الخميس 6 آذار (مارس) 2014

حالات ثورية مستدامة

الخميس 6 آذار (مارس) 2014 par جميل مطر

بانتصار الشعب المعتصم منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في ميدان “الميدان” بوسط كييف، العاصمة الأوكرانية، تكون الثورة البرتقالية قد أكملت دورة كاملة . بمعنى آخر، عادت إلى نقطة انطلاقها الأولى في عام 2004 حين خرجت جماهير تطالب بالحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية وعدالة التوزيع . خرجت في ثورة، شجعتها عليها قوى خارجية، أمريكية وأوروبية، ضد نظام الحكم القائم، وأقامت حكومة شارك فيها بعض قادة الثورة ورموزها الشهيرة . ولكن حدث أن أساءت هذه الحكومة التصرف، فتدهور الاقتصاد وانحدرت العلاقات مع روسيا . وكانت النتيجة أنه عندما جرت أول انتخابات ديمقراطية ونزيهة سقطت الحكومة التي ترأسها صاحبة الضفيرة الذهبية . سقطت سقوطاً مدوياً وحلت محلها حكومة يقودها ممثل عن كبار الأغنياء الذين قامت ضد فسادهم ثورة البرتقال، يشجعها ويساندها النظام الحاكم في روسيا بوعود المعونات وتسهيلات الغاز والنفط والتجارة .
كانت نتيجة انتخابات 2010 الجائزة التي حصلت عليها القوى الأوكرانية المنتفعة من التجارة مع روسيا، والشخصيات العاملة في التهريب وغسل الأموال مكافأة على جهود عرقلة مهام المرحلة الانتقالية وإجهاض الثورة . وكانت انتصاراً لروسيا التي اعتبرت الثورة البرتقالية، وغيرها من الثورات الملونة التي نشبت في دول شرق أوروبا، جزءاً من خطة محكمة رتبتها ونفذتها الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، هدفها الأكبر اشتعال ثورة شعبية في روسيا، ضد نظام حكم الرئيس بوتين .
تشابهت ثورات العصر الجديد، العصر الذي افتتحته مقولة نهاية التاريخ . تشابهت بداياتها ومراحل تطورها صعوداً وهبوطاً، وتشابهت أزماتها، وتشابهت، بطبيعة الظروف والبيئة الدولية، بعض أسباب انطلاقها . تشابهت في الكثير واختلفت في القليل، خاصة في التفاصيل والتوقيتات وفي أساليب رفض المؤسسات العتيقة لها .
لاحظنا على الأقل في ثلاث أو أكثر من هذه الثورات، أن الطرق السلمية التي التزمتها هذه الثورات عند انطلاقها تبنت العنف في مرحلة أخرى، إما بفعل فاعل جاء من خارج الثورات أو بحكم بقاء الثوار طويلاً في الميادين، اعتصاماً أو تظاهراً . في مصر مثلاً جاءت مراحل طغت فيها أساليب العنف المتبادل على الأساليب السلمية، حتى المظاهرات، كأداة سلمية بامتياز، صارت بحكم القانون في مرحلة محاولة استرداد الاستقرار، عملاً عنيفاً . وفي كييف سقط عشرات القتلى في صدامات عنيفة بين المعتصمين في “الميدان” وقوات الحكومة، انتهت باحتلال المتظاهرين قصر الرئاسة . وفي ميدان تقسيم باسطنبول لم تتحمل حكومة أردوغان طويلاً التظاهر السلمي واحتلال الثوار لأجزاء من الحديقة، فاستخدمت العنف الذي ولّد على الفور عنفاً مضاداً، مازال متفاعلاً مع قمع وعنف قوى الأمن . حدث الشيء نفسه في عدد من مدن فنزويلا خاصة في كاركاس ومدن في تايلاند خاصة في العاصمة بانكوك .
بمتابعة تفاصيل هذه الحالات وغيرها أمكن لنا، كمجموعة نقاش، استنتاج أن معظم ثورات العصر الجديد تتحول بفعل الغضب المتولد عن العنف إلى “حالة ثورية مستدامة”، بمعنى أن شعوباً بعينها تعودت خلال السنوات الأخيرة أن تمارس حياتها الطبيعية، تعمل وتتسوق وتتسلى، بينما الثورة مشتعلة، أحياناً لبضع ساعات وفي بضعة مواقع وأحياناً لأيام وشهور متواصلة وفي البلد بأسره . هذه “الحالة المستدامة” من الغضب أو الثورة ستؤدي حتماً أو لعلها أدت بالفعل إلى إعادة تكوين شخصية المواطن العادي في هذه الدول . شخصية لها سماتها الخاصة . وربما كان هذا الاستنتاج الذي توصل إليه أصدقاء يحللون ويتابعون الثورات هو السبب وراء استخدام أحدهم عبارة “أدرينالين الثورة المعاصرة” ليعبّر بها عن العناصر المؤثرة والمتسببة في عمليات التجدد الانفعالي والحماسة المتقدة لدى شعوب هذه الثورات .
لاحظنا أيضاً أن معظم هذه الثورات عاشت مهددة بالاختطاف من جانب القوى المالية وأصحاب المصالح، أي جماعة من كبار الأغنياء وأصحاب المال، لإعادة أمور الدولة، سياسة واقتصاداً وقمعاً وفساداً، إلى ما كانت عليه قبل نشوبها . حدث هذا في أوكرانيا بعد انتخابات ،2004 وكانت نزيهة . وحدث في تايلاند في أعقاب انتخابات ديمقراطية أيضاً ونزيهة وشريفة، ويجري في مصر الإعداد للتوصل إلى نتائج مماثلة في الانتخابات البرلمانية القادمة .
