الثلاثاء 14 كانون الثاني (يناير) 2014

جذور “الدولة اليهودية”

الثلاثاء 14 كانون الثاني (يناير) 2014 par نسيم الخوري

عند الكلام الجدّي عن “الدولة اليهودية” المتعاظم فوق شفاه الدول العظمى، تتراجع السياسات الثورية العربيّة بيومياتها القشيبة، وتنبسط أمامك خلاصات 26 قرناً من الجهد اليهودي الدائم الذي لم ينضب منذ القرن الرابع قبل الميلاد حتّى اليوم أي منذ السبي وبعده . يدأب اليهود تنقية تاريخهم من كلّ ما يلحق به من موجات وتيّارات فكرية جديدة طارئة، ويجهدون إلى زعزعة تلك الحضارات والأفكار الأخرى وتدميرها أو تتفيهها وتفريغها من معانيها وتأثيراتها . واستمرّ الفكر الديني اليهودي بالمهمّة التاريخية التي تفرض عليهم وجوب التفسير لشريعتهم وعدم التوفيق بينها وبين الأعراف والتقاليد والعادات الداخلية والدخيلة . فالعقيدة الراسخة لديهم هي كلمة الله الأولى التي في أذن موسى تتّسع للكلام كلّه، ولا يحفظ نقاوتها الأولى سوى الانتباه واليقظة الدائمة بأنّ لكلّ كلمةٍ سبعين وجهاً من الوجوه أي ما يتجاوز عدد الأسباط لديهم . ومعضلة الأسباط بقيت مرّة تحت ألسنتهم في التاريخ حتّى تحويلها إلى الشعوب والحضارات الأخرى . هكذا تكثّفت لديهم الأدبيات والنصوص والدراسات والتعاليم التوراتية جيلاً بعد جيل، ونجد ملامحها في ميادين التاريخ والفلسفة والاجتماع والعلوم والاقتصاد والسياسة وغيرها من الأنشطة العقلية للحفاظ على جوهر الدين النقي . تستلهم عيون اليهود عزرا الكاتب اليهودي العائد بعد سبيه من أرض بابل في العام 444 ق .م . عندما وضع التوراة بشكلها النهائي الذي قبله اليهود واعتمدوه دستوراً لهم . كان النص عسيراً على فهم العامة، وجاءت الشروح مفعمة بالقصّة والخيال والأساطير التي تروق العاديين وتجذبهم . فالحاخام فوق منصته في السبوت والأعياد والمفسّر الى جانبه يشرح متمكّناً من الأرامية لغة العائدين من السبي، يمتزج واقعهم الشاق بالخيال فيشفّ العذاب وينجلي الإيمان . هكذا تبعث النصوص اليهودية الربّانية القارئ بالذهول والتشويق الذي يوقد العواطف ويشحن الخيال، وهكذا ندرك معنى تزاحم الرواة اليهود لنسج التراث الذي جمع في المدراشيم يحيا عبر أجيالهم منبعاً للفكر العبري والحياة الدينية أكثر ممّا هو سجل لوقائع التاريخ أي تاريخ من سبقوهم في بلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة . ويحمي نواة هذا الخيال العفوي والساذج ما يعرف ب: التلمود مختصراً تراكم الفكر المتعاقب لرجال الدين دارسي التوراة ومفسّريها خلال القرون الخمسة من بدء السنة الميلادية . من يقرأ، مثلاً، قصّة الخلق عند العبرانيين في مراحلها السبع ، يجد نفسه وكأنّه يقرأ ملاحم بابل وأوغاريت، حيث خلق الله “التوراة أوّلاً التي كتبت بنارٍ سوداء على نارٍ بيضاء، ثمّ خلق العرش، فالفردوس، فجهنّم، فالسماء، ثمّ المذبح تحت حرم السماء وفوقه تلمع حبة من الياقوت، وأخيراً الصوت الذي به ينادي على الدنيا” . اللافت في قصّة خلق الأرض أنّ “الله تبارك عمله في نقطة الوسط منها إذ وضع حجر الزاوية للهيكل في”إسرائيل“التي تتوسّط العالم، وفي وسطها مدينة أورشليم ، وفي وسط أورشليم يقوم الهيكل، وعلى حجر الزاوية نقش اسم المخلّص المنتظر بنورٍ مشعٍ ينير العالم” .
وتستمرّ عناصر الجذب في قصص خلق النبات في الفردوس والأرض، أو قصّة خلق حوّاء وآدم وبقيا في سباتٍ عميق حتى فتح آدم عينيه ومال إليها متمتماً“ستكون هذه ناقوسي” . ونستغرق في قصص الحية حاسدة الإنسان على النعيم الذي فيه وعلى منزلته وحوّاء، فكان السقوط في الخطيئة المعروفة، وصولاً الى قصص الطرد ونوح والطوفان وإبراهيم وذرية كنعان بعدما وزّعت الأرض بالقرعة على أبناء نوح الذي اختار جبل لبنان الممتدّ إلى نهر النيل موطناً رائعاً له . وهنا تنكر الأسطورة العبرية على الكنعانيين حقّ السكن في فلسطين ولبنان الذي ذكر وأرزه كثيراً، مع أنّ الكنعانيين كانوا في الجنوب والفينيقيين في الشمال شعباً واحداً أصليين .
