الجيل الفلسطيني الذي عايش أحداث النصف الأول من القرن العشرين، يتذكر من بقي منه على قيد الذاكرة وليس الحياة فقط أغنية شعبية تخاطب “المستر دل”، مطلعها “دبرها يا مستر دل . . يمكن على إيدك بتحل” .
ومنذ ذلك الوقت تغيرت أسماء ووقائع، وجاء بعد المستر دل سلالة من الأسماء ذات الحروف اللاتينية، ولم يكن الحل بيد أحد منهم، وربما زادوا المشكلة تعقيداً بسبب الإصرار على قراءة الكتب السود والبيض وعديمة اللون من اليمين إلى اليسار إذا كانت مكتوبة بالإنجليزية، ومن اليسار إلى اليمين إذا كانت مكتوبة بالعربية .
ولا نعرف كيف تحولت أوضح قضية في التاريخ إلى لوغرتمات سياسية، فما تراكم عليها من القشور هو ما أدى إلى مضاعفة تعقيدها بحيث أصبحت أحجية، عبّر عنها الفلاح الفلسطيني الفصيح من خلال حكاية عجيبة اسمها إبريق الزيت، ففي هذه الحكاية يسأل الراوي المستمعين: هل تريدون سماع الحكاية؟ وحين يردون بنعم يعيد عليهم السؤال، وحين يجيبون لا يقول لهم: قولوا نعم كي أروي الحكاية .
ويمضي الليل كله في هذه الحلقة المغلقة والتكرار العقيم .
لقد أحس الفلاح الفلسطيني بفطرته منذ ما يقارب القرن أن هناك فخاً قد نصب لقضيته، وأن ما بذل من وقت ومال وجهد من أجل تعقيدها كان واحد في الألف منه يكفي لحلها لو توفرت النوايا لذلك .
لقد أعقب “المستر دل” في فلسطين و”المس بل” في العراق خواجات لا حصر لهم، ومنهم من وعد بالحل وصدق، عندما ساهم بالفعل في حل المسألة اليهودية فقط وعلى حساب الفلسطينيين، ولم يكن وعد بلفور آخر الوعود، كما أنه لم يكن أولها، فثمة وعد شهير لنابليون بونابرت لكن التاريخ خذل الإمبراطور الذي مات منسياً في سانت هيلانة، لا يفعل شيئاً لليهود أو سواهم إلا بتغطيس رأسه في الماء الساخن كما يروي مؤرخو تلك الفترة .
ألم يكن وعد أوباما بالدولة الفلسطينية القابلة للحياة من أوائل وعوده غداة فوزه بالرئاسة تحت شعار التغيير؟
لكن وعد أوباما سرعان ما أدرج في الخانة العرقوبية من سلالة الوعود البلفورية .
ما من قضية بدأت بذلك الوضوح والبساطة، بحيث تختصرها جملة سياسية مقيدة هي فاعل ومفعول به ومفعول لأجله .
لكن فقه التعقيد واختراع الغموض عبث بهذه الجملة، فحوّل فاعلها إلى نائب والمفعول به إلى منفعل، والمفعول لأجله ضحية هولوكوست على العرب أن يعترفوا له بما لم يقترفوا على الإطلاق .
والآن، لم يعد الأطفال الفلسطينيون يرددون أمثال تلك الأغاني التي تناشد “مستر دل” بعد أن أدركوا أن سوس الخشب من الخشب ذاته .