الجمعة 5 نيسان (أبريل) 2019

موضة محققي الكراسي: عن الحدّ الفاصل بين التّنوير والتربّح من أوجاع النّاس

الجمعة 5 نيسان (أبريل) 2019

بالطّبع ليست ظاهرة إشباع جوع وحش الفضول بمتابعة تفاصيل الجرائم الحقيقّة أمراً مستحدثاً، أقلّه في الثقافة الغربيّة. إذ ظهرت في بريطانيا ومنذ منتصف القرن السادس عشر كراريس مطبوعة زهيدة الثمن تنقل التفاصيل الملطخة بالدّماء عن الجرائم ويتابعها بشراهة ألوف القرّاء.
وقد استمرت تلك الظاهرة مع تطوّر الصحافة ولاحقاً تعدد القنوات الإعلاميّة من كتب وصحف وتلفزيونات ومدونات صوتيّة (بودكاستس) وأفلام وثائقيّة، لكنها أخذت مؤخراً بفضل انتشار منصات المتابعة على الإنترنت – وسعي المنتجين المحموم لتقديم المزيد من المواد إرضاء عالي الربحيّة لهذا الجوع المتزايد – شكل انفجار معرفيّ تسبب في نشوء طبقة عالميّة من (محققي الكراسي) الذين يتابعون أمثال تلك الجرائم ويحاولون من غرف معيشتهم تقديم نظريات لفك ألغازها المستعصية.
أطلقت “نيتفليكس”، المنصّة العملاقة لعرض الأعمال التلفزيونيّة والسينمائيّة عبر الإنترنت خلال الأشهر القليلة الماضية موجة من السلاسل الوثائقيّة التي تغطّي جرائم حقيقيّة بدلاً من تلك التي يبدعها الخيال في المسلسلات الدراميّة. “نيتفليكس”، التي تعيش صراعا محموما مع الزّمن لتقديم مواد جديدة مشوقة لمشتركيها تفاجأت أكثر من غيرها بهذا الإقبال المنقطع النظير على متابعة تلك الّرحلات المفصّلة في قضايا جرميّة (باردة) أو صدرت فيها الأحكام، لكنها بقيت مفعمة بجدل كثير، وهو ما انعكس على تجدد المناقشات والمشادات أحياناً بين أطراف عدّة معنيّة بتلك القضايا مباشرة أو حتى بين جمهور عريض بالملايين لم يجد معظمهم وقتاً في السابق لمتابعة حيثيّات تلك القضايا عندما كانت تتطور على الشاشات وأوراق الصحف.

“إختفاء مادلين ماكّان”: البحث مستمر
على حساب دافعي الضرائب

كانت الفتاة البريطانيّة مادلين ماكّان، التي لم تبلغ الرابعة من عمرها بعد تنام في غرفتها مع إخوتها، بينما ذهب والداها لتناول العشاء مع أصدقائهم في مطعم مجاور ضمن منتجع سياحيّ ضخم في البرتغال، حيث كانوا يقضون الصيّف، لتختفي بعدها دون أثر.
ولأن الأسرة من العائلات الثريّة ولها علاقات متشابكة بالنخبة البريطانيّة فإن حادثة الاختفاء احتلت عناوين صحف لندن وبُذلت ضغوط شديدة على السلطات البرتغاليّة لإعادة فتح التحقيق والسماح “لاسكوتلانديارد” بقيادته بعدما توصلت تحقيقات الشرطة المحليّة إلى اتهام الوالدين بالتخلّص من ابنتهم.
وعلى الرّغم من أن تلك الاتهامات عُلّقت لاحقاً، فإن القضيّة ما زالت مفتوحة بعد 12 عاماً وخصصت لها الحكومة ما يزيد عن 11 مليون جنيه من أموال دافعي الضرائب، كما جددت قبل أسابيع قليلة ميزانية التحقيق الخاصّة بها بـ 150 ألفاً اضافيّة.
السلسلة الوثائقيّة (8 حلقات من إخراج كريس سميث) والتي عرضتها “نيتفليكس” بداية الشهر الماضي تعيد رواية تلك القضيّة منذ لحظة اختفاء مادلين وحتى وقتنا الرّاهن، وتجمع عنها في مكان واحد كميّة هائلة من المعلومات، التي لم تكن متوفرة بكليتها لغير المعنيين من رجال الأمن. لكن الملفت كان أن والدي مادلين عبّرا عن انزعاجهما الشديد من إطلاق السلسلة، لا سيّما وأنها لا تضيف جديداً، وأكدا أنهما رفضا المشاركة فيها وهي لا تمثّل وجهة نظرهما، وحذرا من تأثيرات سلبيّة لها على مجريات التحقيق بعدما تلقت العائلة سيلاً من التعليقات المسيئة من غرباء على إثر عرض الحلقات الأولى منه.

