الثلاثاء 4 شباط (فبراير) 2014

دموع على أستار المتحف

الثلاثاء 4 شباط (فبراير) 2014 par مصطفى الفقي

كتب الشاعر المبدع فاروق جويدة رائعته (دماء على أستار الكعبة) وها أنا أقيم على ذات الوزن عنوان هذا المقال ذلك أنني معني بالتاريخ الذي أتنسم رائحته، حفيٌ بالتراث الذي أعيش أجواءه، لأن العدوان عليهما هو عدوان على الحضارة الإنسانية والهوية المصرية في آن، فحضارة الكنانة هي سبيكة من رقائق فرعونية وإغريقية ويونانية وقبطية وإسلامية مع مسحة من الحداثة الغربية، لذلك انتفضت شخصياً عندما جرى العبث “بحديقة الأورمان” على يد من لا يعرفون قيمة التراث ولا يكترثون بمكانة التاريخ، ويوم أصاب “بوابة الأورمان” تشويه وفقدت الحديقة التاريخية بعض كنوز القرن التاسع عشر شعرت بحزن دفين، وعندما أصابت محاولة تدمير “مديرية أمن القاهرة” واجهة “المتحف الإسلامي” وبعض محتوياته وأغلى مقتنياته شعرت بأن الضربة موجهة إلى تاريخ عريق وحضارة شامخة، ذكرتني بجرائم “التتار” في بغداد واكتساح “المغول” للمدائن الآسيوية منذ قرون عدة وأدركت أننا نواجه بحق “أعداء الحياة” و“أعداء التراث” وأعداء الحضارة الإنسانية مجتمعين، ولعلي أبسط بهذه المناسبة الملاحظات الخمس التالية:
* أولاً: إن دولاً كثيرة في هذا العالم تباهي بما لديها من آثار ولو قليلة قد لا تتجاوز بعض القطع التي لدينا منها مخازن ملأى، ولكن الكل يدرك أن عراقة الشعوب وتاريخ الحضارات وعظمة الأمم لا تشهد عليها إلا آثارها الباقية، ونحن للأسف من أكثر شعوب الأرض امتهاناً للآثار وتفريطاً فيها، بل وعدواناً عليها، وكأننا لا نعلم أن “الأمريكيين” حاولوا شراء “كوبري لندن الشهير” و“أكشاك التليفونات الحديدية الحمر” يريدون أن ينقلوا من “العاصمة البريطانية” شيئاً من تراثها يعوضون به فقر تاريخهم الذي لا يمتد لأكثر من أربعمائة عام . لذلك فإن حجم الجرم الذي نرتكبه لا يعادله جرم آخر، وما زلت أتذكر أن الشارع المؤدي إلى “المتحف البريطاني” الشهير يسمى “الشارع القبطي” نسبة إلى الجناح المصري الضخم من التاريخ الفرعوني والقبطي والإسلامي داخل ذلك المتحف الكبير الذي خرج من مكتبته فيلسوف الاشتراكية العلمية “كارل ماركس” وغيره من مفكري البشرية الكبار .
* ثانياً: لا يوجد في العالم متحف آثار سواء في “لندن” أو “باريس” أو “برلين” أو “نيويورك” أو “بطرسبرغ” إلا وأهل تلك المتاحف وغيرها يشعرون بزهوٍ كبير لوجود قطع أثرية مصرية لديهم، “فالمتروبوليتان” على ضخامته يباهي بها، و“الإرميتاج” على فخامته يشير إليها، ونحن هنا نكدسها في المخازن أو نعبث بها بين لصوص الآثار ومغتصبي الحضارات! وهل ننسى شعبية آثارنا عندما نرسلها إلى الخارج، وكيف تتقاطر عليها جماهير الدول المختلفة التي لا تستطيع القدوم إلى مصر فإذا “الملك توت عنخ آمون” بقناعه الذهبي أمامهم في معرض مؤقت داخل بلادهم لأنها الحضارة المصرية الملهمة والمعلمة وحجر الزاوية في تاريخ الإنسانية كلها .
