ما كشفه المفكّر الأمريكي نعوم تشومسكي عن الاستراتيجيات التي تعتمدها وسائل الإعلام العالميّة للسيطرة على الشعوب، يتواءم مع الإدراك المجمع عليه حول الدور الحاسم للإعلام في السيطرة على عقول الشعوب بعد تضليلها وتخديرها وتوجيهها على نحو مخطط له مسبقاً، خدمة لمصالح أصحاب القرار والنفوذ المسيطرين على وسائل الإعلام .
من هذه الاستراتيجيات يذكر تشومسكي إلهاء الرّأي العام وتحويل انتباهه عن المشكلات المهمّة ومواقف النّخب السياسية والاقتصاديّة الساعية إلى السيطرة وتحقيق المصالح، وذلك عبر سيل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة . وفي هذا السياق يندرج أيضاً أسلوب الضخ الإعلامي المتواصل باتجاه قضية ما، باستخدام الصورة والمؤثرات الصوتية والأخبار المتلاحقة تحت عنوان خبر “عاجل” بعرض لامع باللون الأحمر .
في مرحلة ما سابقة، ورغم أن الموضوعية تكاد تكون غائبة دائماً، كانت وسائل الإعلام تحرص على حد أدنى من المهنية، أو على الأقل تتجنّب الوقوع في فخ الاصطفاف في الصراعات خارج البلد المعني، ذلك أن الإعلام الخاص كان حكراً على عدد قليل من الدول . الآن لا يحتاج الأمر سوى مشاهدة نشرة أخبار واحدة ليكتشف المرء بأن هذه المحطّة أو تلك تقف إلى جانب طرف ضد آخر في الصراع، وفقاً للدولة الحاضنة أو الجهات المموّلة . بعض وسائل الإعلام لم تعد تنسب وقائع وإحصاءات ومواقف أحياناً تكون خطرة وهدامة، إلى أي مصدر، بل تقدّمها حقيقة مطلقة، وعلى نحو متكرر من دون أن تنسبها لأحد، بما في ذلك أحداث القتل والتفجير والخطف، في صياغة تظهر أن الوسيلة الإعلامية هي نفسها طرف، وهذا يندرج في إطار التحريض والتعبئة وتمرير السياسات، وليس النقل الموضوعي واحترام حقوق البشر في الحصول على المعلومة الصحيحة، أو عرض مختلف الروايات والآراء وترك المشاهد يسعى بطريقته إلى المتابعة وفهم ما هو أقرب للحقيقة .
على مدى عقود، كنا كعرب، نشكو من سيطرة اللوبيات الصهيونية على كبرى وسائل الإعلام العالمية لمصلحة المشروع الصهيوني في المنطقة العربية والعالم . كنا نتمنى دائماً أن نرى وسائل إعلام عربية تتصدى للحملة التضليلية الصهيونية، بحيث تكسر احتكار “إسرائيل” لعقول البشر .
عندما أتاح ظهور الإعلام الفضائي هذه الإمكانية، جاءت الوسائل بما لا يحقق الغايات المنشودة، بل على النقيض من ذلك، نشأ إعلام عربي يقسّم ولا يجمع، ويغذّي الفتنة بدل أن يقطع الطريق عليها، ويكرّس “إسرائيل” على خريطة فلسطين، ويمنح الصهاينة مساحة كافية لتبرير جرائمهم بحق الفلسطينيين والعرب . بعض وسائل الإعلام تتناول الشأن الفلسطيني من بوابة توسيع الهوة بين الفلسطينيين وتكريس انقسامهم، وتتناول الشؤون الداخلية للدول العربية وفق منهج تقسيمي مؤجج للعنف الداخلي، والأخطر صبّها الزيت على نار الفتن العرقية والطائفية والمذهبية .
الإعلاميون مطالبون بأن ينحازوا لضمائرهم وأخلاقيات المهنة، وأن يعلموا أن مصير العرب ودمهم وأعراضهم مسؤولية دينية ووطنية وأخلاقية، وأهم من حفنة المال التي يحصلون عليها .