الأحد 18 تموز (يوليو) 2010

تهمة «معاداة العلمانية»

الأحد 18 تموز (يوليو) 2010 par محمد زاهد جول

كلما تحرَّك رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان باتجاه تعزيز الديمقراطية ودولة القانون المدني في تركيا، اتهم من قبل بعض الأقليات الأيديولوجية والبرلمانية بأنه يلعب بالنار، وبأن رئيس الوزراء وحزب العدالة والتنمية من ورائه يسير بتركيا باتجاه معاداة العلمانية، وكأن تهمة معاداة العلمانية هي بحد ذاتها جريمة، مثلها مثل تهمة معاداة السامية، التي تلوح بها «إسرائيل» والحركة الصهيونية ضد كل من يلومهما على قول أو فعل، فالعلمانيون الأتراك يلوحون دائماً بتهمة معاداة العلمانية، ضد من يخالفهم، دون أن يثبتوا ذلك، فلماذا يجعلون منها تهمة يرهبون بها غالبية الشعب التركي، ويرهبون الغالبية البرلمانية المنتخبة من الشعب التركي، سواء باتهام الحكومة بالتآمر مع الغالبية البرلمانية أو العكس، وهم يعلمون أن حزب العدالة والتنمية ليس حزباً دينياً، وإنما هو حزب سياسي علماني، وأن حكومة رجب طيب أرودغان ليست حكومة دينية، وإنما هي حكومة علمانية، بالمفهوم العلمي الحديث للعلمانية.

هذا يقودنا مراراً للحديث عن ماهية العلمانية التي يريد البعض أن يجعلها لوناً واحداً ضيقاً في الحياة، وتفسيراً واحداً مقيداً في الفلسفة، وموقفاً واحداً متعصباً من الدين، مهما كان نوعه، وصراعاً أبدياً حتمياً ضد المتدينين، مهما تعددت اجتهاداتهم في تفسير العلاقة بين ثنائيات الموضوع مثل : الدين والدنيا، والوحي والعقل، والإيمان والعلم، والكنيسة والدولة، والثنائية الأخيرة هي الصورة الحقيقية التي تكشف حقيقة العلمانية بالمفهوم الأوروبي، الذي تأسست العلمانية على أرضه، وانفجرت بسبب ظروفه التاريخية في تصادم مصالح رجال الدين الكنسي مع مصالح رجال الدنيا الدنيوي.

إن التعريف الغربي العلمي للعلمانية هي الفصل بين الكنيسة والدولة، والتي وصفها المفكر العربي الكبير المرحوم عبد الوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية، في مقابل العلمانية الشاملة التي تجعل العلمانية هي فصل الدين عن الحياة، أي منع الإشراف الديني على كل مناحي الحياة العامة، وهذا تطرف حصدت كل المجتمعات الغربية المتمسكة به آلامه ومآسيه وأضراره، بينما العلمانية الجزئية هي فصل بين الكنيسة بصفتها مؤسسة راعية لمواطنيها عن مؤسسات الدولة الراعية لشؤون المواطنين.

ولو تناوبت السلطة الكنسية الروحية والسلطة الدنيوية الزمنية السلطة العامة في أوروبا في العصور الوسطى دون نزاع ولا صراع ولا حروب أهلية ولا هدر لعقول الشعب ولا هدر لاقتصاد البلاد، لما تم الفصل بين الكنيسة والدولة، فكان الفصل بين الكنيسة والدولة حسماً لحالة الضعف والتخلف، الناتج عن الصراع بين الكنيسة والدولة، وبتعبير أصح التنافس والصراع بين رجال الكنيسة ورجال الدولة على مصالحهما الخاصة، فكان الحل هو تقاسم الرعاية بين المؤسستين الزمنية والروحية، بأن تأخذ المؤسسة الروحية الكنسية الرعاية الدينية الفردية، وداخل الكنيسة وتوابعها فقط، وتأخذ المؤسسة الزمنية الدنيوية، الرعاية الدنيوية دون أن تتدخل في شؤون الكنيسة ورعايتها، وبحيث تأخذ الكنيسة الرعاية الدينية لمن ينشدها من الأفراد ودون إكراه، ودون أن تتدخل في الشؤون العامة، بينما لا تمارس مؤسسات الدولة دور المؤسسات الدينية ولا مكانة الكنيسة، فأصبح مفهوم المواطن يقابل مفهوم المؤمن، فالمواطن ينتمي إلى الدولة السياسية، بينما المؤمن ينتمي إلى الكنيسة الروحية التي ينتمي إليها، ولو وجد الفرد المؤمن الذي يذهب إلى الكنيسة باختياره وإرادته وانضم إلى أي حزب سياسي فلا يمنع من أحد ولا من قانون، ولو ذهب أفراد الحكومات والأحزاب السياسية إلى الصلاة في الكنائس فلا أحد يمنعهم، بل إن الكنيسة تساند رعاياها من خارج النظام الإكليركي لتولي المناصب الأكاديمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية العليا.

وهذا الأمر له واقع عملي في كل دول العالم العلمانية، وفي مقدمتها الدول الكبرى، فالرؤساء الأميركيون وبالأخص الجمهوريين منهم يعبرون عن مواقف متدينة في الخطابات العامة، بل ويدعون إليها ويدافعون عنها، بل لا يتورعون عن وصف حروبهم ضد الآخرين بأنها حروب دينية، وكذلك العديد من رؤساء الجمهوريات والحكومات الأوروبية، بل من الأحزاب السياسية الكبرى في أوروبا من تجمع بين العمل السياسي والوصف الديني لنفسها، دون أن يعتبر ذلك تهديداً للعلمانية في معقلها الأول، ولا معاداة للعلمانية في تلك البلاد.

فلماذا تصر بعض القوى السياسية في البلاد الإسلامية على اعتبار كل مشاركة لمسلم متمسك بالقيم النبيلة لدينه، أو مؤدياً للشعائر الدينية في حياته الخاصة على أنه غير علماني، وأن وجوده في الحياة السياسية تهديد للعلمانية، وأن توليه للمناصب العليا في الدولة هو معاداة للعلمانية يجب إحباطه، هذا إسراف في معاداة المتدينين، وليس حماية للعلمانية، فالعلمانية العلمية لا تقوم على فصل الدين عن الحياة وإنما على فصل الكنيسة أو المؤسسة الدينية عن الدولة، ولا يوجد قانون يفصل السياسي المتدين عن القيام بواجباته نحو وطنه، ولا يوجد مادة دستورية في الدول العلمانية تمنع الترشح وتولي المناصب العامة على أي مواطن متدين، فالكفاءة العلمية هي الأصل، بل لعل المواطنين المتدينين في حياتهم الفردية والخاصة هم أقدر المواطنين وأكثرهم أمانة في تولي المناصب العامة، سواء كانت مناصب عليا أو دنيا طالما تمتعوا بالكفاءة والحرص والأمانة والإخلاص.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2165607

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

33 من الزوار الآن

2165607 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010