ولاحظنا أن الغضب والتوتر يتجددان في المجتمعات التي تنطبق عليها صفة “الحالة الثورية المستدامة” . تقديري أن الناس تعرف، وتجد دائماً من يذكرها، بأن طبقة معينة كونت معظم ثرواتها في زمن توحشت فيه الرأسمالية، أي في مرحلة سرقت من التاريخ فكان سهلاً عليها وميسراً لها شراء القطاع العام بأبخس الأثمان . أفراد هذه الطبقة اتخذوا مواقف معادية وأحياناً استأجروا العنف لضرب الثورة وتصفية الثوار، وذهب بعضهم إلى حد تمويل بعض أنشطة العنف المنظم، عنف الدولة . هؤلاء الأفراد لا يتسترون فالجماهير الغاضبة في تايلاند تعرفهم وكذلك جماهير فنزويلا وأوكرانيا ومصر . هؤلاء هم طاقة التجديد والاستمرار للثورات الناشبة في تلك الدول .
هكذا تتحول معظم هذه الثورات المتعثرة إلى حالات ثورية مستدامة . يساعد في هذا التحول حقيقة أن القوى الحاكمة والمتسلطة بمؤسساتها العتيقة والعصية على التغير والإصلاح تمنع محاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين في مختلف مواقع الثورة . إذ إنه رغم مرور عشر سنوات على نشوب الثورة البرتقالية لم يصل التحقيق في أحداث القتل التي جرت في “الميدان” إلى نهايته المنطقية، وهي اعتقال المسؤولين ومحاكمتهم . الشيء نفسه متكرر في الثورة المصرية وثورة تايلاند وها هو يبعث من جديد في تشيلي وغيرها من دول أمريكا اللاتينية . لذلك لم يكن مفاجئاً أن يرفع المتظاهرون والمعتصمون في ساحات الثورة الأوكرانية لافتات تحمل عبارة “المجد للأبطال” الذين سقطوا برصاص قوى البطش وعبارات تطالب بالقصاص من القتلة ومرتكبي جرائم التعذيب وتكبيل الحريات ومطاردة الثوار . ولم يكن مفاجئاً للمراقبين الذين انشغلوا بعمل مقارنات بين الحالات الثورية المستدامة، اكتشاف أنه في معظم هذه الحالات، تعمدت قوى الأمن الداخلي الاختفاء تماماً من مسارح الأحداث لأيام أو أسابيع، لإتاحة الفرصة أمام القوى الغوغائية في المناطق العشوائية لتخرج للنهب والسرقة والاختطاف، أملاً في أن تنفضّ الاعتصامات ويتخلى المتظاهرون عن قياداتهم ليتفرغوا لحماية ممتلكاتهم وعائلاتهم، وفي النهاية تسد الطرق أمامهم إلا طريق “الاستقرار بأي ثمن” .
كثيرة هي العناصر التي يمكن أن تتكاتف لمد أجل الثورات وتحويلها إلى حالات ثورية مستدامة . ذكرت منها عنصر القوى المالية الكبيرة المنتفعة من الصعود المستمر لقوى الليبرالية الجديدة المتوحشة في الغرب . منها التدهور المستمر في العلاقة بين شعوب الثورات وقوى الأمن، وأحياناً كافة القوى العتيقة في المجتمع وبعضها مستفيد من حالة الاستقطاب الاجتماعي والحضاري ليحمي امتيازات الفئوية . ومن هذه العناصر، أيضاً كما ذكرت، الرفض العنيد من جانب القوى الحاكمة لإدخال إصلاحات على أنظمة القضاء والأنظمة التي تضمن القصاص من القتلة والفاسدين والمعذبين والمخربين الحقيقيين لوحدة الأمة وسلامة أراضيها .
هذه العناصر ليست كل ما يساهم في إطالة عمر الحالات الثورية . فهناك عناصر، ربما أقل أهمية وثانوية، يأتي في مقدمتها الصراع الدولي على مناطق النفوذ، وهو العنصر البادي بوضوح بالغ في تطورات الثورتين السورية والمصرية بشكل عام والثورة الأوكرانية بشكل خاص . هناك أيضاً، الأزمة الاقتصادية العالمية التي باتت تمنع دولاً في الغرب، خاصة في أمريكا والاتحاد الأوروبي، من تقديم مساعدات ترفع عن كاهل الثورات أعباء أزمات داخلية طاحنة . المثالان البارزان في هذا الصدد هما مصر وأوكرانيا، حيث تجاوزت الأزمة في كل منهما قدرات الاتحاد الأوروبي وأمريكا وروسيا، بل وربما دول الخليج، ما جعل الأمل ضعيفاً في الخروج من الأزمة في وقت قريب، خاصة أن الدولتين ما زالتا ترفضان وصفات صندوق النقد الدولي، المدعومة أوروبياً وأمريكياً، باعتبار أن تطبيق هذه الوصفات كاف وحده لتصعيد الغضب الشعبي وزيادة تعقيد الأزمة الاجتماعية والسياسية .
أقترح أن يعاد النظر في خرائط الطريق المطروحة في مصر وعدد من دول الثورات الربيعية . لقد افترض واضعو هذه الخرائط ، سواء كانوا من خبراء الأمم المتحدة أو خبراء محليين، أن لكل الثورات بداية ونهاية بينهما فترة محدودة من الوقت . تثبت مؤشرات عديدة أن معظم الثورات التي نشبت في العقدين الأخيرين تحولت إلى حالات ثورية مستدامة، بمعنى أنها وجدت عناصر تمدها بالطاقة اللازمة لتجددها واستمرارها وتقف حائلاً دون حل المعضلات التي أدت لنشوبها .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 25 / 2178481

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2178481 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40