منذ أكثر من عشرة أعوام وبالتحديد منذ الحادي عشر من سبتمبر العام 2001، وبريجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، لا يكف عن نقد السياسات الأمريكية، وقد لخص الكثير من هذا النقد بعد إضافة وصايا ومواعظ استراتيجية عدة في كتابه «الفرص الضائعة»، وهو كتاب ضخم مكرس لنقد ثلاث إدارات أمريكية متعاقبة، وبالتالي ثلاثة رؤساء أضاعوا من الفرص ما لا يمكن تعويضه أمريكياً في المدى المنظور، وقبل ذلك كان بريجينسكي قد فرق بشكل حاسم بين القوة والقيادة، فأمريكا كما يرى تنعم بالقوة الفائضة، لكن قيادتها للعالم لم تكن بفضل فائض العدالة، وحين تصاب القوة بالعمى فإنها تصبح عرضة لأن تأكل نفسها، ما يتيح للآخرين الذين رضخوا للقوة وليس للعدل أن يخرجوا الفهد الهاجع في جسد القط، وهو هنا يلتقي مع ما قاله صاموئيل هنتنغتون صاحب أطروحة «صراع الحضارات» في مقالة شهيرة نشرت في «الفورين أفيرز» عمّا سماه هذا الأخير «المهارة في اختراع الأعداء»، وهذه حِرْفَة أمريكية بامتياز. فالولايات المتحدة لم تخلد إلى الراحة بعد أن حُسِمت الحرب الباردة لمصلحتها، بل بدأت بابتكار الأعداء كبدائل للعملاق السوفييتي المنهار الذي جرى تفكيكه. لكن ما هي فرص أمريكا الضائعة؟ هل هي عودتها مجدداً إلى تبني الشعار الذي رفعته في أعقاب الحرب العالمية الثانية وهو تصفية الاستعمار؟ أو في استخدام القوة لقيادة ديمقراطية حكيمة للعالم؟
أياً كانت الإجابة، فإن إضاعة الفرص هي متوالية أمريكية شارك فيها الديمقراطيون والجمهوريون وإنْ بنسب متباينة، وحين يتحدث بريجينسكي عن حروب أمريكا، يقول إن نتائجها غالباً ما تكون نصف انتصار وبالتالي نصف هزيمة. إن مستشاراً أسبق للأمن القومي الأمريكي وفي الفترة الحرجة، وهو الآن في العقد التاسع من عمره، لا تنقصه التجربة، وبالتالي ما تفرزه من استحقاق صاحبها لأن يقدم نصائحه، لكن لجيل آخر وفي أوضاع دولية مختلفة، فالرجل ربيب حقبة سياسية يرى الكثيرون أن العالم ودّعها، وكأنه يستقبل تاريخاً آخر في أعقاب التاريخ الكلاسيكي بكل ما فيه من منظومات مفاهيم ورؤى.
وإذا كان ما قاله وما يقوله الآن بريجينسكي ليس عسيراً الحصول عليه من مختلف المصادر والأرشيفات، فإن ما لم يقُلْه وقد يقوله عندما يستبد به اليأس من الوعظ، هو أن الإدارات الأمريكية هيأت لها القوة بأنها معصومة، وغير قابلة للنقد والمراجعة. وإذا حدث هذا فعلاً فإن معناه أن الفيروس الذي أصاب إمبراطوريات كبرى في التاريخ وورطها بنهايات غير سعيدة، سوف يُصيب هذه الإمبراطورية أيضاً، لكن من خلال «عقب أخيل» أي نقطة الضعف التي لم تُحَصنْ ولا تملك أية مناعة، وعقب أخيل في الأسطورة، هو قدم البطل التي لم تغمس في ماء الخلود، فأصبحت الهدف والمقتل معاً. وحين تفقد دولة أو إمبراطورية نعمة النقد الذاتي وفضائل الاعتذار، فإن أخطاءها مهما صغرت تصبح مرشحة لأن تتحول إلى خطايا، وبدلاً من الاعتبار بدروس التاريخ تأخذها العزة بالإثم فتكرر الأخطاء بمعزل عن الذاكرة. ما لم يقله بريجينسكي قاله بوضوح نعوم تشومسكي، ربما لأنه عالم لغويات يعمل في السياسة وليس دبلوماسياً عريقاً تقاعد وبدأ يكتب، فما يلح عليه تشومسكي وبشكل درامي، هو أن اندفاع الولايات المتحدة بهذا الإيقاع والوتيرة ذاتها للهيمنة على كوكبنا، هو في نهاية المطاف انتحار إمبراطوري بطيء.