كانت الرهانات الصهيونية منذ بدء المشروع المضاد للتاريخ تتوزع بين ما هو صهيوني يتعلق بالأسرلة والتهويد وما هو دولي. وإذا كانت الرهانات الصهيونية داخلياً معروفة ولم تتحول إلى قصص نجاح كما يتصور البرغماتيون الذين لا يرون من التاريخ غير وجه واحد، فإن الرهان الدولي هو الآخر قد ينتهي إلى قصة فشل، لأن هذا الرهان يتصور أصحابه أن العالم سيبقى متأرجحاً بين قوى متصارعة على كل شيء لكنها متصالحة فقط على المشروع الصهيوني، ولهذا الرهان انعكاسات أو تجليات على الصعيد الإقليمي من حيث الخلل في موازين القوى، واستطاعت الصهيونية بالفعل أن تستفيد حتى من الحرب الباردة، رغم أن القطب الآخر الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي قام بتسليح أطراف عربية في مقدمتها ما يسمى دول الطوق، لهذا علق أحد اليهود الذين يوصفون بالعقوق للصهيونية ساخراً بقوله إن الصهيونية تحولت إلى منشار يأكل الشجرة بدءاً من جذعها وهو صاعد أو هابط . لكن هناك يهودياً آخر أكثر راديكالية في مقاومة الصهيونية هو شلومو رايخ صاغ هذه السخرية بشكل آخر وربما أعمق عندما قال لقد قفزت الصهيونية منذ مؤتمر بال في سويسرا حتى حرب حزيران 1967 من نصر إلى نصر، لكن باتجاه هزيمتها، ومفهوم الهزيمة في هذا السياق ليس كلاسيكياً أو مقتصراً على البعد العسكري، فثمة إمبراطوريات حملت في جذورها أسباب غروبها وتفككها لأنها مضادة للتاريخ، وتسعى إلى جعل المستقبل مجرد إعادة إنتاج للماضي وفق تصوراتها، لهذا لم تقاوم الصهيونية أحداً من خصومها باستثناء دعاة اندماج اليهود بعد الثورة الفرنسية أكثر من مثقفي أوروبا وأمريكا الذين افتضحوا مرجعيتها الأسطورية لأن كيانات من هذا الطراز لا تعيش إلا بفائض القوة، ورهانها الدائم هو على الخلل في موازين القوى الذي يكون لمصلحتها.
عربياً كان الرهان الصهيوني وقد يكون الأخير على ديمومة الأوضاع العربية والسعي إلى تأييدها بحيث تراوح أمة بلغ تعدادها الديمغرافي ثلث مليار وتشغل مساحة بسعة قارة في مواقع بالغة الحساسية بين نسب شبه ثابتة للتخلف والأمية، إضافة إلى التفكك أو حروب الإخوة الأعداء، هذا الرهان ظهر لعقود وكأنه على موعد محتم مع الفوز، لكن ما أغفله هذا الرهان هو ممكنات الواقع العربي بشراً وثروات وثقافة وهوية إضافة إلى المواقع.
وظن أصحاب الرهان الأخير أن الحال سيدوم وهذا بحد ذاته تصور أسطوري لأنه يخلو من الجدلية، فالأسطورة ذات بعد واحد ولا تحاور غير ذاتها، بعكس التاريخ المتغير الذي يكون ماكراً في بعض الأحيان كما قال الفيلسوف هيغل، لهذا ما إن يحدث أي حراك عربي حتى تستدعي الصهيونية كحركة ودولة معاً كل ما لديها من احتياطي وتعجز في إخفاء حالة الهلع التي تصيبها، وهذا ما يفسر سرعتها في تحليل هذا الحراك بما يناسب مخاوفها، وغالباً ما يحاول أبرز الاستراتيجيين فيها التقليل من شأن هذا الحراك وإحالته إلى أسباب اقتصادية خالصة وكأنها خارج المدار كله.
وقد لا يكون الحراك العربي في نطاقه القومي قد تحول بعد إلى قصة نجاح تاريخية، لكن مجرد فتح كوة في الجدار هو بمثابة صفارة إنذار للمشروع الصهيوني برمته، أي بعناصره الايديولوجية أو بالدولة ذاتها التي لن تنجو تاريخياً حتى لو حققت ما يسمى تهديد الدولة.
وحقيقة الأمر أن الصهيونية لا تخشى شيئاً قدر خشيتها من المستقبل الذي لا ينفع معه أكثر من مئتي رأس نووي، وما الحديث عن القنبلة الديمغرافية الفلسطينية وفشل التطبيع إلا تعبيراً عن إحساس بأن المستقبل هو كمين أو فخ.