السبت 10 تموز (يوليو) 2010

دروس من الأزمة التركية - الإسرائيلية

السبت 10 تموز (يوليو) 2010 par طلعت رميح

للأزمة في العلاقات التركية - الإسرائيلية جوانب عديدة مهمة. وقد غلب على الاهتمام بها خلال الفترة الماضية مسألة التحول في المواقف التركية وأمر الاختلاف والصراع بين البلدين - وهذا أمر طبيعي إذ أول ما يلفت النظر ويطلب التفسير هو التغيير الذي طرأ على علاقة البلدين، وقد كان - ولا يزال - للأمر بعد عربي في مثل هذا الاهتمام والتركيز، إذ الجمهور العربي ومثله الكتاب والمحللون والمثقفون، كانوا في حاجة ماسة إلى مدد ودعم في مواجهة «إسرائيل»، ينقذ الأوضاع العربية من حالة التدهور المزمنة، ويكون قطبا آخر في مواجهة أو بديلاً للزحف الإيراني داخل المنظومة العربية أيضاً.

ومن بين الجوانب التي حظيت باهتمام كبير أيضاً، مسألة الدور التركي وعلاقته بالدول العربية ومكانة هذه الدولة أو تلك، على اعتبار أن تركيا القادم الجديد، لابد أن يؤثر دورها في المنطقة على الدول صاحبة الدور «التاريخي» وعلى علاقات الدول بعضها البعض، وفي ذلك قياس على ما أدخلته إيران من معادلات جديدة على أدوار وعلاقات الدول العربية، حتى قيل إن إيران نجحت في شق الصف العربي، أو على الأقل هي أعادت تشكيل العلاقات بين الدول العربية على أساس العلاقات بين هذه الدول أو تلك مع إيران، لتصبح قطباً مؤثراً في المنظومة العربية من داخلها.

وهناك من صب اهتمامه وتركيزه في رؤية ومتابعة تطور الأزمة في العلاقات بين تركيا و«إسرائيل» على مسألة الدوافع التركية الكامنة وراء التغيير الحاصل في مواقفها، وكان أغلب التركيز قد تمحور على فكرة مؤداها أن الولايات المتحدة راغبة في دور تركي ضاغط على «إسرائيل» بما يسهل لأوباما الضغط عليها في ظل عدم قدرة إدارته على مواجهة ضغوط اللوبي اليهودي أو الصهيوني داخل الولايات المتحدة، التي تقلل من حركته الضاغطة على «إسرائيل».

وهكذا تعددت وتنوعت مجالات واتجاهات الفكر والتحليل والاهتمام بهذا الذي جرى وبدل الأحوال في العلاقات التركية - الإسرائيلية بعد وصول واستقرار حكومة حزب العدالة والتنمية في حكم تركيا، وقد كانت توجهات تلك الحكومة ذاتها أحد أوجه الاهتمام في العالم العربي، إذ اهتم البعض بمسألة إسلامية هذا الحزب، واعتبرها الأساس في التغيير الحاصل في العلاقات التركية الإسرائيلية.

غير أن ثمة أوجه أخرى جديرة بالاهتمام في تلك الأزمة التي قفزت فجأة بالعلاقات التركية - الإسرائيلية من خانة التحالف الاستراتيجي إلى مربع الصراع، وأهمها، الدروس التي يجب استخلاصها من نمط الإدارة التركية لتلك الأزمة، إذ شاهدنا مباراة سياسية ودبلوماسية من طراز فريد على صعيد الإدارة التكتيكية لها.

والمقصود هنا تحديداً، أن نتعرف على كيفية الإدارة التركية لتلك الأزمة، ومقارنتها بالنمط السائد في المعالجات العربية لأزمات مشابهة، وليس التعرف على المواقف التركية من العلاقات مع «إسرائيل» في حد ذاتها، إذ الاهتمام بهذا الجانب وفير الكتابات والتحليلات الجارية، منذ بداية الأزمة وحتى الآن.

