الأربعاء 25 كانون الأول (ديسمبر) 2013

“مزحة” ثقيلة الوطأة

الأربعاء 25 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par فيصل جلول

لا تحتاج العلاقات الفرنسية الجزائرية إلى خطب نارية لتوتيرها وإعطابها، ف“مزحة” واحدة تكفي لإلقاء الماء البارد على زيارة رسمية قام بها رئيس الوزراء الفرنسي ووزير داخليته إلى العاصمة الجزائرية وصفت بالناجحة والحارة والإيجابية . . إلخ .
أما “المزحة” فقد أطلقها فرانسوا هولاند في 16 ديسمبر/ كانون الأول الجاري لدى استقباله في قصر الإليزيه وفداً من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، إذ قال “لقد عاد وزير الداخلية مانويل فالس من الجزائر سليماً ومعافى، وهذا شيء عظيم”، وعلى الرغم من أن هذه الجملة قد تبدو عادية أو حتى قليلة الأهمية بالنسبة للذين لا يتابعون عن كثب علاقات البلدين، فإنها كافية في واقع الحال للتسبب بأزمة حقيقية .
الرد الجزائري كما رد المعارضة الفرنسية كان فورياً، فقد عنونت ثلاث صحف كبرى في الجزائر بعبارة شبه موحدة على صفحتها الأولى “فرانسوا هولاند يسخر من الجزائر أمام اليهود”، وأسف وزير الخارجية الجزائري لهذا النوع من المزاح، في حين اعتبرها جان لوك ميلونشون المرشح السابق لرئاسة الجمهورية عن جبهة اليسار “مثيرة للغثيان”، ووصفها رئيس الحزب الديغولي ب“الانزلاق اللغوي المؤسف”، وقال عنها مستشار سياسي في الحزب “هي شتيمة للشعب الجزائري وقادته” . وقالت وزيرة الثقافة السابقة “إنه سلوك أخرق، وأقول لهولاند كن على مستوى الوظيفة التي تشغلها” .
لم يستوعب المقربون من الرئيس الفرنسي حجم الأذى الذي تسببت به: إنها “مزحة” خفيفة ويمكن أن تقال عن أي بلد . معلوم أن رئيس الجمهورية “يأخذ راحته بالمزاح أثناء مخاطبة الناس، بيد أن هذا الشرح لم يقنع أحداً على ما يظهر، وبخاصة الجزائريون الذين طالبوا باعتذار علني، وانضم إليهم عدد من ممثلي الطبقة السياسية الفرنسية، الأمر الذي أدى، مساء الأحد الماضي، إلى صدور بيان رئاسي يعبّر عن أسف الإليزيه للنتائخ التي ترتبت على”مزحة" لم يكن القصد منها التسبب بأذى للجزائر وللعلاقات الفرنسية الجزائرية .
وعلى الرغم من أن عبارات الأسف لا توازي الاعتذار الصريح، فقد قبلها الطرف الجزائري، علماً أن رئيس “القوة الخامسة” في العالم لا يعبّر عادة عن أسفه عن جملة ثانوية قالها عن مستعمرة سابقة، وإن فعل فلأن الجزائريين تعودوا ألا يتسامحوا مع المستعمر السابق، وذلك مع علمهم التام أن هولاند سخر من انتخابات البابا الجديد ومن البريطانيين ومن ساركوزي ومن آخرين، وبالتالي هو معروف بزلات لسانه وبنكاته الخفيفة .
تستدعي “النكتة” التي كادت أن تطيح بالنتائج الايجابية لزيارة رئيس الوزراء الفرنسي جان مارك ايروت الاخيرة للجزائر مجموعة من الملاحظات المتعلقة بالبلدين . الأولى تتصل بالرئيس الفرنسي الذي لا يهدر فرصة دون التلفظ بعبارات خفيفة يقول مواطنوه انها لا تتناسب مع مقامه كرئيس لبلد عضو دائم في مجلس الأمن . والواضح أن “النكات” الهولاندية لا تساعد سيد الإليزيه على رفع أسهمه الممعنة في الهبوط في استطلاعات الرأي العام . والملاحظة الثانية تتعلق بالمسكوت عنه في العلاقات الجزائرية الفرنسية، حيث يعتقد البعض أن “نكتة” هولاند لم تكن عفوية فهي في لاوعيه ناجمة عن تأثره في فترة شبابه بخطب وثقافة المنظمة السرية الفرنسية في الجزائر والتي شنت عمليات ارهابية دموية لقطع الطريق على الاستقلال الجزائري .
والملاحظة الثالثة متصلة بثنائية فرنسية تجاه الخارج ملازمة لمعظم الرؤساء والمسؤولين الفرنسيين الذين يشعرون تجاه المانيا بعقدة نقص، وتجاه مستعمراتهم السابقة بالتعالي، وما بدا في كلام الاليزيه انه نكتة صغيرة هو في عمقه مظهر لشعور غارق بالكينونة الفرنسية العليا مقارنة بدول العالم الثالث عموماً وبمستعمراتهم بخاصة .
والملاحظة الرابعة متصلة بالجزائريين الذي كانوا على الدوام يحرصون على فرض احترامهم لدى المستعمر السابق، ومثال الرئيس هولاند ليس فريداً، ففي عهد الرئيس السابق جاك شيراك حاول الإليزيه أن يتعاطى بخفة مع الرئيس الجزائري الأسبق اليمين زروال، حيث كان من المفترض أن يلتقيا علناً أمام وسائل الإعلام على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فكان أن عدل شيراك عن اللقاء العلني، وطلب أن يكون سرياً، خوفاً من الجماعات المسلحة التي كانت تضع المتفجرات في وسائل المواصلات العامة . فكان أن غضب زروال وحمله على إلغاء اللقاء من طرف واحد وهو أمر من النادر حدوثه بين رئيس دولة عالمثالثية ودولة عضو في مجلس الأمن، بل ذهب زروال إلى أبعد من ذلك عندما أمر وزراءه بإلغاء كل العقود التجارية مع فرنسا وشراء ما يريدون من الخارج حتى لو كان الثمن مضاعفاً، وقد استمر التوتر في علاقات البلدين إلى حين انتخاب الرئيس بوتفليقة في العام 1999 .
الملاحظة الخامسة تتصل بالاعتذار الفرنسي عن مآسي الجزائر خلال فترة الاستعمار، وهنا يرى بعض الجزائريين أن باريس لن تتوقف عن التعاطي باستعلاء مع الجزائر إلا إذا أصر الجزائريون على أن تعتذر لهم عن ماضيها الكولونيالي في بلادهم . فعدم الاعتذار يعني أن قتل مئات الآلاف من الجزائريين كان واجباً وطنياً فرنسياً ولم يكن جريمة ضد الإنسانية . بكلام آخر ما دامت فرنسا لا ترى ضرورة للاعتذار عن قتل الجزائريين ومحو هوية بلادهم طيلة قرن وثلث القرن، فإن سلوك ومواقف ممثليها ستظل ماثلة أمام المجهر الجزائري الذي يمكن أن يرى نكتة صغيرة بحجم ضخم، وكمدخل لأزمة مستعصية في علاقات البلدين المعقدة والصعبة . لكن هل يعتذر الفرنسيون فتبدو نكاتهم عابرة ولا قيمة سياسية لها؟ الجواب عن السؤال لن يأتي في القريب العاجل، خصوصاً أن البرلمان الفرنسي كاد في عهد ساركوزي ان يفعل العكس عبر قانون تمجيد الاستعمار .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2165532

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165532 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010