الاثنين 19 تموز (يوليو) 2010

الجنرال أوباما

الاثنين 19 تموز (يوليو) 2010 par د. عبد الحليم قنديل

قبل أكثر من عامين، وتحديداً في السابع من تموز/يوليو 2008، كتبت مقالاً بعنوان (توكلنا عليك يا أوباما)، كان العنوان الساخر يوحي بالمضمون، وهو عبث تفكير عرب اللحظة الذين وضعوا أحمالهم على كتف أوباما المرشح الأسمر للرئاسة الأمريكية وقتها، ورددوا أوهاماً وضلالات عن أثر إيجابي لأصوله المسلمة، وتوقعوا الخير على يديه في حل القضية الفلسطينية بالذات.

وقد ثبت ـ بعد أكثر من العامين ـ ما لم يكن في حاجة إلى إثبات إضافي، وهو أن الحدأة لا ترمي الكتاكيت، وأن أمريكا ليست جمعية خيرية، وأن ما بين أمريكا و«إسرائيل» حالة اندماج استراتيجي، وأن تغير اسم ساكن البيت الأبيض لا يفرق كثيراً في هذا الموضوع، وأن أوباما بعد أن صار رئيساً، اختلف عن سلفه جورج بوش في أشياء كثيرة، لكنه ـ على جبهة الصراع العربي «الإسرائيلي» ـ مجرد نسخة ملونة من عجرفة بوش الأبيض.

وقد تفاءل كثيرون ـ لم نكن منهم ـ بطلاقة لسان الرئيس أوباما، وبميله البلاغي المبهر أحياناً، وبخطابيه الشهيرين في البرلمان التركي وجامعة القاهرة، اللذين أوحى فيهما بتفهمه لمظلومية الفلسطينيين، ورغبته في علاقة صداقة مع شعوب العالم الإسلامي، بينما لم يكن ذلك كله سوى حملة علاقات عامة، أرادت منها المؤسسة الأمريكية الحاكمة استثمار مزايا أوباما الشخصية، واستخدامه كسلعة إعلامية، وكسب القلوب والعواطف، وتحسين صورة واشنطن في استطلاعات الرأي التي تجري سنوياً على الطريقة الأمريكية.

ويبدو أن أوباما نفسه بدا مغرماً بالدور، أي بإعارة كلامه لنا واستبقاء فعله لـ «إسرائيل»، ودخل في منازعات ظاهرة مع حكومة نتنياهو «الإسرائيلية»، وتحدث كثيراً عن ضرورة وقف أو تجميد الاستيطان اليهودي في القدس والضفة الغربية، وحرص على أن يبدو جافاً في تعامله مع نتنياهو لدى زيارة الأخير للبيت الأبيض قبل شهور، أراد أن يواصل الدور، وأن يوحي بجدية تمثيلية لائقة، ثم صدمته الحقيقة قبل أن تصدم المتفائلين به، وهي أن «إسرائيل» خط أحمر لدى الإدارة الأمريكية، أياً ما كان اسم رئيسها أو لونه، وأن المساس بالعلاقات معها ـ ولو باللفظ ـ من المحرمات المطلقات، ولم يكن أمام أوباما إلا أن يعود أدراجه إلى نقطة الصفر، وأن يتصرف كسلفه بوش، كان بوش يصف شارون بأنه أستاذه، ولم يصف أوباما نتنياهو ـ إلى الآن ـ بأنه الأستاذ، لكنه أبدى لنتنياهو فروض المحبة والطاعة مزادة منقحة، وبالغ في الترحيب برئيس الوزراء «الإسرائيلي» خلال زيارته الأخيرة للبيت الأبيض، وأعطاه خيط المبادرة، وتعهد ببذل جهد الإدارة الأمريكية لإجبار عبّاس على العودة للمفاوضات المباشرة، ومن دون أي شروط على «إسرائيل»، بل ومن دون صياغة هدف ولا زمن للمفاوضات، اللهم إلا حديث أوباما ـ على طريقة سلفه بوش - عن حل الدولتين، هكذا في المطلق، وفي فراغ الزمن الذي لا تنتهي كوابيسه. .. ولا مفاوضاته.

وعقب عودة نتنياهو من زيارته المنتصرة لواشنطن، كانت صحف أمريكية كبرى تتحدث عن هزيمة أوباما أمام نتنياهو، وراحت صحف «إسرائيل» تسخر من أوباما، ومن كلماته الطيبة للعرب والمسلمين التي ذهبت مع الريح، بينما كان أوباما نفسه مشغولا بالتأكيد على صداقته لـ «إسرائيل»، وبالضغط على تركيا لوقف تدهور علاقتها بـ «إسرائيل»، وبالإعلان المزاد المنقح عن التزام أمريكا المطلق بأمن «إسرائيل»، وبالحديث المنافق عن «عظمة إسرائيل»، وعن احتياجاتها الأمنية الخاصة، وضمناً عن «ترسانة قنابلها النووية» التي تتعهد أمريكا بتحصينها من التساؤل في أي مؤتمر دولي يعقد بهذا الخصوص، وبطريقة غير مسبوقة في كلام أي رئيس أمريكي منذ قيام كيان الاغتصاب «الإسرائيلي».

