الخميس 22 أيار (مايو) 2014

فلسطينيو سيناء بين النكبة والنكسة وكامب ديفيد

بقلم:إسماعيل الإسكندراني *
الخميس 22 أيار (مايو) 2014

لم تخطط العصابات الصهيونية لإبادة الشعب الفلسطيني جماعياً، بل كان يكفيها لإقامة استيطانها الإحلالي إزاحة السكان شمالاً إلى الشام، وشرقاً إلى الأردن، وجنوباً إلى غزة ومصر، وغرباً إلى البحر. وقعت النكبة قبل 66 عاماً، وزحفت جموع المهجّرين، كلٌ في اتجاه الناحية المفتوحة من «حدوة الحصان» الصهيونية المسلحة. فتح الصهاينة المجال لأهالي يافا واللد والرملة وعسقلان صوب الجنوب والغرب، فانتعل الرجال رمال الصحراء، وامتطت النساء صهوات الحمير والبغال، وأبحرت قوارب الصيد البدائية من يافا وعسقلان بعائلات الصيادين.
استقر مقام بعضهم في غزة، التي كانت تابعة للإدارة المصرية حتى 1967، واستأنف أغلبهم إلى سيناء، وتراوحت مراسي القوارب بين العريش وبورسعيد، بحسب القدرة على الإبحار والاحتياج إلى مرفأ مجهزٍ خلا منه الساحل في شمال سيناء. وضع اللاجئون رحالهم مجهَدين بين رفح والعريش، ولم يقوَ على استكمال الرحلة إلى وادي النيل إلا من أوتي قوة ومالاً.
وقف فلسطينيو سيناء الأوائل على المشارف الغربية لمدينة العريش مودّعين من لم يتحمل أحوالها المتدهورة مقارنة بأحوالهم المزدهرة في وطنهم المغتصب. كان وداعهم لأهليهم وجيرانهم المغادرين وداعَ من لا يعرف متى يكون اللقاء. استغرقت الرحلة من العريش إلى القنطرة أسبوعاً إلى عشرة أيام، ثم عبر اللاجئون قناة السويس، واختاروا بين ريف محافظة الشرقية وحضر القاهرة والإسكندرية. كان وداعاً بين لاجئ اختار موطناً بديلاً قريباً وأخيه الذي بَعُد خياره، فأمسى كالمهاجر إلى بلد آخر.
أما الدفعة الثانية من اللاجئين فتزامنت مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، عقب قرار جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. انسحب الصهاينة سريعاً من سيناء، وعاش فلسطينيو سيناء عقداً ذهبياً، تمتعوا فيه بمساواة كاملة مع المواطنين المصريين، بل زادوا عنهم وعن اللاجئين الفلسطينيين في وادي النيل بمعسكرات تدريب للشباب على القتال والرماية. وقعت هزيمة 1967، واجتهد الحكم الناصري من أجل ابتكار كلمة بديلة لتحفيز معنويات الجماهير، فكان الجناس الناقص بين «نكبة» أيار/مايو و«نكسة» حزيران/يونيو. فهل كان ما بينهما حلماً لم يستغرق سوى شهر، أو أقل، في غفلة من الزمن عما سيحدث لاحقاً لفلسطينيي سيناء؟

