الأحد 16 شباط (فبراير) 2014

النكوص إلى ما قبل الدولة

أمينة أبو شهاب*
الأحد 16 شباط (فبراير) 2014

ارتدّت ثلاث دول عربية، على الأقل، إلى حالة سياسية واجتماعية يمكن وصفها بأنها حالة ما قبل الدولة، وذلك خلال العشر سنين الأخيرة . اثنتان من هذه الدول وهما ليبيا واليمن ضربتهما عواصف الربيع العربي، أما الثالثة وهي العراق فقد نتج وضع الارتداد إلى ما قبل الدولة فيها عن الاحتلال الأمريكي، حيث تم التهشيم العنيف والمنهجي لبنى الدولة أثناء مراحل الحرب المختلفة، ثم فيما بعد الاحتلال .
لقد كان البديل للدولة والانتماء الوطني الجامع الذي تمثله هو الانفجار المذهل للقوى الطائفية والقبلية وقوى المناطقيات والأعراق والإثنيات . هذه اللغة المختلطة والمتنافرة من العناصر أخذت بزمام المشهد السياسي في ليبيا بعد “الثورة” المدعومة من الخارج وبعد مقتل القذافي . تسمى هذه القوى بقوى الواقع السياسي وتبدو كأنها نتيجة طبيعية أو “عارضة” كما يقول علماء الاجتماع للتحولات الكبرى والأحداث التي تلم بالمجتمعات . حين سادت الفوضى الشاملة العراق بعد الاحتلال الأمريكي، كان الخطاب الرسمي الأمريكي الموجه إلى العرب، يقدم تبريرات اعتذارية بأن ما حدث في العراق من تناحر أهلي وفوضى عارمة لم يكن مقصوداً وأنه جاء كنتيجة لم يكن ممكناً ضبطها .
أحداث ما بعد احتلال العراق تأخذ بلداناً عربية أخرى عديدة إلى المنحى ذاته، أي الفوضى الاجتماعية والسياسية وضعف الدولة وتضخم حالة تسيس العناصر الجزئية في المجتمع من طوائف وقبائل وإثنيات .
وتبدو هذه التطورات كأنها مسار طبيعي يفرزه الواقع نفسه، وهو لذلك مسار حتمي تنتجه المجتمعات بحكم تركيبتها الاجتماعية والسياسية المتنوعة ونتيجة للتحولات الكبرى .
هذا الافتراض الذي يُمرر إلى أذهاننا للتسليم به تنقضه شواهد تشير إلى أن بدائل الدولة التي تأخذ المجتمعات العربية إلى جاهلية جديدة، وارتكاز على العصبيات والتعصب والاستهانة بالدماء، والحرمان من الخدمات الأساسية من أمن وتعليم وطبابة، لم تحتل هذا الحجم بزخمها الذاتي، وإنما بفعل دعم خارجي أعطى القوة والتسلط لقوى تقوم على الانتماءات المتعصبة والضيقة التي تفرض واقعاً من الترهيب وقانون ما قبل الدولة في بلدانها .
في ليبيا التي لم تعد قابلة للحكم، الكلمة الفصل هي للقوى المسلحة الدينية والمناطقية والقبلية التي لكل منها دعمها وسندها الخارجي، وكأن قدر هذا البلد الغني بثروته النفطية، هو أن يبقى رهيناً للتناحر والحرمان لشعبه من حقوق مواطنة تضعه في مقدمة الشعوب على المستويين المادي والديمقراطي .
لماذا تنحدر اليمن التي أعطت مثلاً ناصعاً وراقياً للتعايش ضمن الاختلاف المذهبي والقبلي، إلى وضعها الحالي الذي تتنحى فيه الدولة عن وظيفتها في المجتمع، بفعل كثافة حضور القوى السياسية الحزبية في المجتمع اليمني وصراعها الحاد والدموي للسيطرة وحيازة مساحة الدولة بالقوة؟ ليبيا واليمن هما اليوم سواء في تصنيفهما الضمني، إنهما بلدان مصدّران للإرهاب ومهددان للأمن الإقليمي في محيطهما .
هذا التحول الدراماتيكي للتنوع الثقافي والاجتماعي والبشري في الوطن العربي، من حقيقته التاريخية كهبة وميزة إلى أن يكون سبباً للنكوص الحالي إلى وضع التخلف الحقيقي، حيث التمايز هو على أساس من امتلاك القوة على الأرض، وحسم الأمور على أساس من هذه القوة ليس صيرورة ذاتية الدفع على الإطلاق . لقد تم استثمار هذا التنوع من قبل قوى دولية وإقليمية دعمت قوى الطوائف والقبائل والإثنيات، لتتصدر المشهد السياسي بصراعاتها وجرها المجتمعات بعيداً عن الجوامع الوطنية .
الغريب أن الربيع العربي وقبله الحرب الأمريكية على العراق بهدفها المعلن وهو الديمقراطية، لم تكن الحصيلة بعدهما هي الاصطفاف السياسي على أساس حزبي وعقلاني ديمقراطي، ولم يظهر المجتمع المدني الموعود، بل تم دعم قوى متطرفة دينياً وتقليدية على المستوى الاجتماعي، وشوفينية وضيقة المصالح على مستوى الأعراق .
إنه مشهد الارتداد والنكوص الذي تتعدد فيه القوى الداعمة وتغرق فيه مجتمعات عربية .

* كاتبة اماراتية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2182996

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

40 من الزوار الآن

2182996 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 25


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40