* ثالثاً: لقد حاول بعض من يتمسحون بالإسلام الحنيف أن يعادوا الآثار القديمة وأن يتحدثوا عنها بلغة “الأصنام” إلى حد تغطية بعض رؤوسها أو كسر رقاب بعضها الآخر باسم “الإسلام الحنيف” بل وتجاوزوا ذلك إلى تحطيم آثار الشعوب الأخرى مثلما فعلت حركة “طالبان” مع التماثيل “البوذية” . وواقع الأمر أن الإسلام العظيم براءٌ من كل هذه الجرائم، والغريب أن أيادي الجريمة امتدت إلى الآثار الإسلامية ذاتها بأيدي من يزعمون الحديث باسم الإسلام ويتشدقون بشعارات “الإسلام السياسي”، إننا يجب أن نذرف الدموع على تلك المخطوطات النادرة التي عبثت بها الجريمة ضد “مديرية أمن القاهرة” مؤخراً والتي عصفت بآثار زجاجية نادرة وأكثر من “مشكاة” إسلامية لا نظير لها، وذلك كله نتاجاً لجريمة نكراء ضد الإسلام والوطن .
* رابعاً: إن التراث الحضاري ملك للإنسانية جمعاء، ولذلك فإن الطعنة التي تلقاها “المتحف الإسلامي” بالقاهرة ليست طعنة للعالمين العربي والإسلامي وحدهما ولكنها طعنة ضد المجتمع الدولي كله لذلك تحركت منظمة “اليونسكو” المسؤولة عن حفظ التراث العالمي، وارتفعت أصوات مؤرخي الحضارات وعشاق التاريخ ضد ما جرى، بل إنني أزعم هنا أن الذين وقفوا وراء تلك الجريمة قد خسروا بها أكثر مما خسروه في أي جريمة أخرى . ولقد شهدت شخصياً مقتنيات ذلك المتحف الرائع بعد تجديده وشعرت يومها بزهو حضاري لا نظير له، فإذا الأيدي الآثمة تمتد إليه وتشوه معالمه وتطيح بأجمل مقتنياته! وكأنما أراد الله أن يفضح الذين أجرموا أمام المجتمع البشري كله .
* خامساً: أنتهز هذه المناسبة لأطالب بتغليظ العقوبة في جريمة الحفر بحثاً عن الآثار خارج إطار القانون، أو نبش الأرض احتمالاً لوجودها، لأن ذلك النوع من الجرائم ليس اغتصابًا لذاكرة الأمة أو عدواناً على ضميرها الباقي فقط، ولكنه يتجاوز ذلك إلى تأكيد انعدام وطنية الفاعل وضعف انتمائه لبلده، وانهيار منظومة الأخلاق لديه . إنه ليس سراً أن آثارنا العظيمة قد تعرضت لعملية نزح كبير من الأجانب والمصريين على السواء حيث جرى بعضها تحت مسمى “الحفريات الأثرية” برعاية الدولة، في حين جرى الأغلب الأعم منها من خلال “دكاكين” مشبوهة للاتجار في الآثار وتسريب قطع نادرة مقابل حفنة من الأموال! خصوصاً أنه كانت لدينا قديمًا قوانين بالية بأحقية المكتشف الأجنبي في نصف ما يتوصل إليه، ويكفي أن نتأمل “المسلات المصرية الكبرى” في ميادين العالم المتقدم والتماثيل النادرة بدءاً من “رأس نفرتيتي” في متحف “برلين” إلى أصغر قطعة داخل متاحف العالم تحت رعاية مدرسة “علم المصريات” الذي ينتشر علماؤه في أرجاء الدنيا، “فمصر” هي صاحبة الحضارة الوحيدة التي توجد مدرسة مستقلة باسمها .
. . هذه خواطر أثارتها جريمة العدوان على “المتحف الإسلامي” بالقاهرة وشعورنا بالحزن أمام ما حدث لأن مصر التي تحتفظ بمتاحف “فرعونية” وأخرى “قبطية” وثالثة “إسلامية” وأيضاً متاحف “نوبية” و“زراعية” و“صناعية” تنظر الآن في قلق إلى قضية “حماية الآثار” وضرورة الحفاظ عليها والتوقف عن تبديدها حتى ينظر الأجداد إلى أحفادهم بالرضا الصامت، وهم يرقدون في قبورهم يتأملون مسيرة الإنسانية حفاظاً على الحضارات والثقافات والديانات فهي كلها وديعة لدى الإنسان يجب أن تبقى لا أن تتعرض للعدوان!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2178780

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2178780 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40