أواصر مستعصية على التفكيك

وصل جيش الاحتلال إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، على مسافة 200 كيلومتر من العريش، وسيطر عليها قبل أن يتمكن من دخول المدينة المستبسلة بمقاومة سكانها المصريين والفلسطينيين. وبدأ عهد جديد من امتزاج الفلسطينيين والمصريين في سيناء. أتى احتلال سيناء بالدفعة الثالثة والأكبر من اللاجئين الفلسطينيين إليها. وأمعن جيش الصهاينة في إجرامه، إلا أن عهد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء لم يخلُ من ميزة وحيدة، فقد فتحت الحدود على مصراعيها، وشد العرايشية وبدو سيناء واللاجئون الفلسطينيون رحالهم إلى المسجد الأقصى للصلاة، وإلى المدن الفلسطينية المحتلة لصلة الأرحام وكسب الرزق، دون إقامة. في زيارة خاطفة، وقف أحدهم على شاطئ عسقلان ناظراً إلى بيته المسلوب بشوْقٍ وحسرة. أطلت المغتصِبة من الشرفة، ودار بينهما حوار مقتضب لا يزال الأحفاد يتناقلون كلماته على مآدب «المفتول» و«المقلوبة» في نواحي العريش. «ماذا تريد؟ ـ أنظر إلى بيتي ـ كان بيتك». انتهى.
أما قبَلياً، فقد كان تاريخ الحروب بين قبيلتي السواركة والترابين على جانبي الحدود الدولية الوهمية حاضراً منذ القرن التاسع عشر. ولم تنس العائلات الإقلاعية حِلْفها القديم مع الترابين، ولا سبب تسميتها «الإقلاعية»: لنزوح أجدادهم من وادي النيل بعد مذبحة القلعة التي دبّرها محمد علي للمماليك، أو لتحصّنهم في إحدى قلاع خان يونس القديمة في حربهم مع حلفائهم ضد السواركة. ولم تكن حروب الترابين والعزازمة والتياها والقديرات في معزل عن ذلك، فلم تعرف قبائل وسط سيناء فرقاً يميز أبناءها عن أشقائهم وأبناء عمومتهم في النقب وبئر سبع. أما قبيلة اللحيوات الممتدة من الثمد إلى طابا، فيُروى عن معمّريها حيازتهم السابقة لصك ملكية في أم الرشراش (المرشش قديماً)، أو إيلات (أيلة قديماً).
امتد الامتزاج بين الفلسطينيين ومصريي سيناء ليشمل الكفاح المسلح وذاك الاستخباراتي مع الجيش المصري ضد الاحتلال. وكان القوام الرئيسي لهذا النضال «الصوفية الجهادية» في سيناء، التي أسس طريقتها الأم، العلوية الدارقوية الشاذلية، الشيخ عيد أبو جرير بعد أن تلقّاها عن الشيخ أبي أحمد الغزّاوي، الذي ارتحل من غزة إلى سيناء عام 1953. من أتباعها نشط الفدائيون المتطوعون في عمليات عسكرية نوعية ناجحة، مثل حسن خلف أحد أبطال عملية تفجير مطار العريش، وغيره.
أتى النصر الناقص في تشرين الأول/أكتوبر 1973، وتحرك بعض الفلسطينيين ممن يعملون مع الجيش المصري من العريش إلى تل أبيب في الأيام الأولى يستطلعون حقيقة الإمدادات المزعومة، فكاد أن يجن جنونهم من عدم تقدم الجيش المصري ليحسم سيطرته على سيناء وقد انكشفت الخطوط الخلفية للقوات الإسرائيلية. هكذا روى أحدهم، وبغض النظر عن سلامة تقديره للموقف العسكري والاستراتيجي أو امتلاكه الصورة الميدانية الكاملة، فإنها كانت انقباضة الصدر التي أنبأت بما لم يخطر من قبل على قلب فلسطيني لجأ إلى سيناء.

من نكبة «كامب ديفيد» إلى أزمات مبارك والعسكر

أعلن أنور السادات استعداده لزيارة «إسرائيل»، وصدق عزمه بزيارة فعلية للكنيست يوم 19 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1977. وتلقّى مرافقه في الرحلة، يوسف السباعي، رداً سريعاً من أبو نضال ومجموعته المنشقة عن منظمة التحرير الفلسطينية.
اغتيل السباعي في قبرص في 18 شباط /فبراير1978، وشهدت جنازته في القاهرة أعنف الهتافات ضد القضية الفلسطينية. تمادى السادات في محاولته إخفاء فضيحة العملية الفاشلة، التي كانت تهدف إلى تحرير الرهائن في مطار لارنكا بعد أن اختطفهم قاتلو السباعي، فتطرف في الإجراءات العدائية ضد قبرص وضد اللاجئين الفلسطينيين في مصر في آنٍ واحد.
حُرم فلسطينيو مصر عموماً من حقوق المساواة التي منحهم إيّاها عبد الناصر منذ عام 1954. وتوالت التشريعات العقابية ضدهم بالتزامن مع تعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية وتأسيس نظام حكم جديد في 1979، فتحولوا قانونياً من موضع المساواة مع المواطنين المصريين إلى «عرب»، ثم إلى «أجانب».
تصل تقديرات الفلسطينيين في سيناء حالياً إلى 25 ألف نسمة، يمثلون أكبر كتلة في تعداد محافظة واحدة مقارنة ببقية ما يقدر بـ85 ألف فلسطيني في عموم مصر. ورغم أنهم أقرب جغرافياً ومعنوياً وعرفاً ولهجةً إلى لهجة الوطن الأم، إلا أن إذلال الحكومة المصرية لهم بالإجراءات القانونية المتعسفة، والتمييز بين عدة فئات من وثائق السفر (أ ب ج د ه)، واشتراط إتمام إجراءات كثيرة في القاهرة على مسافة 450 كيلومتراً، قد دفع كثيراً من شبابهم إلى التساهل في شأن التجنس بالجنسية المصرية عن طريق الزواج، وهو الخط الأحمر الذي لا يمكن أن يتجرأ عليه كبارهم حتى لو صاهروا عائلات مصرية.
قديماً اختلطت دماء التلاميذ الفلسطينيين بدماء أقرانهم المصريين في مذبحة مدرسة بحر البقر، أما الآن فليس لأطفال الفلسطينيين سوى التعليم الخاص المكلف، أو الرشوة من أجل الحصول على حقهم في نسبة محدودة في التعليم الحكومي شبه المجاني. وأما التعليم الجامعي فيعاملون فيه معاملة الأجانب، ويطالَبون بتسديد المصروفات بالجنيه الاسترليني والدولار الأميركي، وإلا فالفصل أو الحرمان من الشهادة الرسمية حتى السداد. لا تأمين صحياً، ولا دعم تموينياً، ولا تصاريح عمل إلا قليلاً، على الرغم من ميلاد ثلاثة أجيال متعاقبة في مصر، حيث يعيشون ظروف المصريين دون فرق في الدخل. أما السفارة الفلسطينية في القاهرة والقنصلية في الإسكندرية فقد كبّروا عليهما أربعة تكبيرات بلا ركوع ولا سجود منذ زمن بعيد.
أمنياً، عاش فلسطينيو سيناء كابوس التوسع في الاشتباه فيهم، واختزال تاريخهم الطويل في صراع سياسي بين نظام مبارك وحكومة حماس، بعد سيطرة الأخيرة على قطاع غزة. قرر نظام مبارك ممثلاً بمدير المخابرات العامة الأسبق، عمر سليمان، أن يفتح المجال لتجارة الأنفاق كمتنفس غير شرعي بديلاً عن اجتياح الحدود الذي تكرر مرتين في 2005 و2007. أحدثت الأنفاق خللاً اجتماعياً هائلاً في المنطقة الحدودية وامتدت آثارها حتى العريش، ونشأت علاقة جديدة تربط فلسطينيي القطاع باللاجئين في سيناء وبالمصريين، وهي علاقة ملتبسة اختلط فيها الربح بالعمولات الفاسدة. لجأ الفاسدون، من الشرطة وأمن الدولة وبعض أجهزة الجيش، إلى إحكام سيطرتهم على التجار/المهربين بتلفيق القضايا الجنائية ضدهم لتحجيم حركتهم خارج المنطقة الحدودية بعد استصدار أحكام غيابية ضدهم، بعضها أحكام عسكرية غير قابلة للاستئناف.

