الجمعة 7 آذار (مارس) 2014

من قتل معتز وشحة؟

الجمعة 7 آذار (مارس) 2014 par نافذ أبو حسنة

بما أن كثيراً من الحروب والاشتباكات صارت منقولة على الهواء مباشرة، فقد تسمر بعضنا أمام شاشة وحيدة كانت تنقل وقائع الهجوم على منزل عائلة “وشحة” في بير زيت، بالضفة الفلسطينية،

أواخر الأسبوع الماضي، أعداد كبيرة نسبياً من الجنود الصهاينة، تهاجم منزلاً واحداً، ورجلاً واحداً أيضاً، رجلاً واحداً رفض تسليم نفسه للقتلة، أرادوا اعتقاله، وهو الذي خبر سجونهم سابقاً، وحُرر منها مؤخراً، وفضل الشهادة على الانكسار، أراد أن يصنع مأثرة، وأن يقدم نموذجاً في رفض الاستسلام للعدو، بل مقاومته، حتى وهو يعلم أن لا قبل لرجل واحد بمواجهة دولة الغزاة القتلة، وهو بذلك كان يختار الشهادة.

ولكن مهلاً، أليس من المتوقع أن أفكاراً أخرى قد دارت في خلده، وهو يختار طريق المواجهة والتحدي، بديلاً لذل الاستسلام؟

قبل محاولة تخيل ما يمكن أن يكون قد خطر للمحرر “معتز وشحة” قبل ارتقائه شهيداً، ويفوز بثلاث صفات كبيرة: الأسير، المحرر، الشهيد، فإن انفراد قناة وحيدة بنقل وقائع المواجهة على الهواء مباشرة، هو مؤشر على المكان المراد لفلسطين وقضية فلسطين هذه الأيام، وبالمناسبة فقد كان نصيب اقتحامات المسجد الأقصى من التغطية، والتي وقعت بالتزامن مع العدوان على بير زيت، مشابهاً لما حدث في بيرزيت نفسها، أو يزيد قليلاً، قليلاً جداً، وهذا واقع يفضي إلى الاستنتاج السابق نفسه.

في كل حال، وبالعودة إلى محاولة الإجابة على السؤال، فقد تلقيت اتصالاً هاتفياً من أحد الأصدقاء القدامى، في مدينة رام الله، ومع تبادل الأسئلة عن الحال، وأخبار الأهل، لاحظت ضيقاً واضحاً في نبرات صوته، ثم دار بيننا الحوار الآتي:

- ما بك؟

- لا شيء.

- من الواضح أنك متضايق.

- تلقيت استدعاء من المخابرات.

- ماذا يريدون منك؟ لعلهم يريدون تأكيد وجود السلطة.

- لا شأن للسلطة ومخابراتها، مخابرات الاحتلال هي من استدعاني.

- مخابرات الاحتلال؟ كيف وأنت في مناطق السلطة؟

كان الجواب قهقهة عالية، وفهمت من جديد ما الذي يحدث على أرض الواقع، بعيداً عن الأوهام، ومصيدة الإعلام الذي يكرر عبارات تجعل المرء تائهاً، وغير قادر على التحديد الدقيق في أحيان كثيرة.

من هنا تبدأ حكاية الشهيد “معتز وشحة”، الأسير المحرر، فالشهيد، عند تحريره من السجن، عاد إلى بيته في مناطق يصطلح على تسميتها بمناطق “السلطة الوطنية الفلسطينية”، والبعض يذهب إلى تسميتها بـ“الدولة”، ولأن فلسطين تسكن كل خلاياه، لم يتوقف عن نشاطه الكفاحي بل تابع مسيرته، حتى اللحظة التي وصل فيها تحديه مداه الأقصى وارتقى شهيداً، في بيته، على أرضه، وبرصاص جنود العدو الذين حاصروه لساعات، وهم يطلقون الرصاص والقذائف على رجل واحد.

.. في تلك اللحظات

معتز مثل كل المناضلين في الضفة، يعرف كثيراً عن “التنسيق الأمني”، ولم تخالجه الأوهام بأنه يعيش في دولة مستقلة ذات سيادة، لكنه مثل كل المناضلين أيضاً، لا يستطيع العيش من دون الأمل، ومن دون الاقتناع الأكيد بأن ما يحدث طارئ، وغريب، ولا يمت إلى تقاليد الشعب وتاريخه النضالي الطويل بأي صلة.

وهو اعتقد في تلك اللحظات، أن دمه سيصنع الفرق، فقد يتحمس رجال الشرطة الفلسطينية، ويتخذون قراراً ضد انتهاك الصهاينة لأراض تقع تحت سيطرة السلطة، وينضمون إليه في المواجهة غير المتكافئة، ولكن الشريفة، وربما يتناهى صوت الرصاص الذي يطوق جسده، والصواريخ التي انهمرت على منزله، وهدمت جدرانه، إلى ساكني المقاطعة، فيتخذون قراراً بالمواجهة، مواجهة ما، والاعتراض الصارخ في وجه القتلة، وربما يصل الصوت إلى قاعة مفاوضات ما، فيقرر المفاوض أن ينتفض لدم مناضل يسيل، وينسحب من عتمة المفاوضات السقيمة رفضاً واحتجاجاً، من أجل دم شاب فلسطيني، وليس، كالعادة، من أجل أنه لا يعرف ما الذي يدور في غرف أخرى.

وعندما اشتد الحصار، خطر في باله أن رجالات التنسيق الأمني البغيض، وبعضهم شديد التورط، سيستقيلون، ويرمون عن كاهلهم هذا العار المقيم، وأنهم لن يشاركوا بعد اليوم في التمهيد لسفك دم فلسطيني آخر، أو المشاركة المباشرة في استباحة دمه.