الدولة اليهودية هي باختصار طاقة هائلة من الانتماء إلى الفكرة القديمة الحيّة في وجدان اليهود ومحورها “أرض الميعاد” كحقّ تاريخي لهم بأراضٍ بقيت متحولة ورخوة ومطّاطة وتداهمها الحروب اليوم، إلى حدود الخراب الكبير . صحيح أنّه أدب مسكون بنديب طفولة الشعب اليهودي ووعورته في بدائيته الوحدانية الأولى، لكنّه يكشف عن خداع واستغفال نادر في التاريخ يتكرّر مع كلّ حدث .
لماذا هذه المقدّمة الطويلة في القصص اليهودي؟
* أوّلاً: لأنّ الدنيا المغمّسة بالفكر الديني والحروب المذهبية، “اشتعلت” لتصريح محرّف لرأس الكنيسة الكاثوليكية فرنسيس الأول ينفي فيه وجود جهنم والجنة، ويعتبر كل الأديان صحيحة بينما قصة آدم وحواء هي من الأساطير ولا وجود لمفهوم العقاب عند الله . صحيح أن أوساط الفاتيكان قد أطفأت وهج هذا الاشتعال الذي أدرجه الكثيرون في خانة التجديف le canular عندما أشارت إلى الالتباس في مقالة بعنوان “ثورة فرنسيس . . لقد ألغى الخطيئة رسمياً” نشرها أوجينيو سكالفاري أحد المثقفين الإيطاليين البارزين بعد لقائه البابا فرنسيس، معتمداً على “أسلوب استنتاجي محرّف وغير دقيق نوعاً ما، ذكر فيها أنّ البابا يعتقد أن الخطيئة أو الذنوب غير موجودة، لكنّ البابا قال بالحرف: إنّ رحمة الله ومغفرته أبديّة” . وهنا من المفيد ربّما إيراد ما جاء في التوراة: “يا ربّ العالم . العالم ملك لك تستطيع أن تفعل به ما تشاء، ولكنّ الإنسان الذي ستخلقه واقع في الخطيئة لا محالة، إن كنت لا تعامله بالرحمة والمحبة، فمن الخير له ألاّ يخلق، لأنّك إن عاملته بالعدل هلك”، غير أنّ الله طمأن التوراة بقوله: “. . . إني لن أحكم العالم بالعدل، بل إنّي سأحكمه بالرحمة والمحبة” والمغفرة كما صوّب الفاتيكان .
* ثانياً: للتذكير بالأصابع اليهودية الساهرة قبالة فلسطين وسوريا والعراق ولبنان وصولاً إلى نهر النيل بهدف نزع ملامح التاريخ القائم فيها ككيانات دينية ودنيوية نزولاً إلى النيل من تاريخ الكنعانيين والفينيقيين السحيق . أين تراث سوريا وبلاد ما بين النهرين وماذا بقي من آثارها على سبيل المثال؟ أين طاقات العرب والمسلمين وما مستقبل فلسطين و“إسرائيل” في منهجيات التاريخ المقارن؟
* ثالثاً: للتذكير أنّ البابا فرنسيس كما أعلن وبعد وقع كلامه المحرّف ، سيقوم بزيارة الأراضي المقدسة 24 و26 مايو/أيار المقبل وتحديداً عمان وبيت لحم والقدس وهي زيارة حج تقليدية يقوم بها باباوات الفاتيكان مرّة واحدة إلى فلسطين . نعم إلى “دولة فلسطين” كما لفظها في فبراير/شباط 2013 وللمرة الأولى شاغل الكرسي الرسولي بعد اعتراف الأمم المتحدة بها كدولة مراقب غير عضو في المنظمة الدولية، ودعا إلى الحوار مع المسلمين، وخلافًا للقانون الكنسي والتقليد قام البابا بغسل الأرجل لاثني عشر شخصًا اثنان منهم مسلمون وتقبيلها . وللتذكير أيضاً أنّ له منذ كان رئيساً للأساقفة، علاقات وثيقة مع اليهود في الأرجنتين، وقد حضر صلوات يهودية في كنيس بيونس آيرس عام 2007 . من المبكر، بالطبع، الكتابة عن تلك الزيارة المنتظرة الحاملة منذ الآن عنواناً لافتاً: “بالمحبّة نواجه التطرّف”، لكنّ الخلفية التي جاء منها ويكشف عنها منذ 13 مارس/آذار ،2012 تضعه مرجعاً بارزاً في التيار الإصلاحي للكنيسة، حيث اختار حياة الزهد ويريد “كنيسة فقيرة، وتدافع عن الفقراء والسلام في عالم تتقاذفه الحروب” .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2181357

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2181357 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40