... وبعد الثورة
أضحى الفلسطيني في سيناء في السنوات الأخيرة من عهد مبارك مشتبهاً به، وطالما ارتبك ضباط الشرطة في نقاط التفتيش حين طالعوا وثائق السفر الخاصة باللاجئين. لم يسمعوا عن هذه الوثائق من قبل، ولم يعرفوا معنى لتواجد فلسطيني في سيناء سوى تسلله عبر أنفاق رفح، فكان لقاؤهم بفلسطيني مولود في العريش عام 1949، وله من الأبناء والأحفاد عشرات الفلسطينيين الذين لم يعرفوا لهم بلداً سوى مصر، صدمةً اعتادها فلسطينيو سيناء. ولم تكلف وزارة الداخلية المصرية خاطرها لتعريف عناصرها الذين يخدمون في هذه الناحية من البلاد ـ على الأقل ـ بالأوضاع القانونية المختلفة للسكان. صبر فلسطينيو سيناء خلال الفترة الانتقالية عقب الثورة، واستبشروا بفوز الإخوان في الانتخابات البرلمانية ثم بالرئاسة.
لكن المفاجأة كانت بتنصل إخوان العريش من مناصرة قضايا الفلسطينيين كي لا «يُتّهموا» بذلك، وفق تعبير عبد الرحمن الشوربجي، النائب البرلماني السابق. وحين شنت دولة الاحتلال حربها الأخيرة على غزة، لم يختلف الدور المصري برئاسة محمد مرسي في 2013 عن سابقه في 2009 برئاسة حسني مبارك. وجه القيادي الإخواني خيرت الشاطر لوماً لحركة حماس ينتقد توريطها إخوان مصر في معارك لم يحن وقتها، وكان مدير المخابرات الأسبق، مراد موافي، قد أعلن سابقاً أثناء توليه منصب محافظ شمال سيناء أن الخطر الذي يتهدد الأمن القومي المصري قادم من الأربعة عشر كيلومترا الشمالية (أي حدود مصر مع قطاع غزة)، وليس من المائة وتسعين كيلومترا في الوسط والجنوب (حدود مصر مع الأرض المحتلة). فأين كان الفارق بين النظامين ولو على مستوى الخطاب؟
عقب 3 تموز/يوليو 2013، أمسى الفلسطيني مداناً حتى تثبت براءته. وصار كافياً للمتحدث العسكري أن يحشر كلمة «فلسطيني» ضمن بياناته الإعلامية عن ضبط مطلوبين أو مشتبه بهم لتتشح أكاذيبه المتكررة برداء الإقناع، ويتلقفها الإعلام سعيداً بإنجازات أشبه بإنجاز القوات الخاصة في عملية مطار لارنكا في إرهاصات عهد كامب ديفيد. وعلى أطلال معسكر «الأبطال» الذي تدرب فيه الفلسطينيون بإشراف الجيش المصري على الرماية والقتال قبل احتلال سيناء، أقيمت «الكتيبة 101» التي تشهد الآن سلخانة تعذيب وتلفيق القضايا ضد مئات الأبرياء من سكان شمال سيناء، لا فرق في ذلك بين مصري وفلسطيني!

* باحث في علم الاجتماع السياسي ــ من مصر



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 6 / 2165447

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165447 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010