الجمعة 9 أيار (مايو) 2014

اللغم الديمغرافي في الجسم “الإسرائيلي”

الجمعة 9 أيار (مايو) 2014 par رغيد الصلح

بات من المألوف أن يعبر “الإسرائيليون” عن القلق الوجودي الذي يساورهم كلما طرأت متغيرات كبرى على منطقة الشرق الأوسط . وتكثر هذه التعبيرات عادة عندما ترتفع الأصوات الناقدة للسياسة “الإسرائيلية”، وعندما تشتد المطالبة الدولية بإنهاء الاحتلال في الأراضي المحتلة عام 1967 . ويصل التعبير عن القلق الوجودي “الإسرائيلي” إلى ذروته عندما تقترن المطالبة بإنهاء الاحتلال بالمطالبة بعودة اللاجئين إلى الأراضي الفلسطينية . فرغم أن القرارات الدولية صريحة بهذا الصدد، إلا أن الزعماء “الإسرائيليين” يرفضون رفضاً باتاً تنفيذ هذه القرارات، ويأبون الخوض فيها . وهم يعتبرون أن الإلحاح على عودة اللاجئين الفلسطينيين تساوي القضاء على “إسرائيل” . ولكن حتى لو تمكن الزعماء “الإسرائيليون” من إسقاط الحق في العودة، وهذا مستبعد لأنه لا يمكن لأية قيادة فلسطينية أن تتخلى عن هذا الحق، فإن المعضلة الديمغرافية سوف تظل هاجساً عند “الإسرائيليين” .
إن عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية يبلغ اليوم نحو أربعة ملايين ونصف المليون، بحيث يضاهي عدد اليهود “الإسرائيليين” . إذا أخذنا في الاعتبار أن نسبة الإنجاب بين الفلسطينيين هي أعلى منها بين “الإسرائيليين”، فإن عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية سوف يتجاوز عدد “الإسرائيليين” . هذا ما يدفع “الإسرائيليين” إلى المطالبة بالاعتراف بيهودية الكيان العبري، وذلك تمهيداً للمطالبة بالتبادل السكاني بين العرب و“الإسرائيليين” اليهود اعتقاداً منهم أن هذه العملية سوف تحل المشكلة الديمغرافية . ولكن حتى لو تم ذلك فإنها سوف تعيد إنتاجها عن طريق تحويل الكيان العبري إلى غيتو محكم أكثر انغلاقاً بما هو فيه اليوم .
ولقد تصور “الإسرائيليون” أن الزمن كفيل بحل هذه المشكلة بعد أن احتلوا الضفة والقطاع، لذلك آثروا التمسك بالوضع الراهن، وامتنعوا عن ضم الضفة والقطاع . ولكن هذا الموقف، أي بقاء الاحتلال على حاله وحرمان الفلسطينيين من الحقوق السياسية، سواء في دولة فلسطينية مستقلة، أو في دولة مزدوجة الهوية لا يقدم أي حل للمعضلة الديمغرافية، فلا يمكن في الأعراف الدولية استمرار الاحتلال إلى ما لا نهاية، خاصة إذا ما عارض مواطنو الأراضي المحتلة استمرار الاحتلال . لذلك وتخلصاً من هذا الوضع الشائك، دعا “إسرائيليون”، بالحاح أحياناً، إلى الخروج من الضفة والقطاع . وعبر يهوشوفا هاركابي، الذي رأس الاستخبارات “الإسرائيلية” خلال الخمسينات، عن رأي هؤلاء في ندوة عقدت في جامعة أوكسفورد خلال الثمانينات حينما قال: “أنا صهيوني، وأنا كصهيوني ماكيافيلي، أدرك أن الفلسطينيين سوف يستمرون يحبون بعضهم وينجبون الأولاد الكثر، إزاء هذه المعضلة فليس لدينا إلا مغادرة الضفة والقطاع” .
لقد فتح الرفض “الإسرائيلي” للانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة الباب أمام أسئلة كثيرة تتناول مشروعية “إسرائيل” والمشروع الصهيوني . فمن السهل الربط بين الرفض المطلق لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم اليوم، وبين الروايات التاريخية حول تقييم آباء الحركة الصهيونية لفرص نجاح في ظروف ديمغرافية غير مناسبة، أما خلال المرحلة التكوينية للحركة الصهيونية فكان الأمر مختلفاً . من الصعب أن يكون غائباً عن القيادات الصهيونية في تلك المرحلة أن الفلسطينيين كانوا مجرد 700 ألف فلاح لا قيمة لهم، كما قال وزير الخارجية البريطاني بلفور في رده على الانتقادات التي وجهت إليه بسبب الوعد الذي قدمه للصهاينة .
