الخميس 18 نيسان (أبريل) 2024

السياسة كثقافة: الكشف عن أسرار عرفات!

الخميس 18 نيسان (أبريل) 2024

- حسام الدين محمد- القدس العربي

مثّل كتاب ياسين الحاج صالح «الثقافة كسياسة: المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان» نقلة مهمة في الفكر السياسي العربي، حيث اشتغل على تحليل العلاقة المعقدة بين المثقفين والسياسة. في نقاشه العديد من الشخصيات الثقافية والفكرية المؤثرة العربية، بيّن الحاج صالح كيف تكشف أشكال تعبير المثقفين الماكرة عن انحيازاتهم في السياسة.
تحاول هذه المقالة القصيرة، أن تحاذي ديناميات الثقافة في السياسة من طريق مخاتل، تظهر فيه، بعض الأمثلة، التي تقوم فيها الثقافة، في لحظات تاريخية معيّنة، باحتلال المسرح السياسي بشكل حاسم، وتصبح الثقافة هي العتلة الرئيسية في صنع الحدث السياسي.
عرضت قناتا Planete+ الفرنسية وORF (هيئة البث النمساوية) وراديو كندا، مؤخرا مسلسلا وثائقيا قصيرا بعنوان Unveiling Arafat وهو ما يمكن ترجمته بتصرف: «الكشف عن أسرار عرفات». منتجة الفيلم، ديان أمبولت ـ هيورات، فرنسية سبق لها إنتاج فيلم «القيامة: حين اجتاح هتلر الشرق» و»حين كانت باريس ألمانية» وكاتباه الفرنسيان أيضا اللذان أخرجاه، فابريس غارديل، أخرج بدوره فيلما عن الحرب العالمية الثانية، وفلوريان أوزان، الذي يقيم في لندن (حسب صفحته على فيسبوك) فلا أعمال له سابقة على ما يبدو (وهو ما يمكن أن يعني أن فكرة الوثائقي له ولقيت طلبا عند المنتجة والمخرج المشغولين بهتلر؟).
هذه المعطيات الآنفة تجعلنا نفهم، ربما، لماذا قرّ هؤلاء على إنتاج وثائقي قصير عن عرفات، كما تجعلنا نفهم أيضا بعض السطحية، التي سيتعامل بها هؤلاء مع السياق التاريخي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكذلك في التعامل مع شخصية عرفات.
يعتبر الوثائقي مثلا أن قرار الأمم المتحدة إنشاء إسرائيل كان «بسبب الهولوكوست» ما يعني أن وجود الدولة العبرية (على أرض فلسطين في القارة الآسيوية) هو نتيجة منطقية لحصول المحرقة الأوروبية لليهود الأوروبيين، قافزا بذلك على هجرة اليهود الكثيفة إلى فلسطين السابقة على المحرقة والمرتبطة بالدعاية الصهيونية، متجاهلا بذلك السياق التاريخي لكون فكرة توطين اليهود في فلسطين هي، منذ نابليون، مرتبطة بالاستعمار الغربي وتفكيك السلطنة العثمانية هذا «الحل» للمسألة اليهودية بالاستعمار الغربي، كما يتجاهل حاجة بريطانيا، خلال الحرب العالمية الأولى، للتحالف مع الحركة الصهيونية، ما أدى لإصدار وزير خارجيتها آرثر بلفور، وعده المشهور الذي ما كان ممكن التطبيق لولا الاحتلال البريطاني لفلسطين.

هل ولد عرفات في القدس؟

يبدأ الوثائقي في «كشف «أسرار عرفات» بنقض معلومة شائعة عن ولادته في القدس في 4 آب/أغسطس 1929 (كما يؤكد مركز المعلومات الفلسطيني) والأغلب أنه ولد فعلا في القاهرة، وانتقل في عمر الرابعة مع أخيه فتحي إلى القدس، حيث استقرا عند خالهما، ثم عادا للقاهرة، حيث أنهى عرفات تعليمه الأساسي والمتوسط. يتجاهل الوثائقي أيضا دور المساندة والمشاركة الذي أداه الجيش الأردني خلال معركة الكرامة عام 1968، ويرتبط ذلك بخطّ أساسيّ ضمن العمل هدفه ربط عرفات بـ»الإرهاب». يذكر الوثائقي مع ذلك أن الزعيم الفلسطيني أدان تفجير الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لطائرات مخطوفة إلى الأردن، لكنه يشير إلى علاقته الوثيقة مع جورج حبش زعيم «الجبهة» ويذكر العمل أن عرفات أدان هجوم التاسع من سبتمبر/أيلول على الولايات المتحدة الأمريكية، لكنّه يشير إلى أن ظهوره في شريط مصورّ وهو يتبرّع بالدم لصالح الضحايا الأمريكيين كان عملية مفبركة. تجد هذه الصلة بالإرهاب ذروة، في الوثائقي، خلال شرحه تفاصيل الهجوم على الرياضيين الإسرائيليين، الذي نفذته منظمة «أيلول الأسود» (التي يحيل اسمها إلى معارك الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية في أيلول عام 1970) خلال أولمبياد ميونيخ عام 1972، ويستشهد العمل بتسجيل لشخص مقنّع، يؤكد الصلة من خلال الزعم أن عرفات تلقّى 5 ملايين دولار من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي كمكافأة على العملية.
تنضمّ المعلومة الأخيرة إلى سلسلة من المعطيات التي يقدمها الوثائقي حول علاقة أبو عمار بالمال، بدءا من تأسيسه، في خمسينيات القرن الماضي، شركة في الكويت درّت عليه «أرباحا كبيرة» مرورا بالدعم المالي الكبير الذي تلقاه من دول عربية، وصولا إلى استخدامه المال في تثبيت سيطرته ضمن حركة «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبناء على كل ذلك يصف العمل عرفات برجل التسويق الأكبر في المنطقة.

