الأربعاء 11 أيلول (سبتمبر) 2013

الحرب هي الحرب

الأربعاء 11 أيلول (سبتمبر) 2013 par نسيم الخوري

ماذا يعني الكلام عن توصيفات نسمعها وخبرناها تتعلّق بالحرب، كأن نقول مثلاً “حرباً محدودة” أو “ضربة محدودة” أو “حرباً خاطفة” أو “استباقية” أو “حرباً خفيّة” أو “حرباً ردعية” أو “حرباً مقنّعة”، وغيرها من المسمّيات؟

في الاشتقاق اللغوي الثلاثي الذي يفرزه لساننا العربي: الحرب هي الحرب . هي ليست ربحاً وليست حبراً، ولن تكون وما كانت يوماً رحبة أو مرحباً بها، وهي على الأغلب براح دماء وأحزان ومآتم وغيظ لا تترك سوى بحوراً من الدماء والندم . فلا بدّ أولاً من تبديد وهم شائع لدى الكثير من القراء الذين تغيظهم مقالة تتضمّن عبارات على علاقة بالدماء والحروب والقتل الماحق الخالي من الدماء إلى درجةٍ يبين فيها الإنسان في لعبة السلطات وكأنّه مسكوناً بنشوة الإلغاء بالدم أو بغيره . وقد تدفعنا تلك المشاعر البشرية والمشاهد المقزّزة وغير المستحبة إلى إلصاق صفة الأسطورة أو الخيال الذي يوصف فيه بعض قادة الدماء والحروب على أنّهم أو كأنّهم يضعون أقنعة “مصاصو الدماء” . والحقيقة لا تنكشف إلاّ عندما يضع الإنسان قناعاً فوق وجهه حيث يبتعد عن ذاته ومجتمعه ويصبح مجهولاً من الآخرين .

لهذا نقول إنّ البشر لا يبلغون الذرى في صدقهم إلاّ عندما يضعون الأقنعة فوق وجوههم . يكفي ملاحظة هذا الصدق في سلوكنا في ما يعرف ب”عيد البربارة” مثلاً الذي يسمّيه الأمريكيون عيد “هالاوين” . هنا يختلط الواقع بالخيال وتمتزج الدلالات أو المعاني الأسطورية والحيوانية للسلوك، فتخفّ وطأة الصور أو تقوى كثيراً بما يدفعنا كمتفرّجين إلى الاستفزاز والغضب، وربّما إلى القفز نحو ردود الفعل والمواقف الحامية التي نشهدها لدى الكائنات الأخرى على شاشات التلفزة المختصّة بالحيوان وعلم نفس الحيوانات وسلوكها العلائقي في ما بينها . عندها تتوسّع بحور الدم .

ولو دفعنا المنطق أبعد من ذلك بكثير، لوجدنا أنّ الغرائز العدوانيّة للكائنات غير العاقلة في عمليات الهجوم والقتل تبدو محكومةً وفق خرائط هندسيّة حافلة بالحكمة الطبيعية أقلّها المداعبة قبل الشراسة وقبل الوصول إلى لعبة الدماء بعد القتل . ولسوء الحظ، تبدو تلك الأسطورة في مصّ الدم حاملةً لموضوعٍ غير جدير بالاهتمام، أنجبه الخيال الهوليودي اليهودي الفرويدي (نسبةً إلى عالم النفس التحليلي النمساوي اليهودي الأصل سيغموند فرويد) بغرض الإثارة القويّة للجمهور الذي انطبعت ذاكرته إن لم نقل ثقافته بإذكاء غرائز العنف المكبوتة لديه لدى الأفراد أو في الأنظمة التوتاليتارية بدلاً من أن تكون تلك الأساطير نوافذ للتفريج أو للكبت التي أفضّل ترجمتها بالتنفيس الذي يريح البشر من عقدهم ومآزمهم المتنوّعة المتكاثرة، وخصوصاً إن تعقّدت حبال السلطة وعمّت الفوضى إلى مناخٍ يتجاوز عقل الإنسان من تحمّله .