كان الفلسطينيون ينشطون مع بقية العرب في المطالبة بالاستقلال الوطني وبتمثيلهم في المجالس المتنخبة . وبعد سنوات قليلة من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، أسهم الفلسطينيون بنشاط في انتخابات “مجلس المبعوثان”، ولعبوا دوراً مهماً في تشكيل تكتل نيابي داخل المجلس طالب بحقوق الفلسطنيين، كما أسهموا مع غيرهم من الزعماء العرب والأتراك في تأسيس حزب الحرية والائتلاف الذي أيد الحقوق العربية، واشتركوا في المؤتمر السوري العام الذي بايع الأمير فيصل الهاشمي ملكاً على الدولة السورية . إن هذه المعطيات تدل على أن إقامة كيان عبري كانت ستصطدم، من دون شك، بالمعضلة الديمغرافية، لذلك دأبت الحركة الصهيونية على معارضة تأسيس مجلس تمثيلي في فلسطين بانتظار اليوم الذي يتم فيه التغلب على هذه المعضلة .
كان التهجير القسري هو الحل الذي اعتمدته المنظمات الصهيونية العسكرية لحل المعضلة الديمغرافية في نهاية الأربعينات . ويمكننا الآن أن نفهم بوضوح أكبر الرواية التاريخية القيمة التي وضعها المؤرخ إيلان بابيه حول هذا الموضوع عندما قال إنه في اطار تنفيذ المشروع الصهيوني قامت تلك المنظمات بإعداد خطط تفصيلية لإجبار أكبر عدد من الفلسطينيين بقوة السلاح والإرهاب على الهجرة من فلسطين . ويضيف بابيه إلى ذلك قوله إن القسم الأكبر من هذه الخطط كان من عمل الهاغاناه التابعة لحزب العمل “الإسرائيلي”، وليس من المنظمات العسكرية الصغيرة مثل الايرغون وشتيرن .
وقبل ذلك وخلال مراحل تطور الحركة الصهيونية كانت هذه الحركة تقتفي آثار الحركات العنصرية الفكرية والسياسية . كانت تستلهم الداروينية الاجتماعية، حيث تعداد الشعوب لم يكن مهماً، بل قوتها واستعدادها الحربي والعدواني . وكانت تعتبر أن التفوق العنصري سوف يمكنها من التغلب على الكثرة العددية العربية . لقد تمكن الأفريكانرز في جنوب إفريقيا، بفضل تفوقهم التسليحي، من التغلب على السكان الأصليين ومن استعبادهم . تم للأولين ذلك رغم أن نسبتهم تراوحت بين 5% و10% بالمقارنة مع الأخيرين . وتمكن الأوروبيون الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة من إبادة الهنود الحمر مع أن الأخيرين كانوا هي أكثرية بادئ الأمر . وتمكن الأوروبيون من السيطرة على شبه القارة الهندية وعلى أرجاء واسعة من القارة الآسيوية عن طريق قلة من المستوطنين والمستعمرين والجنود . كل هذه التجارب كانت تغذي مخيلة الصهاينة وأطماعهم في فلسطين وتزودهم بالدروس الخاطئة حول مستقبل المشروع الصهيوني، وتحجب عنهم خطورة التحديات الديمغرافية الآتية على الطريق، وتزودهم بانطباعات خاطئة عن إمكانية ايجاد حل “عنصري” لمعضلة الديمغرافيا . ولكن هذا الحل لن يقدم، ولسوف تبقى هذه المعضلة كلغم كبير في الجسم “الإسرائيلي” إلى أن تتحقق الأماني الوطنية الفلسطينية .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2165440

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165440 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010