«هذه فرصتنا للتخلص منه»!

بعد انتخاب إيهود باراك رئيسا لوزراء إسرائيل (1991-2001) قرّر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون أخذ المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية إلى نهاياتها الممكنة. تكثّف لحظة المفاوضات فكرة هذا المقال. كان أبو عمار، وفريق مفاوضيه، قابلون للتفاوض على طبيعة السلطة الفلسطينية، بما في ذلك الاضطرار لقبول الهيمنة الإسرائيلية على السيادة والأمن والجيش والمالية والمجالات الجوية والبحرية. توقّفت مفاوضات عرفات وباراك عند نقطة واحدة، بعد أن طلب كلينتون من عرفات قبول تقاسم حرم الجامع الأقصى في القدس مع إسرائيل. موقف عرفات كان أن الأقصى خارج التفاوض، وأن قبوله به سيجعله خائنا في نظر الفلسطينيين. نجد هنا أن السياسة قد اصطدمت، بشكل صارخ، بالمقدس الثقافي والديني، بحيث استولى السياق الثقافي/ الديني على الحلبة بشكل امتنعت بعده السياسة واستعصت. تبع ذلك ما نعلمه من هجمات تنظيم «القاعدة» في الولايات المتحدة الأمريكية (حدث انفجرت فيه عناصر الثقافة بالسياسة على كل الأصعدة).
أدرك أبو عمار، وهو السياسي الشديد الحنكة، بأن التداعيات العالمية لهجوم تنظيم «القاعدة» ستحمل في طياتها فرصة كبيرة لإسرائيل لضرب المشروع السياسي الفلسطيني (والتخلص منه شخصيا). كان انتخاب أرييل شارون رئيسا جديدا للوزراء مرآة بليغة لهذه التداعيات، وعمل شارون للاستفادة لأقصى الحدود من الحدث الأمريكي المستجد، ورفع الإدارة الأمريكية حينها شعار «الحرب على الإرهاب» بوضع المشروع السياسي الفلسطيني (وعرفات على رأسه) كهدف لهذه الحرب، وسنرى في الوثائقي شاؤول موفاز، وزير دفاع شارون، يهمس في إذنه أن هذه الفرصة الكبرى للقضاء على عرفات.
سنشهد بعد ذلك ثلاثة أعوام من حصار الجيش الإسرائيلي لمقر الرئاسة الفلسطينية (مع شبه مقاطعة رسمية عربية لعرفات!) وصولا إلى اقتحامه حيث قُتل 148 من جنود الحرس الرئاسي وجرح 400 (وقُتل 30 جنديا إسرائيليا وجُرح 127) وصولا إلى تدهور صحة عرفات بشكل كبير ونقله إلى فرنسا للعلاج حيث توفّي مع إعلان جهات فلسطينية بوجود شبهات بقيام إسرائيل بتسميمه.
إحدى أفكار الوثائقي، أن عرفات ورفاقه الذين أسسوا حركة «فتح» لم يشكّلوا أيديولوجية، بمعنى أنهم ركزوا على هدف تحرير فلسطين، والحال إن حركة «فتح» كانت حاضنة لقوس واسع من الأيديولوجيات والحركات ذات الطابع الأيديولوجي داخلها، وتحتها كان يلتقي مناضلو حزب العمال الكردستاني و»جيش التحرير الأرمني» مع «الجماعة الإسلامية» وحركة «أمل» و»جيش لبنان العربي».
بالعودة إلى فكرة سيطرة الثقافي على السياسي في اللحظة التي ذكرناها، يمكننا العبور من مقولة تيري إيغلتون إن «العلاقات بين الثقافة والسياسة متغيرة تبعا للسياق الذي تتصل به وتتفاعل معه» إلى مقولة زكي الميلاد، إن «الثقافة، من حيث المبدأ لها حاكمية على السياسة» وهو ما يصبّ بنا مجددا في مجمل أطروحات ريجيس دوبريه، ومنها أن المرء «حين يخرج من الخطأ النظري فإنه لا يعود إليه قط، وأما المعتقد الجماعي فإنه يعود دائما إليه لأنه لا يخرج منه».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2186233

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2186233 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40