الثلاثاء 3 حزيران (يونيو) 2014

الهوامش الشخصية في لعبة السلطات

الثلاثاء 3 حزيران (يونيو) 2014 par نسيم الخوري

عندما أعلن سمير جعجع ترشحه لرئاسة الجمهورية في لبنان، كشف لوسائل الإعلام والناس عن بناء سجنٍ في مقرّه في تلّة معراب هو طبق الأصل عن السجن الذي وضعوه فيه في وزارة الدفاع لدزّينة من العمر . ذكّرني الحدث بجعجع وقد خاطب أحد سجّانيه: “يوماً ما ستراني رئيساً للبنان” . ماذا يعني هذا الأمر؟ يعني أنّ هوامش شخصيّة في عالم السياسيين لا يمكن إغفالها على الإطلاق، ولا يمكن تحديد عظمتها ووطأتها في سلوك السلطات . هذا أمر قد يقرأه البعض بخفّة وتسفيه، لكنّه أمر بالغ الأهمّية، من بين أمور كثيرة مهمّة، نوردها لجعجع كما للجنرال ميشال عون الذي نفي إلى فرنسا تاركاً صورة الرئيس السوري حافظ الأسد التي كانت تتصدّر مكتبه في بعبدا، ليبقى محروماً في منفاه من البوح بالكلام السياسي ومن العودة للبنان . مهلاً إنّ زلّة لسانٍ أو كلمة مؤذية واحدة مقصودة تكفي لدكّ أوثق العلاقات بين البلدان والشعوب في لعبة السلطات .
يتجاوز الحيّز الشخصي انتباهنا، وهناك مؤلفات رائعة مثل “دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ” لاريك دورتشميد حيث يلعب الشخصي في القرارات والمصائر والسير للشخصيات السياسية، لكن وكي لا أجرح كبرياء أهل السلطة، أكتفي بالكشف عن قصة مدفونة في ذاكرتي أبغي منها رفع شأن الكلمة والسلوك والخطاب في القول والفعل السياسيين:
روى لي أحد السياسيين اللبنانيين الذي ترك لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في ال،2005 أنّه فوجئ بالحضور المفاجئ المتأخّر للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إلى دارته في أمريكا حيث كان اللبناني يقيم عشاء تكريمياً للرئيس جورج بوش الأب بمناسبة عيد ميلاد هذا الأخير . صافح الرئيس الأمريكي الحضور حول طاولة الشرف التي ضمّت والده المكرّم والسياسي اللبناني، وطلب على الواقف الاختلاء بالسياسي اللبناني الذي ترك الحفل ودخل الرجلان إلى مكتبٍ في القصر . وعلى الواقف أيضاً، سأل جورج دبليو بوش الذي بدا منفعلاً السياسي اللبناني:
- هل تقبل أن يضعوا لوالدك صورة على الأرض ويدوس الناس عليها طيلة النهار والليل لعقدٍ من الزمان؟
- قطعاً لا أجاب اللبناني الذي فهم توتّر الرئيس، مستدركاً تفضّل أجلس سيدي الرئيس .
- كلاّ، لن أزعج مدعوييك أكثر، لكنّني آتٍ لأقول لك كلمةً واحدة .
- إنّني أكلفك بمهمّةٍ رسميّة بعد أن تعذرني على عدم تلبيتي دعوتكم في تكريم أبي في عيد ميلاده، وتعتذر من الحضور الكريم عن مجيئي وانصرافي المفاجئ والسريع، بأن تذهب إلى العراق في أقرب فرصة وتقابل صدّام حسين وتقول له بالحرف: إن لم يزل صورة والدي من أمام فندق الرشيد فأمريكا آتية لتنزعها وتنزعه وتنزع تماثيله وصورته من الدنيا .
كان الرئيس العراقي، منذ “عاصفة الصحراء” في العام ،1991 قد أمر بتثبيت لوحة فسيفسائيّة كبيرة أمام فندق الرشيد في بغداد تمثّل صورة جورج بوش الأب . وصار الداخلون إلى الفندق والخارجون منه يدوسون بأحذيتهم فوق الرسم . حتى أن مفتشي أسلحة الدمار الشامل الذين كانوا يذهبون إلى العراق كان يتمّ استقبالهم في هذا الفندق، ويبدون ضيقاً وحرجاً لدى مرورهم فوق رسم الرئيس، ويرفعون التقارير بذلك . وكان الرئيسان الأب والابن والعائلة وأمريكا يتظاهرون بإخفاء تعرّق اللوحة الباردة ووقع الأقدام فوقها، لكن كانت تؤرّقهم كرامة العظمة السياسية الدولية في العالم آنذاك . تعيدنا هذه الصورة/الرواية إلى الحرب الأمريكية على العراق في العشرين من مارس/ آذار ،2003 التي تستمر تداعياتها فتهزّ القارة الآسيوية والعالم إلى زمن طويل .