(1)

الدرس الأول، نأخذه من النتيجة التي وصلت لها التحركات التركية الضاغطة على «إسرائيل»، لرؤية السقف الأعلى الذي أنتجته الإدارة التركية للأزمة، وللتدليل على أن «التحرك التكتيكي» الصحيح قادر على تغيير معادلات الحركة، وقلب موازنات التأثير لتصبح ضاغطة على الخصم، وعلى نحو مدهش-وهي التي كانت تجرى دوماً لمصلحته.

لقد تابعنا خلال الأيام الماضية أنباء عقد لقاء سري بين وزير إسرائيلي - مبعوث من رئيس الوزراء الإسرائيلي - ووزير الخارجية التركي داوود أوغلو. وفي هذا اللقاء يتضح للمتابع درسان هامان على صعيد قدرة «التكتيك الصحيح» في تغيير الموازنات واتجاهات التأثير ومعادلاتها.

الدرس الأول، أن شدة الضغط وتكثيفه على نحو حاسم في لحظة مناسبة، تدخل أطراف الحكم في «إسرائيل» في حالة تفلت أطرافها من بعضها البعض.لقد كان للضغط التركي الحاسم والعلني تأثيراً حاسماً على أوضاع «إسرائيل» الدولية والإقليمية بما اضطر «إسرائيل» «المتغطرسة» أن تطلب هي عقد لقاء سري مع القيادة التركية، فيما فهم على أنه محاولة إبداء ضعف إسرائيلي خلف الأبواب لتسوية الخلاف، فكان أن أصرت تركيا أن يكون الاعتذار الإسرائيلي علنياً، وهنا، وربما ذلك بيت القصيد، لم يرسل نتنياهو وزير خارجيته المرفوض تركيا. بل هو أرسل مندوباً عنه لملاقاة داوود أوغلو، دون إبلاغ وزير خارجيته بما أحدث أزمة بين نتنياهو ولبرمان. كانت موافقة نتنياهو على إرسال وزير آخر غير الوزير المختص-أي وزير الخارجية- رضوخاً لمطالب تركيا، والأهم أنه ثبت قدرة التحرك الضاغط والحاسم من قبل تركيا على إحداث تفلت بين أطراف الحكومة الإسرائيلية، و لعل أهم ما يوضح «القصد التركي»، لما حدث باجماليته، هو مبادرة وزير الخارجية أوغلو إلى تفجير الأوضاع داخل الحكومة الإسرائيلية مباشرة، بإعلانه هو عن أن اللقاء جرى بطلب إسرائيلي، بما وضع نتنياهو وجهاً لوجه مع وزير خارجيته، في وقت يشعر فيه الرئيس الإسرائيلي بالقلق من تشكيلة الحكم ويتحرك لتغيير تركيبتها على حساب ليبرمان تحديداً.

(2)

والدرس الثاني، الذي نأخذه من النتائج أيضاً، أننا رأينا ولأول مرة على هذا المستوى من الوضوح، رئيس حكومة إسرائيلية يحاول «تحسين» علاقته مع دول الإقليم، قبل زيارته للولايات المتحدة، إذ المعتاد في عالمنا العربي للأسف، أن يحاول الزعيم العربي تحسين صورته وتهدئة الخواطر بشأنه من خلال التودد لـ «إسرائيل»، سواء باستقبال بعض مبعوثيها أو بتنشيط العلاقات معها، أو بإطلاق تصريحات «مساومة»، قبل الذهاب للولايات المتحدة ولقاء قادتها وفق المقولة السائدة بأن خطب ود وقلب الولايات المتحدة، وفتح الأبواب المغلقة فيها، والسبيل لإنجاح الزيارات إليها - أو اللقاء مع مسؤوليها على الأراضي العربية - يكون بالملاطفة والملاينة مع «إسرائيل»، أو بكسب ود قادتها.

تركيا جعلت «إسرائيل» في الموقف العكسي، إذ نتنياهو هو من طلب اللقاء مع وزير الخارجية التركي، لتحسين صورته أمام الولايات المتحدة قبل زيارتها.

