يختلف المفكرون العرب، وفي الآونة الأخيرة خاصة، حول أسباب الخلافات الناشبة في المجتمع العربي، وهي خلافات تعدّت الأنظمة إلى النخب السياسية والفكرية . وهناك من المفكرين من يرى أنها خلافات ثقافية في الأساس ولا علاقة لها بالسياسي والاقتصادي والاجتماعي، في حين أن مفكرين آخرين يشددون على أهمية العوامل السابقة ويرون أن تجاهلها يشكل الأساس في كل ما وصل إليه الوطن العربي، وما يضطرب في أوساطه من خلافات حادة وعقيمة . ولا أدري لماذا أميل إلى رأي أولئك المفكرين الذين يرون أن العامل الثقافي يشكل من وجهة نظرهم عاملاً رئيسياً في هذه الصراعات، ويعود ذلك إلى تباين مستويات التعليم ومخرجاته في كل الأقطار العربية وما يترتب على هذا التباين الصارخ من تعدد وجهات النظر، وتعميق الخلافات بين الأجيال التي تجعل بعضها يذهب يميناً وبعضها الآخر يساراً، فضلاً عن الأغلبية التي تأخذ موقف المشاهد ودور المتفرج من بعيد .
وقد لا يتسنى لنا دراسة ظاهرة هذه الخلافات العربية وما ينتج عنها من انقسامات وتشظيات إلاَّ بالاتجاه إلى مقارنة الحالة العربية بحالات الأمم الأخرى في كل من الغرب والشرق على حد سواء، ليتضح لنا أن الانسجام الوطني هناك والاتجاه العام والأغلب نحو المستقبل ناتج عن التعليم الموحد والرؤية الثقافية الموحدة، مع الاعتراف بوجود خلافات ومنازعات، لكنها تقوم على قضايا سياسية واقتصادية محددة ولا تصل من الحدة إلى درجة الاقتتال وتشكيل الميليشيات كما يحدث في أقطارنا العربية وبعض الأقطار الإسلامية التي تشاركنا غياب الرؤية الوطنية الموّحدة التي تعلو على الخلافات السياسية ولا تتحول إلى مواقف غير مقبولة حين يتركز الصراع فيها على قضايا لا علاقة لها بالواقع الراهن ومتطلباته الاجتماعية من معيشية وصحية .
ثقافة مجزأة، ورؤى متفاوتة، ومواقف متهافتة، ورجوع إلى الماضي لا للاغتراف من إيجابياته والاستفادة من جوهر إنجازاته في المجال الفكري والتشريعي والعملي، وإنما للاستعانة بأساليب الجدل وإحياء الصراعات الميّتة وما تسببه من الفرقة بين المكونات الوطنية والروحية وعدم الوقوف عند قيم التعايش بين المذاهب والأفكار والانفتاح العقلي الذي مكن لهذه الأمة من الإبداع والابتكار، ومن إقامة الحضارة العربية الإسلامية الرائدة في تاريخ البشرية . فهل من مراجعة واعية وموضوعية تبدأ بها النخب والمنظمات المتصارعة للخروج مما وصلت إليه من خلافات تقود إلى حالة من الاحتراب والاقتتال والتنكر لكل القيم والمبادئ، وإشغال المواطنين الأبرياء وقتلهم على ساحة الخلافات غير المقبولة وغير المبررة، ونفخ الرماد في نيران خمدت منذ قرون، ولم يعد لها من أثر أو قيمة تساعد إنسان اليوم على الخروج من المأزق الحضاري الذي يعاني من ضغوطه وردود أفعاله .
الأزمة إذاً، أزمة صراع قائم على اختلاف في مستويات الثقافة، ومن ثم في التلقي المختلف والمتباين لمستجدات العصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والمشكلة أن ما يُكتب ويُقال لا يلامس جوهر الأزمة، ولا يعالج عوامل التمزق الحاصل في الحياة العربية التي باتت تفتقر إلى التحليل الموضوعي لأزمة عميقة الجذور وذات أبعاد ثقافية ومعرفية لم يتنبه لها قادة الفكر والسياسة منذ وقت مبكر، وقبل أن تتطور وتتفاقم ردود أفعالها وتغدو عصية على الفهم فضلاً عن الحل .
السبت 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013
أزمتنا العربية سياسية أم ثقافية؟
السبت 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013
par
د. عبد العزيز المقالح
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
28 /
2197618
ar أقسام الأرشيف أرشيف المقالات ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
19 من الزوار الآن
2197618 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 9