بعد أسبوع كان السياسي اللبناني يستقلّ طائرته الخاصّة إلى بغداد، مروراً ببيروت، ويقابل صدّام حسين الذي رفض الطلب بسخرية لم يفصح عنها اللبناني للرئيس الأمريكي الابن . ماذا حصل بعد ذلك؟ يبدو بأنّ تلك الصورة تحوّلت خلال عشر سنوات إلى شبه أيقونة تجرح عنق الرئيس الأمريكي الذي لم يخلد منذ تسلّمه السلطة إلى النوم، وكان لا يواجه أرقه إلاّ في الاستغراق في كيفية نزعها مهما كلّفت من دماء، واتخذت تلك الصورة، في لحظةٍ ما، الهامش الشخصي الواسع الذي يفصل بين الحرب والسلم . لا يمكن لأحدّ في العالم أن ينسى صورة تمثال الرئيس صدّام حسين وهو يهوي في ساحة الفردوس في 9 سبتمبر/ أيلول ،2003 اعتبرها العالم التاريخ الأكبر في سقوط العراق ورئيسه . والمعروف أنّ صدّام حسين كان قد استبدل نصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس بتمثال شخصي له بلغ ارتفاعه 12 متراً بمناسبة عيد ميلاده الخامس والستّين .
تجمهر عراقيون حول قاعدة التمثال البرونزي الضخم للرئيس العراقي صدام حسين ورشقوه، ثم تسلّق أحدهم فوق كتفيه للوصول إلى التمثال . وضع حبلاً حول عنقه تمهيداً لشدّه نحو الأسفل . وبعد محاولات فاشلة سحب جندي أمريكي من جيبه علماً أمريكياً ليغطي به رأس التمثال نذيراً بإعلان إعدام الرئيس وهو فوق رافعة دبابة أمريكية، غير أن الحشود تذكرت عريها فهاجت وماجت وأصابعها ترتفع نحو العلاء تطالب بإنزال العلم الأمريكي ليحلّ مكانه العلم العراقي القديم من دون عبارة: الله أكبر التي أضافها إليه الرئيس العراقي، في جنوحه الإغرائي نحو الدين بعد حرب الخليج الأولى . كان لا بدّ من آلية تسقط التمثال في النهاية، وفق المخطط المرسوم . التوى وسقط عن قاعدته مؤلفا الصورة الحدث التي ذكرت العالم مباشرة بإسقاط جدار برلين أو سقوط عهد ستالين . وتابع العالم عبر الأقنية الفضائية لحظة بلحظة الصورة الحدث التي هوى فيها التمثال منذراً بسقوط بغداد . سقط التمثال في عين العالم ومعه سقطت بغداد وصدّام حسين، لكن جورج دبليو بوش كان ينتظر .
ماذا ينتظر؟
كان ينتظر اتّصالاً مباشراً من ضابط كلّفه هو شخصياً وسريّاً بمهمّةٍ سريّة تقضي بأن يقوم الضابط “الرقمي” بمساعدة فريق خاص بالذهاب إلى أمام فندق الرشيد وإزالة لوحة الفسيفساء كلّياً . نفذت المهمّة الساعة 17 بعد سقوط التمثال، واتّصل الضابط بالرئيس هاتفياً ليبلغه تنفيذ الأمر، فأمره الرئيس بإرسال صورة رقميّة بوساطة الأقمار الاصطناعية ظهرت فيها صورة بعض الجنود الأمريكيين أمام الفندق وقد أزالوا معالم وجه الأب ليبقى عنقه وكتفاه فقط .
ويتابع السياسي اللبناني بأنّ الرئيس جورج دبليو بوش أخلد بعدها إلى النوم، ليباشر مؤتمره الصحفي الذي جاء بعد ثلاثة أيام أي في 12 سبتمبر/ أيلول 2003 بقوله: “لا يمكن لأحد في العالم أن ينسى صورة صدّام حسين وهو يهوي في ساحة الفردوس” .
تلك هي المسافة الواقعة بين عين الشخص وعين العالم .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2183186

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

33 من الزوار الآن

2183186 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 33


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40