وهنا، كان التصرف التركي نموذجاً في إفشال المحاولة الإسرائيلية، إذ جرت الموافقة على اللقاء مع وضع شروط قاسية لتحسين العلاقات، فضلاً عن توجيه الضغط باتجاه تماسك الحكومة الإسرائيلية، بما اضطر القيادة الإسرائيلية إلى إعلان مواقف والقيام بتصرفات لا تحقق أهدافها الأصلية من اللقاء، بل هي ذهبت إلى عكس ما قصدت تماماً.

(3)

هنا نعود إلى الأصل في السلوك التركي والتحركات التكتيكية التي أوصلت «إسرائيل» إلى حد المأزق الراهن.

ففي درس مباشر لإدارة الأزمات، نعود إلى لقاء منتدى دافوس. ماذا رأينا. شاهدنا موقفاً «مخططاً بدقة» من قبل رئيس الوزراء التركي، ومن حزب العدالة والتنمية الحاكم. كما سلوك أردوغان مفاجئاً لبيريز ورئاسة الجلسة وكل الحاضرين، حتى أن رئيس الوزراء التركي حصل على «ناتج» الموقف وحده، إذ كان حاضراً اللقاء أمين عام الجامعة العربية، ولم يحذو أردوغان وظل باقياً في الجلسة. طلب أردوغان من رئاسة الجلسة أن يحصل على ذات الوقت الذي حصل عليه الرئيس الإسرائيلي خلال إلقاء كلمته، فرفض طلبه. فلم يصمت ولم يحتج ويبقي ليكمل الحوار من بعد مع الصحافة مثلاً، بل هب واقفاً، محتجاً، متمسكاً بمكانة تركيا ووزنها، عائداً إلى بلاده، وهناك كان مواطنوه الذين حشدهم حزبه في انتظاره لتحيته ودعمه وتأييده.

كسب أردوغان الجولة كلياً، واضطر شيمون بيريز للاعتذار، في سابقة لم تحدث مع السياسة الرسمية العربية في علاقتها مع «إسرائيل»، لا سلماً ولا حرباً!

لو لم يخرج أردوغان من القاعة، أو لم يعد لبلاده ليجد حشداً جماهيرياً، ما كانت «إسرائيل» اعتذرت.

(4)

كان الموقف الحازم السابق، والاستقبال الجماهيري الحقيقي، إشارة انطلاق الموقف التركي الجديد. لكن الأهم أن التعامل مع قضية سفن أسطول الحرية، جاء هو الآخر وفق تكتيكات هجومية حاسمة، وبتصعيد مستند إلى «الحركة» على الصعيد الجماهيري داخل تركيا، وبطبيعة الحال في المنطقة العربية، وعلى صعيد الوضع الدولي. في الحشد والتعبئة وإدارة حملة أسطول سفن الحرية، لم يجر الأمر على أنه محاولة تسجيل موقف وكفى، بل جرى على أساس أنه معركة سياسية يجب أن تخاض بتكتيكات حاسمة. الأمر لا يتعلق بمسألة قتالية أو بوجود حالة إصرار على الحصول على حق الوصول إلى غزة بالقوة، بل بوضع الأمر في إطار «خطة سياسية» و«فهم وإدراك سياسي» واستعداد للتضحية ونفض لكل مظاهر الخوف وتسجيل سابقة، وقهر القوات المسلحة بقوة الموقف والصمود وتقديم التضحيات.

لكن كل ذلك، لم يكن له أن يترك صدى سياسياً وقانونياً وجماهيرياً، إذا لم تتوفر له عوامل المساندة الجماهيرية في تركيا، والمساندة السياسية على الصعيد الرسمي وعلى نحو حاسم، بإلقاء وزن وقوة ودور تركيا في المواجهة، وهذا ما حدث بالدقة - كما كان الحال في مواجهة أردوغان بيريز - إذ احتشد الجمهور التركي بوفرة في الشوارع وحول السفارة الإسرائيلية والقنصليات، كما تحركت كل المؤسسات التركية التنفيذية والتشريعية بشكل فوري متساند، وجرى تحديد مطالب واضحة ومحددة، جرى إعلانها فوراً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2178241

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178241 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40