اشتد الحصار أكثر، اخترقت بعض الرصاصات جسداً ما زال يقاوم، امتشق بعض الفتية حجارة الأرض، كان الأمل يقترب كثيراً، يكاد يتحول حقيقة قائمة، فالدم كان فاتحة الانتفاضات، والشهداء كانوا بداية الثورة.

ارتقى “معتز وشحة” شهيداً برصاص المحتلين، لكن لهؤلاء شركاء في دم الشهيد، من يقوم بالتنسيق الأمني مع العدو هو شريك كامل في الجريمة، من انسحب من ساحة المواجهة وهو يحمل صفة الأمن الوطني شريك أيضاً، خصوصاً أن المكان الذي وقع فيه الاعتداء وجريمة الاغتيال يتبع أمنياً للسلطة الفلسطينية، ومن أعطى الأوامر لعناصر الشرطة والأمن بالانسحاب وعدم إطلاق أي رصاصة على جنود الاحتلال، تحت طائلة العقوبة، هو شريك ومدان ولا يختلف في شيء عمن نفذوا العدوان وجريمة الاغتيال، ومن يستمر في تسويق الأوهام، والكذب على شعبنا هو شريك في الجريمة أيضاً.

في اليوم التالي شيع جثمان الشهيد، كان عدد من الشبان يمتشقون حجارتهم من جديد، أما في “المقاطعة” التي تبعد كيلومترات قليلة فقط، فران الصمت كما كان في اليوم السابق، لم تستنكر السلطة الاعتداء، بالمناسبة كان الأمر سيثير الكثير من الأسئلة، إذ كيف يستقيم الاستنكار مع التورط في وحل التنسيق الأمني، ولم تنع السلطة الشهيد، أيضاً لأن الأمر في هذه الحالة، ربما لا يستقيم أيضاً، ومن ديوان السلطة صدرت تعزية لقطر، بضحايا انفجار الغاز، حسناً، هناك ما يمكن القيام به.

لكن لا، لم يتم الاكتفاء بكل ذلك، فوفق ما نقل عن بعض أقارب وأصدقاء الشهيد، قام القيادي المسؤول عن أحد أشكال “التنسيق الأمني” مع العدو الصهيوني، حسين الشيخ، بإقفال هواتفه طوال الفترة التي قاوم فيها معتز وحيداً، حيث حاول البعض الاتصال به للتدخل، ووقف الهجوم الضاري على منزل الشهيد وعائلته.

قيادي “لامع” (أسباب اللمعان لا علاقة لها بما هو معتاد لحيازة هذا الوصف) آخر، وضع تخريجة يعجز عنها جهابذة كثيرون، فقد اعتبر أن “الاحتلال يريد استفزاز القيادة الفلسطينية” وهي بحسب رأيه أذكى (وأكثر حكمة) من أن تستفز، لمجرد عملية قتل أخرى.

وبحسب ما نشر في وسائل إعلامية نقلاً عن مقربين من رئيس السلطة، فإن الأخير لا يريد التحدث في أمر ربما يؤثر بـ“مفاوضات السلام”، ويفسر على أنه تحريض مقصود على انتفاضة ثالثة، في حين التزم الجانب الفلسطيني بالحفاظ على التهدئة، وترجمة هذا قمع أي تحرك نحو الانتفاضة والمقاومة، والانسحاب من مواجهة الجنود الصهاينة، حين يطاردون مناضلاً فلسطينياً.

من قتل معتز وشحة؟

ألا يحق لنا والحالة هذه أن نسأل، وبصوت عال: من قتل معتز وشحة؟ طبعاً العدو الصهيوني هو من أطلق الرصاص والصواريخ على الشهيد، هو القاتل والمحتل، لكن لهذا العدو شركاء شئنا أم أبينا.

في انتفاضة النفق عام 1996، ظهرت في وسائل الإعلام صورة مؤثرة جداً، وتحمل الكثير من الدلالات، في الصورة شرطي فلسطيني يصوب بندقيته نحو الجنود الصهاينة، وخلفه حشد كبير من الشبان، بدوا كأنهم يحتمون به، وأيضاً كأنهم يسندون يده، ويشدون معه على الزناد.

كانت قد مضت سنوات ثلاث على توقيع اتفاق أوسلو، وكانت معروفة كل الالتزامات الأمنية التي جرى التوقيع عليها، ومع ذلك لم يغب الرهان على جنود الأمن الوطني، بأنهم لن يسمحوا باستباحة كرامة شعبهم.

في انتفاضة الأقصى عام 2000 حدث تبدل كبير في المشهد، قدمت الأجهزة الأمنية عدداً كبيراً من الشهداء الذين دافعوا عن مواقعهم، لكن في مواقع أخرى سجلت مشاهد مهينة، فقد خرج البعض مستسلماً بالثياب الداخلية، وتحدث البعض عن أوامر غامضة بعدم المقاومة، وبالتسليم.

أما في السنوات التالية، فقد جرى العمل كثيراً على الوعي، على “صوغ فلسطيني جديد في الأجهزة الأمنية”، جاهز للتنسيق الأمني، وجاهز للانسحاب عندما يبدأ جيش العدو بتنفيذ عمل عسكري، وجاهز لترك شاب يقاوم جيش الاحتلال وحيداً، وجاهز للعودة في اليوم التالي لمباشرة مهامه الأمنية، وفي ذات المكان، من قتل معتز وشحة؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165236

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع نافذ أبو حسنة   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2165236 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010