نشير إلى أنّ أسطورة مصّ الدماء ظهرت أساساً في شرقي أوروبا، في البقعة المحصورة بين الألب والبحر الأسود وجبال البلقان وتقع رومانيا في وسطها مسقط الأمير فلاد تيبس الرابع المعروف ب دراكولا أي مصّاص الدماء الذي نراه في الصالات السينمائية كائناً ليلياً يفرّ من الضوء . والمفارقة أنّ هذه العبارة السلافية الجذر المعروفة ب vampire في التعابير اللاتينية تألّقت في عصر الأنوار في أوروبا في القرن السابع عشر الذي أسّس للثورة الفرنسية مع نابليون بونابرت، ولا حاجة لأن نذكر مدى الدم والتفجيرات التي أفرزتها تلك الثورة بعد نجاحاتها وتداعياتها الدموية . قد نجد مرادفات عربية لتلك العبارة المخيفة أعني الغول الذي به نخيف الأطفال الصغار، أو الطاغية بحيث تذكّرنا بالأسطورة اليونانية لبروستكروس القصير جدّاً الذي أمر بوضع أفراد شعبه فوق سريره وكان يقطع ما زاد من المنطرحين فوقه، وعندما لم يبق غيره مع قتلته قتلوه . إنّه القاتل الذي لا يشعر بالموت لأنّه ميّت أصلاً، لكن يمكن قتله وفصل رأسه وإحراقه وبعثرة رماده لترتاح البشرية وتريحه وفقاً للأسطورة .

والواقع أن تلك الأسطورة الخرافية أضحت كونية وخالدة تعبّر عن أحداث ووقائع كما عن معرفة أساسيّة كوّنتها البشرية لا تعود إلى تاريخ محدّد، بل تمتدّ إلى فجر التاريخ . فلو قسنا المسافة بين عبسة قايين وقتل أخيه هابيل بحجر أسال الدم في جمجمته وبين القدرة على الإبادة من دون مشهد الدم، اليوم، باستعمال الأسلحة الكيماوية والذرّية أوأسلحة الدمار الشامل لوجدنا تاريخاً لا ينتهي من تحقيق غريزة العنف وسلاسل من الحروب التي لازمت البشر . لم يكن العنف الدموي مسألة عرضيّة أو حتميّة دائمة، لأنّه منذ سقراط ، مثلاً، الذي تجرّع الموت سمّاً إلى المهاتما غاندي الذي امتشق اللاعنف لتحرير بلاده من الإنجليز كان هناك طرائق أخرى نادرة للمواجهة والمصالحة، لكن الحق بخوض الحروب استمرّت حاجة دولية طاغية مكرّسة بالقوانين، نجدها في اتفاقيتي لاهاي (1899 و1907)، وفي اتفاقيّة جنيف بعد دماء الحرب العالمية الثانية (1949) كما في بروتوكول جنيف الأخير(1977) .

الحرب هي الحرب، مع أنّها أفضت إلى منظومات من الابتكار - الانهيار الذي يفرّغ الموت من معانيه ويطرح فكراً بشرياً قادراً على التحرّر من “عبودية” الجسد، فتتمكن الآلات من برمجة ووضع تصاميمها وإعادة بنائها في منافسة للعقل والمشاعر، والتفوق على قوته في مرحلة ثانية .

ويعني هذا وضع أدوات حروب فائقة الذكاء قادرة على إنتاج ذاتها بذاتها إلى ما لا نهاية وفق ظاهرة الإلكترونيات وصناعة الطائرات من دون طيّار تتعاطى مع أبعاد وتفاوت للجزئيات أو الذرات مسموح من 1 .0 إلى 100 نانوميتر أي واحد من مليون من المليمتر . . حيث الذكاء الذري يتكفّل بتجميعها هيدروجينياً أو كيمياوياً عندما تجعلها الحركات الحرارية تحتك ببعضها بعضاً . ويبنى هذا العلم الحربي على التعاطي بمهارة بالجزئيات، وفق علوم هي مزيج من الكيمياء والفيزياء والهندسة قادرة على إيجاد آلات تصنّع آلات أصغر حجماً منها، وكلّها بإدارة الكومبيوتر سلطة السلطات التي تتمكّن منها الدول العظمى . إنّه إدارة علم الحروب الصاروخية بالذرات والسلطة العالمية التي تروج للذكاء الذري، ومعه نشهد خطى سريعة نحو الآلات التي تعيد إنتاج ذاتها ونجاحاتها إلى ما لا نهاية . ونشهد خطىً سريعة متنقّلة أيضاً نحو المزيد من الدم والموت لا يفصح عن مستقبل للإنسان في ضوء هذه الابتكارات . إنّه الماضي المتكرّر منذ قايين الذي قتل شقيقه في جبل قاسيون فوق دمشق إلى الحروب العربية والدولية المتنقّلة التي لا تضيف إلى الحرب أيّة صفةً إيجابيّة إنسانيّة .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2182314

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2182314 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40