمكن حركة النهضة من استيعاب كل مكونات المشهد السياسي التونسي لتتمكن من كتابة دستور عبر مجلس تأسيسي تسيطر عليه، في الوقت الذي لم ترق فيه شرعيتها الشعبية إلى أغلبية كاسحة تمكنها من كتابة الدستور كما يحلو لها. وهناك مشكلة في حركة النهضة ذاتها، وهي أن الانقسام بين مجموعة الخارج (المتقدمة معرفيا نسبيا وتتمثل في زعيم الحركة راشد الغنوشي) والداخل (الممثلة بشخصيات عانت في حكم ابن علي وتعكس معاناتها على موقفها من الدولة والمجتمع) لا يمكنها من اتخاذ مواقف توافقية قوية. اما بقية الاحزاب، بما فيها اليسار التقليدي والحزب الجديد للسبسي، فإنها تعاني من مشكلة فقدان النفاذ الشعبي. حتى اتحاد الشغل، الذي كانت له سطوة شعبية في وقت ما، بدأ يفقد هذا الزخم بانصراف الناس عن كل تكوينات المشهد السيسي ونخبته وشبه فقدان الثقة في قدرتها على اعادة الأمن والنظام والاستقرار.
لكل تلك العوامل، حرص الجميع على البقاء ضمن آلية الحوار لتشكيل حكومة (تكنوقراطية نظريا، وتابعة للنهضة عمليا) توافقية تقود المرحلة التي يقر فيها المجلس التأسيسي الدستور. فلم تستطع المعارضة الرهان على الشارع، وامكانية تحويل الذكرى الثالثة للانتفاضة ضد حكم ابن علي إلى موجة غضب شعبي على حكم الاسلاميين تزيح النهضة من الحكم كما فعل المصريون مع الاخوان في 30 يونيو. ولا النهضة ايضا يمكنها الحسم منفردة والمضي قدما في خارطة طريق تضعها ولا تشمل القوى الاخرى، ذلك لان الدعم الشعبي لها منقسم وتنال التيارات السلفية والمتشددة من شعبية النهضة اذ لا يعتبرها جميع الاسلاميين ممثلة لتيار الاسلام السياسي العام في تونس.
لن تكون حكومة مهدي جمعة في الاغلب سوى توافق هش مفتعل، كأنه نتاج حتمي للضعف من قبل الجميع ودون شرعية شعبية كاسحة. لكنها ربما تتيح للنهضة، وبقية القوى التي يمكنها التحالف معها مرحليا، أن تكتب دستور تونس الجديد وتسوقه للموافقة الشعبية. لكن معركة الدستور لن تكون هي الأخرى سوى تعرج آخر جديد وليس أخيرا في طريق تونس نحو بناء دولة ما بعد ابن علي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 87 / 2165295

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165295 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 28


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010