تم قبل أيام في مدينة عنتيبي في أوغندا فتح باب التوقيع علي الاتفاقية الإطارية للتعاون بين دول حوض النيل, وهو الاتفاق الذي ترفضه مصر والسودان بقوة بسبب ما ينطوي عليه من تعريض مصالح مصر المائية للخطر.
ذهاب بعض من شركائنا في حوض النيل لهذا الحد في تجاهل المطالب المصرية يثير القلق, ولكن يجب ألا يثير الفزع, فما تم حتي الآن هو مجرد إجراء تزيد قيمته الرمزية كثيرا عن قيمته الفعلية. بالطبع فإن القيمة الرمزية لخطوة التوقيع بالأحرف الأولي يمكن لها أن تتحول إلي تهديد حقيقي ما لم تطور مصر والسودان السياسات الصائبة تجاه هذا التطور, وهو الاحتمال الذي يجب علي مصر ألا تتواني في العمل علي منعه.
مازالت عملية إقرار اتفاقية دول حوض النيل تمر بمراحلها الأولي. فالدول التي وقعت بالأحرف الأولي مازال عليها استكمال إجراءات التصديق علي الاتفاق, أما موقف دول المنبع التي لم توقع علي الاتفاق فمازال موقفها غير محدد. ومن المهم ملاحظة أن الأغلبية من دول الحوض لم تضع توقيعها حتي الآن علي هذا الاتفاق, فمن بين الدول العشر الأعضاء في مبادرة حوض النيل, لم يوقع علي الاتفاق سوي إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا. هذه الدول الأربع تمثل الدول الأكثر تشددا في معارضة مطالب مصر والسودان, أما باقي دول الحوض كينيا والكونجو وبوروندي وإريتريا- فتميل لتبني مواقف معتدلة تسمح بالتوصل لحلول وسط تخدم مصالح الأطراف كلها.
الخطوة الأولي في تطوير إستراتيجية مصرية فعالة للتعامل مع هذا التهديد هي تشخيص طبيعة التهديد الذي نواجهه. إذ ليس من الواضح حتي الآن ما إذا كانت دول الحوض الأربع الأكثر تشددا قد قررت بشكل لا رجعة فيه المضي في تجاهل مصالح مصر والسودان, أم أن ما حدث حتي الآن هو جزء من إستراتيجية تفاوض خشنة تقوم علي الذهاب بالأمور إلي حافة الهاوية حتي يمكنها الحصول علي أكبر قدر ممكن من التنازلات من دول المصب. وأيا كانت نوايا الدول الأربع في هذا المجال فإن علي السياسة المصرية العمل لجعل ما حدث في عنتيبي إجراء تفاوضيا وليس قرارا وإستراتيجية نهائية.
الخطوة الثانية هي اختيار أسلوب التعامل مع دول الحوض, وما إذا كانت مصر ستعتمد علي أساليب الصراع والضغط, أم ستفضل اعتماد سياسة تقديم الحوافز والإغراءات لتشجيع دول الحوض علي التعاون. المؤكد أن مزيجا من الضغوط والحوافز هو الأكثر فعالية, بشرط أن يتم صياغة هذا المزيج بحساب دقيق لتجنب تحقيق نتائج عكسية. والمؤكد أيضا أنه أيا كان وزن أدوات ووسائل الضغط في هذه الحزمة, فإن علي مصر أن تقدم سياساتها علي مستوي الخطاب الإعلامي والدبلوماسي في إطار تعاوني يتجنب الاستفزاز, ويترك الباب مفتوحا لدول الحوض المتشددة للعودة عن طريق التشدد.
