الجمعة 14 شباط (فبراير) 2014

العرب بين المشروعين الأميركي والإسرائيلي

الجمعة 14 شباط (فبراير) 2014 par صبحي غندور

هناك بلا شك إيجابياتٌ عديدة لظاهرة الانتفاضات الشعبية العربية التي حدثت قبل ثلاث سنوات، لكن غيوم السلبيات ما زالت تغطّي سماء المنطقة وتحجب شروق شمس التغيير السليم المنشود فيها. فالأمل كان في حدوث تغييرات سياسية تصبّ في صالح الأوطان ووحدتها وهويّتها العربية وفي الحفاظ على نهج المقاومة ضدّ إسرائيل، لا أن تسير الأمور لصالح الأجانب وإسرائيل ونهج الشرذمة.

فهناك خوفٌ الآن على البلدان العربية التي شهدت هذه الانتفاضات الشعبية، خوفٌ على نفسها وعلى وحدة أوطانها وشعوبها وعلى أمنها واستقرارها السياسي والاجتماعي. وهذا الخوف مشروعٌ طالما أنّ المنطقة هي ساحة تنافس وصراع مصالح بين قوى إقليمية ودولية، بينما يغيب تماماً أيُّ «مشروع» عربي، ومع حضور «مشاريع» غير العرب لمستقبل أوطان العرب.

لقد أشرتُ مع بداية ثورتيْ تونس ومصر في مطلع العام 2011، إلى أنّ الثورات هي أساليب يرتبط نجاحها بتوافر القيادات المخلصة والأهداف الواضحة والبناء التنظيمي السليم. كذلك ناشدت، في الأسبوع الأول من انطلاقة الثورة الليبية، الجامعةَ العربية، ومصرَ تحديداً، بالتدخّل لصالح الثورة والشعب الليبي قبل أن يتدخّل الأجانب وقبل أن تصبح ليبيا أمام مخاطر التدويل والتقسيم. وطبعاً لم يحدث ذلك لا عربياً ولا مصرياً. أيضاً، كتبت عن «المتغيّرات» العربية التي تحدث في ظلّ «ثوابت» ظروف وصراعات في المنطقة، والتي منها التحدّي الإسرائيلي ومراهناته على إضعاف الثورات العربية بتفتيت شعوبها وأوطانها، وبفتن على «الجبهة الشرقية» تُضعف نهج المقاومة في لبنان وفلسطين.

فالثورات العربية حدثت بينما أوطان هذه الثورات تقوم على مفاهيم وأفكار وممارسات طائفية ومذهبية وقبلية وإثنية تؤذي الثورات والقائمين بها، ولم يكن هناك سياج وطني عام يحميها من شرور بعض القوى المحلية أو الأطراف الخارجية ذات المصلحة في إحداث فتن داخلية.

والمنطقة العربية كانت، ولا تزال، في حالٍ من الصراعات والخلافات بين حكومات دول المنطقة، ولم تؤدِّ بعدُ التغييرات التي حدثت في مصر إلى إعادة التضامن العربي على أسس سليمة، تضامن تصبح المنطقة، في غياب حدِّه الأدنى، فارغةً من أيّ رؤية أو «مشروع» عربي يقابل ما هو يُطرَح (ويُنفَّذ) من رؤى ومشاريع إقليمية ودولية. فتكون المنطقة العربية مُسيَّرةً في سياساتها وأوضاعها حتى لو أدّت الثورات إلى جعلها مُخيَّرةً شكلاً في أمورها الداخلية.

أجد الآن المنطقة العربية «مخيَّرة» بين مشروع أميركي وآخر إسرائيلي، وهما يتقاطعان في مناطق اتفاقٍ مشتركة ويختلفان في أخرى. المشروع الإسرائيلي ما زال يراهن على صراع عربي/إيراني في الخارج الإقليمي وعلى صراعات وفتن طائفية ومذهبية وإثنية في الداخل العربي. فهذا فقط ما يصون «أمن إسرائيل» ومصالحها في المنطقة، وما ينهي نهج المقاومة ضدَّ احتلالها، وما يجعل «العدو» هو العربي الآخر (أو الإيراني المجاور)، وما يُنسي شعوب المنطقة القضية الفلسطينية، وما قد يُسّهل فكرة «الوطن البديل» في الأردن، وما يجعل الانتفاضات الشعبية العربية قوّة هدمٍ لكيانات وليس فقط لإسقاط حكومات!

أمّا المشروع الأميركي الراهن فهو، من وجهة نظري، يُراهن على استثمار الثورات والمتغيّرات العربية لصالح مشروع أميركي لعموم منطقة الشرق الأوسط، ويقوم على إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي على كلّ الجبهات وإعلان «دولة فلسطينية» بحيث ينشأ وضع جديد في عموم المنطقة لا تكون فيه مبرّرات لحالات مقاومة ولا لعلاقات عربية خاصة مع إيران، بل توافق أميركي/عربي/إسرائيلي شامل من المحيط إلى الخليج، في ظلّ ترابط أمني واقتصادي وتجاري وسياسي بين واشنطن وكل عواصم المنطقة، وعلى قاعدة تحقيق التطبيع العربي الشامل مع إسرائيل ممّا يُعزز «الهُويّة الشرق أوسطية» كبديل للهويّات القومية والدينية التي رافقت الصراع العربي مع إسرائيل والغرب.