الدّعوى ضد عدنان السيّد:
العدالة الأمريكيّة المجهضة

بعد أن أثارت “سيريال” وهي مدوّنة صوتيّة هائلة الشعبيّة في الولايات المتحدّة قضيّة عدنان السيّد، المتهم بقتل صديقته السابقة عام 1999 والذي سجن منذ إصدار الحكم عليه عام 2000 ولا يزال، قررت إيمي بيرغ، من فريق العمل في “سيريال” وصانعة الوثائقيّات المعروفة التعاون مع “آتش بي أو” (منافسة “نيتفليكس” الأهم في الولايات المتحدة) تحويل تلك القضيّة إلى وثائقيّ، رغم معارضة أهل الضحيّة. عند بيرغ فإن كميّة التفكير المنحاز والعنصري، التي تسكن عقول رجال الأمن الموكل إليهم إجراء التحقيقات في الجرائم أكبر من أن يسكت عنها، نظراً لتكرّسها منهج عمل في مفاصل عدّة من أجهزة الأمن الأمريكيّة. وبالفعل فإن ما كشف عنه الوثائقي من هنات في التحقيق الأصليّ قد تدفع السلطات لإعادة التحقيق مع عدنان السيّد من جديد بعد عقدين في السجن.

تصنيع مجرم: بريء ولكن؟

من نتاجات “نيتفليكس” الأخيرة أيضاً في موجة الجرائم الحقيقيّة السلسلة الوثائقيّة “تصنيع مجرم” (في موسمين) ويحكي قصّة الأمريكيّ ستيفن أفيري، الذي كانت برّأته محكمة أمريكيّة من تهمة اغتصاب المصورة الشابة تيريزا هالباخ، لكنّها أدانته بقتلها، وأرسلته للسّجن. السّلسلة تحاول التشكيك بذلك الحكم من خلال الكشف عن نقائص نظام تحقيق العدالة الأمريكيّ، وقد استجلبت منذ طرحها إقبالاً غير عاديّ على موقع نيتفليكس، بينما أدانت أسرة الضحيّة الوثائقيّ بشدة وعبّرت في تصريح رسميّ عن حزنها “لاستمرار الأفراد والشركات الكبرى في إنتاج ترفيه يحقق أرباحاً من خلال عرض خساراتنا المؤلمة”.
يترافق التصاعد المخيف في شعبيّة الوثائقيّات عن الجرائم الحقيقيّة مع تصاعد مواز في حجم المفارقة الأخلاقيّة التي تحملها. فليس الأمر مقتصراً على الجزم ببراءة والديّ مادلين ماكّان، أو فيما إذا كان عدنان السيّد قد قتل صديقته السابقة بالفعل أو هل كان ستيفن أفيري قد سُجن مظلوماً، لكن الأمر يتجاوز ذلك إلى التساؤل عن الحدّ الفاصل بين تقديم قصّة مثيرة للمشاهدين وتحويل الألم بإعادة نبشه من مقابر الذاكرة إلى فيضان حزن عند أهالي الضحايا، إلى مادة للتسلية العموميّة.
المشترك بين هذي الأعمال الأخيرة مثلاً كان رفض العائلات المعنيّة المشاركة الفعليّة فيها، بل وعمدت بعضها إلى الشكوى من تأثيرات سلبيّة على حياتهم الحاليّة وأيضاً من خطر التشويش على مجريات التحقيقات والمحاكمات الجاريّة بشأنها.
لا شكّ من أنّ نقل الأحداث وتنوير الناس بأسباب الجرائم مسألة مهمّة للحياة في المجتمعات المعاصرة، لكنّها في غياب دستور أخلاقيّ محدد يحكم عمل صانعي الوثائقيّات، فإن الأخيرة قد تنتهي على يد الرأسماليّة الجشعة إلى تعدّ تام على خصوصيات أهالي الضحايا وعبث بمشاعرهم أمام ملايين المتابعين المعنيين حصراً بالفرجة، مع العلم بأن دراسات علميّة حديثة أثبتت بأن أكثر من ثمانين بالمئة من هؤلاء الأهالي يبتلون إلى جانب خسارة أحبابهم بأعراض اضطرابات ما بعد الصدمة وهي حالة يصعب التخلّص منها وتستفز المصاب بها مع إعادته لأجواء فقدانه.
لكن إيمي بيرغ مخرجة الوثائقيّات المتخصصة بالكشف عن العدالة المجهضة – وصانعة وثائقيّ “الدّعوى ضد عدنان السيّد” ترى أن مهمة العمل الوثائقي هي في الاقتراب من الحقيقة والمساعدة في إحقاق العدالة، والكشف عن انحيازات أجهزة الشرطة والقضاء وتنفيذ القانون – الأمريكيّة في هذه الحالة -. وللحقيقة فإنّه بدون الضجّة التي أثارتها الكاميرات والمناقشات العامة فلربما كان من المستحيل إعادة طرح قضيّة السيّد مجدداً أو حتى مجرد التفكير بإعادة فتح التحقيق بعد عقدين من وقوع الجريمة.
أين يقع المتلقي المنصف من كلّ ذلك؟ من حق الجميع أن يشاهد مثل هذه الوثائقيّات، خاصّة إذا أنجزت بتفهم من الأهالي وللكشف عن تقصيرات الأجهزة التنفيذيّة بحق المواطنين، لكن تكوين رأي حاسم بشأن القضيّة المطروحة فيها يجب ألا يكون مقتصراً على وجهة نظر صانع الوثائقيّ وحده، إذ لا عمل إبداعيّ مبرأ من الانحياز بالمطلق، فكيّف ونحن نعيش زمن الحروب الثقافيّة المؤدلجة وظلام الأخبار الكاذبة.
لا تصدقوا كل ما تقرأون، ولا نصف ما ترون.

- ندى حطيط / كاتبة لبنانية بريطانية – لندن



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9304 / 2190001

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2190001 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40