لا ينصرف السبب ـ فقط ـ إلى مجرد ظروف طارئة ضاغطة على الرئيس الأمريكي، أو على مصالح حزبه الديمقراطي، ومن نوع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، وتوقع فوز الجمهوريين بها، ورغبة الرئيس أوباما في كسب مودة اللوبي اليهودي المؤثر في الانتخابات، وإعادة بناء علاقة إيجابية مع أنصار «إسرائيل» تمهد لرغبته في الفوز اللاحق بفترة رئاسية ثانية، وهذه كلها دواع مؤثرة بطبيعة الحال، لكنها لا تكفي لتفسير ما جرى، فلم يتحول أوباما عن موقف بلغة الباطن، ولغة الظاهر وحدها هي التي جرى عليها التحول، فقد أبدى أوباما استياء من تشدد نتنياهو، ثم عاد ليفرط في الثناء عليه، ولم يتخذ أوباما إجراء واحداً جدياً للضغط على نتنياهو، ولم يحذ حذو جورج بوش الأب الذي عاقب اسحاق شامير أوائل التسعينيات من القرن الفائت، وأوقف تسهيلات ائتمانية تقدر بأكثر من عشرة مليارات دولار، كان بوش الأب يريد أن يؤكد على أولوية القرار الأمريكي في العلاقة مع «إسرائيل»، ونجح وقتها في دفع شامير للذهاب إلى مؤتمر مدريد، ثم سقط بوش الأب في أول انتخابات رئاسية لاحقة، وهو المصير الذي لا يريده أوباما، ويسعى جهده لتحسين صورته عند «الاسرائيليين»، والتسليم بأولوية قرار «تل أبيب» في العلاقة مع واشنطن، خاصة أن مصالح أمريكا لا تبدو في خطر، فحكام العالم العربي في جيب جاكت الرئيس الأمريكي، والرئيس الفلسطيني عبّاس عند طرف أصبع أوباما، وأصغر موظف في الخارجية الأمريكية يكفي لنقل الأوامر إلى الجامعة العربية، والنتيجة معروفة سلفاً، فقد تعود حكامنا على أن يؤمروا فيصدعون.

تصور المتفائلون العرب، وهم الموسومون بعبودية الوجدان، أن أوباما أقرب لصورة السيد المسيح، بينما غابت عنهم الحقيقة الناطقة، وهي أن أوباما قد يكون رجلاً أسود بقلب أبيض، لكن المؤسسة الأمريكية البيضاء قلبها أسود تجاهنا بالذات، وقد تحولت المؤسسة بأوباما من صورة المسيح إلى صورة الجنرال، ثم أورثته جينات احتقار الضعفاء واحترام الأقوياء، فالسياسة الأمريكية لا تقف مع الحق لأنه حق، ولا تقف ضد الباطل لأنه كذلك، والقوة عندها هي الحق المطلق، وهي لا تتراجع عن خطأ إلا تحت ضغط العنف الدموي، وقد انتهى جورج بوش إلى قرار الانسحاب من العراق تحت ضغط ضربات المقاومة، ومشى أوباما خلفه، وراح يجرب حظه بحثاً عن نصر ضائع في أفغانستان، ضاعف القوات، وأشعل حرباً يخسرها الآن، وتعجل بقرار الخروج من أفغانستان، بينما لا شيء يقلقه الآن على جبهة الصراع العربي «الإسرائيلي»، و«إسرائيل» تسعى لتجريب الحظ الحربي مع «حماس» و«حزب الله» وسورية وايران، وتعد أوباما بالنصر الذي يعوض الهزائم الثقيلة في العراق وأفغانستان، ربما لذلك كانت قضية إيران ـ لا قضية فلسطين ـ هي البند الأول في مباحثات أوباما مع نتنياهو، وليس سراً أن تنسيقاً عسكرياً متصلاً يجري الآن بين واشنطن و«تل أبيب»، وأن تفاصيل التفاصيل في خطط الحرب يجري بحثها، وأن الخلاف فقط ـ إلى الآن - على ساعة الصفر، فـ «إسرائيل» تتعجل، وواشنطن تبدي ميلاً إلى التمهل، ولا تريد «إسرائيل» أن تذهب وحدها إلى الحرب، فهي لا تثق بالنصر، ونتائج حروبها الأخيرة في لبنان 2006 وفي غزة 2009 ـ لا تبشر بنصر أكيد، وهي تريد دعم أمريكا العلني، وربما مشاركتها المباشرة بالسلاح، ويبدو أوباما متردداً، لكن المؤسسة الأمريكية ـ على ما يبدو ـ حسمت قرارها، ووافقت على خطة تمويه تحمل عنوان «العودة للمفاوضات» تخفياً بنية الشروع في الحرب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 48 / 2180641

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2180641 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40