طبعاً، أيٌّ من المشروعين الإسرائيلي أو الأميركي سيتوقّف تحقيقه على شعوب المنطقة نفسها وعلى الأطراف العربية والإقليمية المجاورة، فإن سارت هذه الشعوب وحكوماتها في «نهج الصراعات العُنفية» والحروب الأهلية فإنّها حتماً تخدم «المشروع الإسرائيلي» ومراهناته، أمّا إذا تجاوبت المنطقة مع خيار «نهج التسويات» الأميركي المطروح الآن بعد تقاطع سابق مع «المشروع الإسرائيلي»، فإنّ بلدان هذه المنطقة ستكون سابحةً كلّياً في الفلك الأميركي الذي يرى في هيمنته على المنطقة وثرواتها وموقعها، ضماناً استراتيجياً لاستمرار أميركا الدولة الأعظم في العالم.

هذه هي خيارت المنطقة الآن في ظلِّ غياب «المشروع العربي» الواحد وفي مناخ الانقسامات السائدة بالمجتمعات العربية.

لقد كان المشروع الأميركي للمنطقة خلال حقبة بوش و«المحافظين الجدد» يقوم على فرض حروب و«فوضى خلاّقة» و«شرق أوسطي جديد»، وفي الدعوة لديموقراطيات «فيديرالية» تُقسّم الواطن الواحد ثم تعيد تركيبته على شكل «فيديرالي» يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن، ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقراراته. وكانت نماذج هذا المشروع في العراق وفي السودان معاً، وهي الآن مطروحة كحلول مستقبلية لليمن وليبيا وسورية.

لا يهمّ الحاكم الأميركي إلا المصالح الأميركية، فهو قد يكون مع تغيير أشخاص وحكومات في بلدٍ ما ولا يكون كذلك في بلدان أخرى. الأمر يتوقّف طبعاً على «ظروف» هذا البلد ونوع العلاقة الأميركية مع المؤسّسات القائمة فيه بما فيها المؤسّسة العسكرية، لكن الاعتبار الأميركي الأهم هو «نوع» البدائل الممكنة لهذا النظام أو ذاك.

وسيكون هذا العام هو المحطّة الأهم في مسيرة إدارة أوباما وفي تاريخ رئاسته الثانية، فهناك جملة استحقاقات في هذا العام، منها: الانسحاب الأميركي من أفغانستان، كما هو أيضاً عام تقرير مصير مشروع «الدولة الفلسطينية» ومستقبل عملية التسوية للصراع العربي-الإسرائيلي. وكذلك هي أهمية هذا العام بالنسبة لمصير الاتفاق الدولي مع إيران ولمدى إمكان تحقيق تسوية سياسية للأزمة الدموية في سورية. وهي كلّها قضايا ترتبط بنسبة التفاهمات الحاصلة بين واشنطن وموسكو. وستحاول الآن إدارة أوباما استثمار ما يحدث من مشاريع تسويات لهذه القضايا قبل الخريف المقبل، وهو موعد الانتخابات الأميركية النصفية التي يحتاج أوباما إلى فوز الديموقراطيين فيها بغالبية مجلسيْ النواب والشيوخ لاستكمال أجندة إدارته داخلياً وخارجياً.

صحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات داخل البلدان العربية، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟ الأمّة العربية قبل هذه الانتفاضات الشعبية كانت تعيش كابوس خطر تقسيم كلّ قطر على أسس إثنية وطائفية ومذهبية. وكانت الأمّة تخشى على نفسها من نفسها أكثر ممّا يجب أن تخشاه من المحتلّين لبعض أرضها والساعين إلى السيطرة الكاملة على ثرواتها ومقدّراتها. فضعف جسم الأمّة العربية كان من ضعف قلبها في مصر، ومن استمرار عقل هذه الأمّة محبوساً في قوالب فكرية جامدة يفرز بعضها خطب الفتنة والانقسام بدلاً من التآلف والتوحّد.

سؤال يكرّره العرب اليوم: أين مصر ممّا يحدث الآن في بلاد العرب؟ وهل صحيح أنّ أوضاع مصر الداخلية هي العامل المانع لتحرّكٍ مصريٍّ منشود يوقف تدحرج المنطقة نحو هاوية التدويل أو التقسيم أو الاثنين معاً؟!

الانتفاضات الشعبية العربية لم تنتظر نضوج الأمور الداخلية في مصر حتى تبدأ حركتها، كذلك هي القوى الإقليمية والدولية والتي سبقت أصلاً هذه الانتفاضات بوضع مشاريع وخطط تضمن مصالحها في المنطقة العربية كيفما كان اتجاه رياح التغيير فيها.

آمال العرب هي على مصر، لأنّ مصر هي القوّة العربية الأساس في كلّ مواجهة خاضتها الأمَّة العربية على مرِّ التاريخ، ولأنّ المنطقة كانت تخضع دائماً لتأثيرات الدور المصري إيجاباً كان أم سلباً. لكن التاريخ يؤكّد أيضاً أنّ أمن مصر هو من أمن العرب وأنّ استقرارها وتقدّمها مرهونان أيضاً بما يحدث في جوارها العربي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2178696

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2178696 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40