الخميس 12 حزيران (يونيو) 2014

الحلف الأطلسي عند مفترق طرق

الخميس 12 حزيران (يونيو) 2014 par جميل مطر

كان أسبوعاً دولياً حافلاً بالإثارة والمفاجآت، ففي هذا الأسبوع انكشفت حقائق عدة تتعلق بالأوضاع في أوروبا وتطبيقات الأفكار الجديدة في السياسة الخارجية الأمريكية . وقعت في هذا الأسبوع زيارة الرئيس باراك أوباما لبولندا، حين راح يشاركها الاحتفال بمرور 25 عاماً على تحررها من القبضة السوفييتية والنظام الشيوعي . وهو الأسبوع الذي انعقد فيه المؤتمر السنوي لمجموعة الدول الصناعية الكبرى وكان مقرراً انعقاده في سوشي الروسية . أسبوع شهد أيضاً احتفال حلفاء الحرب العالمية الثانية بالذكرى السبعين لمعركة نورماندي في غرب فرنسا، وهو الاحتفال الذي ما كان يمكن أن يغيب عنه الرئيس فلاديمير بوتين على عكس مؤتمر الدول الصناعية الذي لم يدع إليه أصلاً عقاباً له . انكشاف حقائق، لا يعني أنها لم تكن موجودة، إنما يعنى أن حدثاً وقع دفعها جميعاً وفى وقت واحد لتطفو على السطح، ولم يعد ممكناً إخفاؤها عن الرأي العام العالمي، أو التقليل من أهميتها . أما الحدث فكان الأزمة الأوكرانية في أبعادها المتنوعة .
كان من أولى المفارقات التي أحاطت بكافة التحركات الدولية خلال الأيام الماضية هي اقتناع أغلب الأطراف بأن الأزمة الأوكرانية ليست بالأهمية أو الخطورة التي تمثلت فيها أمام الرأي العام الغربي . تولد هذا الاقتناع أو تعمق في الوقت الذي كانت أزمة أوكرانيا تقوم بدور “المفجر” لانكشاف حقائق كثيرة وفهم جديد لواقع يختلف عن الواقع الذي بنيت عليه تصورات وسيناريوهات متعددة .
بعض هذه الحقائق التي كشفت عنها تطورات أزمة أوكرانيا وفرضتها على موائد الاجتماعات واللقاءات أوجزها في السطور الآتية .
* أولاً: لا تريد أوروبا الغربية، وبخاصة ألمانيا وفرنسا، العودة إلى أجواء الحرب الباردة . كان واضحاً منذ بداية الأزمة الأوكرانية أن أكثر دول أوروبا الغربية تفضل التهدئة بالدبلوماسية عن التصعيد عسكرياً أو اللجوء للعقوبات والحصار الاقتصادي . ازداد هذا الخيار وضوحاً عندما تصاعد ضغط قطاعات في الرأي العام في الولايات المتحدة، وبخاصة من جانب القوى المحافظة في الإعلام الأمريكي، على الرئيس أوباما . اضطر أوباما تحت هذه الضغوط إلى مطالبة أوروبا الغربية مرة أخرى تصعيد العقوبات، الأمر الذي لم تتحمس له الدول الكبرى في أوروبا حرصا على مصالحها الاقتصادية وخوفاً على علاقاتها التجارية مع روسيا .
* ثانياً: في الوقت نفسه كانت دول أوروبا الشرقية تضغط في اتجاه يكاد يكون معاكساً تماماً لاتجاه دول أوروبا الغربية . ففي بولندا ألقى الرئيس أوباما خطاباً من ميدان “القلعة الملكية” في حضور كبار القادة من عدة دول شرق ووسط أوروبية، مثل بلغاريا وكرواتيا وتشيكيا واستونيا والمجر ولاتفيا ولتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا، جاؤوا جميعاً ليبلغوا أوباما رسالة لا تحتمل الشك أو اللبس: هذه الدول التي انضمت إلى حلف الناتو خلال السبعة عشر عاما الأخيرة لم تشعر حتى الآن أنها تتعامل معاملة الدول الأوروبية صاحبة العضوية الأصلية في الحلف .
اتضح لها أن هناك دولاً “صف أول” ودولاً “صف ثان”، ولذلك فحين أعلن أوباما في خطابه عن قراره تخصيص مبلغ مليار دولار لدعم دفاعات الحلف في دول شرق أوروبا، خرج مسؤول من شرق أوروبا ليقول إن أوباما “يتركنا أشد جوعاً” . قال آخر تعليقاً على خطابه “استمعنا إلى كلام . . كلام . . ووعود . . واعتمادات إضافية” .
قال ثالث، “لم يستجب أحد لمطالبنا، وبخاصة مطلب إقامة قواعد عسكرية ثابتة لحلف الأطلسي، وحبذا لو كانت أمريكية، على أراضينا” . “لماذا لا ينقل الحلف قواعده من البرتغال وإسبانيا وإنجلترا إلى بولندا ودول أخرى في شرق أوروبا” . كما نقل عن مسؤول آخر من شرق أوروبا قوله “كنا ننتظر في الخطاب الإعلان عن رفع حالة الاستعداد العسكري ونقل قوات بأعداد كبيرة . كان خطابا للتعمية . وربما لدى أوباما عذره فأمريكا دولة مرهقة بعد حربين طويلتين في العراق وأفغانستان” .
