منذ بداية مفاوضاتها الرسمية مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أتقنت «إسرائيل» أسلوب التسويف والمراوغة حين يتعلّق الأمر بأي من القضايا التي باتت تصنّف كـ«رئيسية»، وأدرجت تحت بند مفاوضات الوضع النهائي التي كان يجب إنهاؤها، وفق أجندة اتفاق «أوسلو» قبل خمسة عشر عاماً. هذه القضايا حسب «أوسلو» هي القدس وحدود الدولة الفلسطينية والاستيطان وقضية اللاجئين. في كل بحث في هذه القضايا تلجأ «إسرائيل» إلى محاولة الضغط على الجانب الفلسطيني لإحداث كسر، مهما كان حجمه، في الموقف المبدئي الفلسطيني الذي تسعى لتبخيره على نار هادئة. ففي قضية الاستيطان أدخلت «إسرائيل» إلى ملف التفاوض مصطلح «الكتل الاستيطانية» الكبرى وحدّدتها بأربع كتل اعتبرتها جزءاً منها وتابعة لها، رغم وجودها في الضفة الفلسطينية. وإذ حصل تململ في الموقف الفلسطيني، بدأ الحديث حول النسبة التي ستشغلها هذه الكتل على قاعدة «مبادلة الأراضي بالمثل». عام 2008 اصطحب وفد «إسرائيلي» مفاوضاً فلسطينياً في جولة حول مستوطنة «ارئيل» المقامة على أراضي محافظة سلفيت في قلب الضفة، وقيل حينها إن الجانب «الإسرائيلي» حاول إقناع المفاوض الفلسطيني باستحالة إخلاء المستوطنة التي يخال من يقترب منها أنه على مشارف «تل أبيب»، وقيل أيضاً إن المفاوض الفلسطيني لم يقتنع.
الآن وبعد أربع سنوات على تلك الجولة، وما يقارب التسع عشرة سنة، تعلن «إسرائيل» عن تحويل كليّة في «ارئيل» إلى جامعة، وتخصيص المليارات لتطويرها وتجذيرها، بالتزامن مع الإعلان عن مشروع لتوسيع المستوطنة على حساب مساحات واسعة جديدة من أراضي الفلسطينيين في محافظتي قلقيلية وطولكرم، في رسالة لا تحتاج إلى كثير من التوضيح، تريد «إسرائيل» منها التأكيد على ما أعلنته سابقاً عندما وصفت هذه المستوطنة بأنها «عاصمة السامرة»، وأن على الفلسطينيين عدم التفكير في التعاطي معها وسواها من «الكتل الكبرى» كمادة تفاوضية.
هذا الأسلوب «الإسرائيلي» لا يعبّر عن عبقرية تفاوضية بقدر ما يعكس استهتاراً بأغلبية العرب، وهي لها معهم تجربة وترى كيف أنهم سلّموا بكل ما فرضته «إسرائيل» كأمر واقع، فأكثر من 80 في المئة من فلسطين التاريخية أصبحت على خرائط معظم الفضائيات العربية «إسرائيل»، بل إن بعض هذه الفضائيات ضمّت الأراضي الواقعة غرب جدار النهب العنصري لـ«إسرائيل»، كما أن الخطاب السياسي والإعلامي العربي يتحدّث عن قدس شرقية وغربية، هكذا بالمجان وليس كجزء من اتفاق.
قبل بضعة أيام أعلن مرشّح الرئاسة الأمريكية ميت رومني تأييده للقدس بشطريها كعاصمة لـ«إسرائيل» وتعهّد بنقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى القدس إذا فاز بالرئاسة. هذا الموقف المتبني بسفور لتهويد القدس، تقابله الجامعة العربية بالإعراب عن «الاستياء»، وكأن قادة «إسرائيل» سيصابون بالأرق بسبب هذا الاستياء. فعندما يعرف هؤلاء ان أقصى ما تستطيعه جامعة العرب هو مسلسل مصطبته الاستياء وسقفه الإدانة، هل ينهون احتلالهم للأرض وتهويدهم للقدس واستمرارهم في مخطط هدم المسجد الأقصى ومواصلة أحلام هيرتزل ببناء «إسرائيل» من الفرات إلى النيل؟.
إذا كان سقف غضب الجامعة العربية هو الاستياء، فمن الطبيعي أن تمضي «إسرائيل» في تكريس القدس ك«عاصمة» لما تسميه الشعب اليهودي، و«ارئيل» عاصمة لما تسميها «السامرة»، ولربما «تتكرم» على العرب بقبول العضوية في جامعتهم أو قيادتها في يوم من الأيام، إلا إذا كان لـ«الربيع العربي» الذي لم تتفتح فيه زهرة واحدة باسم فلسطين أو القدس، كلام آخر.