المكون الثالث لسياسة مصر تجاه دول الحوض هو الموازنة بين أساليب العمل والتفاوض الجماعي متعدد الأطراف من ناحية, والتركيز علي العمل الثنائي مع كل دولة علي حدة من ناحية أخري. الخطاب السياسي والإعلامي المصري عليه مواصلة التركيز علي أهمية الأطر الجماعية متعددة الأطراف, وعليه التمسك بمبادرة حوض النيل. أما العمل السياسي والدبلوماسي المباشر فعليه تطوير مجموعة من السياسات تناسب ظروف ومواقف كل دولة من دول الحوض علي حدة. في هذا السياق فإن أولوية العمل السياسي والدبلوماسي المصري يجب لها أن تذهب إلي تشجيع دول الحوض المعتدلة علي مواصلة تمسكها بمواقفها, بحيث يظل الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بالأحرف الأولي في عنتيبي اتفاقا بين الأقلية من دول الحوض.
المكون الرابع لسياسة مصر تجاه دول الحوض يقوم علي تحديد الأهمية النسبية للمصالح المائية لكل دولة من دول الحوض بين مجمل المصالح الوطنية الإستراتيجية لهذه الدولة. فبينما تمثل المصالح المائية لمصر والسودان مصلحة حيوية قصوي, فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لباقي دول الحوض الأقل اعتمادا علي مياه النيل. وعلي مصر أن تصيغ من السياسات ما يسمح لها بمبادلة المصالح الأكثر حيوية لكل دولة مع مصالحها الأقل أهمية في مياه النيل. فلبعض الدول مصالح أمنية جوهرية, يمكن لمصر أن تؤثر فيها بأساليب متنوعة, ولبعضها الآخر مصلحة في الوصول الآمن للبحر بسبب طبيعتها الجغرافية المغلقة, وهكذا. ولمصر أن تطور سياسات تتيح لها التأثير بأشكاله المختلفة في المصالح الحيوية لهذه الدول, بحيث يمكن في النهاية إقناعها بأخذ مصالح مصر المائية بعين الاعتبار في سبيل حفاظها علي مصالح حيوية أكثر أهمية بالنسبة لها.
المكون الخامس لسياسة مصر تجاه حوض النيل يقوم علي بناء التحالفات الإقليمية. توثيق التحالف مع السودان, والعمل معا كجبهة واحدة بحكم المصلحة المشتركة بين البلدين باعتبارهما بلدي المصب الرئيسيين هو المكون الأهم لتحالفات مصر الإقليمية في حوض النيل. ويمكن لمصر أن ترتقي بعلاقاتها ببعض دول الحوض الأكثر اعتدالا إلي مستوي التحالف الوثيق, ويستلزم تأسيس وصيانة هذه التحالفات تخصيص موارد كافية تبدأ بالدعم شالتحالفات الإقليمية لمصر يجب لها ألا تقتصر علي دول حوض النيل, وإنما يمكن لها ألا تتسع لتشمل دولا من غير دول الحوض ولكنها توجد في نفس المجال الاستراتيجي الذي توجد فيه دول الحوض, مثلما هو الحال بالنسبة لجيبوتي وأفريقيا الوسطي.
المكون السادس لسياسة مصر تجاه حوض النيل هو مكون دولي. فالموقف المصري من النواحي القانونية و السياسية والتنموية يحظي بدعم الأطراف الدولية الرئيسية, ويحظي بالذات بدعم من الهيئات الدولية المعنية, خاصة البنك الدولي. وعلي مصر أن تعمل عن قرب وبكثافة مع هذه الأطراف حتي تزيل أي شك لديها بشأن صواب الموقف المصري. الفوز بتأييد الأطراف الدولية له أهمية حاسمة لأن المجتمع الدولي هو المصدر المحتمل للدعم الفني والمالي الذي تحتاجه دول الحوض لإقامة أي مشروعات كبري لتخزين واستخدام المياه, وبدون هذا الدعم فمن غير المرجح أن تنجح دول الحوض في إقامة مشروعات تؤثر علي نصيب مصر من المياه.
الاستراتيجية المصرية للتعامل مع التحديات في حوض النيل تستحق منا تفكيرا مطولا وهادئا بعيدا عن الشعارات الزاعقة وأبواق الحرب التي راح البعض ينفخ فيها. وقد حاولت في هذا المقال تقديم اجتهاد حول بعض الخطوط العريضة, لكن الأمر يحتمل عشرات الاجتهادات الأخري, وفي هذا فليجتهد المجتهدون