هناك، في بولندا، انكشفت حقيقة أن أوروبا في عصر السلم الأوروبي لا تزال منقسمة كما كانت في عصر الحرب الباردة . الدول التي كانت تخضع للاحتلال السوفييتي أو الحكم الشيوعي وكانت تثور وتتمرد بين الحين والآخر في انتظار أن يأتيها الدعم من دول حلف الأطلسي، هي نفسها الدول التي وقف ممثلوها في حضرة الرئيس الأمريكي أوباما يكررون مطالبهم بإقامة قواعد للحلف ثابتة على أراضيهم، وبتصعيد أشد في المواجهة مع روسيا . بمعنى آخر عادت أجواء الحرب الباردة تخيم على القارة . هذه الأجواء هي التي جعلت أوباما يبدو أشد تصميماً على رفض الفكرة الذائعة في شرق أوروبا عن أن الحالة الأوكرانية “حالة حرب باردة”، وعلى تأكيد خط الاعتدال في التصريحات وترك كافة أبواب التحرك مفتوحة، إذ لا يخفى أن الاعتراف الغربي بأن أوكرانيا “حالة حرب باردة” يضع على أمريكا ودول حلف الأطلسي التزامات لم يعد الحلف مهيأ لها استراتيجياً أو حتى تكتيكياً ونفسياً .
* ثالثاً: على عكس توقعات، أو طموحات، بعض نخب الحكم في أوروبا الوسطى والشرقية، وربما أيضاً بعض زعماء الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة وقيادات بريطانية، لم تفلح أزمة أوكرانيا في إثناء الرئيس أوباما عن الاستمرار على طريق التحول نحو آسيا كتوجه استراتيجي للسياسية الخارجية الأمريكية في المستقبل . كان أمل هذه الجهات أن أوباما، تحت ضغط الإعلام بسبب أحداث أوكرانيا وأمام التحدي الذي صارت موسكو تجسده لدول الإقليم المجاور لها، سيكتشف الحاجة إلى العودة إلى التمركز في أوروبا .
الواقع أن أوباما لم تصدر عنه أي إشارة إلى أنه قد يغير فكرته عن آسيا واستراتيجيته تجاه الصين وشرق آسيا، بل لعله تعمد أن يطالب دول أوروبا الغربية وحلف الأطلسي بزيادة إنفاقها الدفاعي فيما بينها، وتحميلها بوضوح المسؤولية عن أمن القارة، بدعم من أمريكا . أظنه كاد يعلن أن أمريكا لن تعود إلى أوروبا لتواجه روسيا، بينما بقية دول القارة تنمو وتنتعش وتنهض ثقافياً وحضارياً، وبينما البنية التحتية الأمريكية تتدهور تحت ضغط الإنفاق العسكري الأمريكي، وبينما آسيا تستعد لمستقبل لا تخفي الصين نيتها الهيمنة عليه وبخاصة على أقاليم جنوب وشرقي القارة . كانت الزيارة الأخيرة لأوروبا فرصة للرئيس الأمريكي ليكرر على مسامع البريطانيين أن أمريكا لا ترحب بنوايا بريطانيا الانسحاب من بعض فعاليات الاتحاد الأوروبي، ولم يتردد رغم حساسية الموقف أن يرفض باسم أمريكا نية شعب اسكتلندا الانفصال عن المملكة المتحدة .
في الحالتين، أراد أن يؤكد أن بريطانيا قوة لأوروبا، وأوروبا الموحدة عنصر أمن وسلام لشعوب القارة .
* رابعاً: لن تكون أوكرانيا التدخل الأخير لروسيا في دول الجوار، وفي دول أبعد من الجوار . تدخلت في جورجيا وجاء رد فعل دول أوروبا هزيلاً وخرجت من جورجيا بعد أن حققت هدفها من التدخل العسكري . المؤشرات أمامنا تشير في أغلبها إلى أن موسكو توصلت من خلال الأزمة في أوكرانيا إلى معظم ما تريد، أثبتت لدول شرق أوروبا أن انضمامها لحلف الأطلسي كان قراراً متسرعاً ولم يراع جيواستراتيجية الحال الراهنة في أوروبا، وأكدت لقيادة الحلف أنها من دون مشاركة الولايات المتحدة ووجودها على الأرض لن يتمكن الحلف من التأثير في السياسة الخارجية لروسيا . تكاد موسكو اليوم تعلن لجاراتها في شرق أوروبا عن ثقتها في أن الولايات المتحدة خلال الأجل المنظور لن تتدخل عسكرياً بكثافة في أي إقليم خارج الأمريكيتين .
بمعنى آخر، مسموح عملياً لروسيا أن تتدخل خارج حدودها بحيث لا تمس الخطوط الحمراء التي تهدد المصالح الحيوية الأمريكية وتوازن القوة الدولية . وفى الوقت نفسه، يبقى مطروحاً بشكل لا يقبل الشك أو التسويف أن واشنطن لن تتدخل، كالعهد بها في عقود ماضية، في كل أزمة أو مشكلة في أي دولة وفي كل القارات .
انقضى زمن حين كان العالم يبدو في صورة لوحة خشبية مثبت عليها عشرات المسامير تمثل مختلف الأزمات والمشكلات الإقليمية والثنائية، وفي أحد جوانب الصورة، التي أبدع في نقلها الرئيس أوباما في خطابه في حفل تخريج فوج جديد في كلية “وست بوينت”، مطرقة تمثل الولايات المتحدة جاهزة دائما ومن دون مساعدة من مطارق أخرى لدق المسامير جميعها وكل مسمار جديد يرفع رأسه .
أعتقد أن أوباما يرتب الآن لمرحلة تعتمد فيها الولايات المتحدة على مطارق أخرى لتتعامل مع الأزمات والنزاعات الإقليمية . الهدف هو أن تقل الحاجة إلى استدعاء القوة العسكرية الأمريكية من دون أن يخل هذا الهدف بالهدف الأعلى، وهو حماية مكانة أمريكا وزعامتها الدولية .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2165561

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

31 من الزوار الآن

2165561 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 32


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010