الجمعة 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2018

من فوائد ترامب

الجمعة 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2018 par أحمد مصطفى علي

ما إن تبدأ أي حديث مع مواطن أميركي في أي موضوع، ولو كان له علاقة بالمهنة وبالعمل، إلا وينتهي إلى الحديث عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ومن خبرة السنوات الطويلة يمكنني القول إن ذلك أمر جديد تماما، وإن كان صحيحا أن تتحدث مع أميركيين في السياسة فإنها في الأغلب ما تدور حول السياسة الأميركية في المنطقة ـ من أفغانستان إلى العراق وسوريا وليبيا، وقبل ذلك طبعا فلسطين حين كانت قضية العرب. ونادرا ما كان أي حديث بين أميركي وعربي هنا في منطقتنا يتطرق لأمور داخلية أميركية (أقصد في السياسة وليس في الطقس والتسوق)، وهذا هو الجديد. فإن لم تبدأ أنت بذكر ترامب، ذكره الأميركي حتى لو لم يكن صحفيا أو يتطلب عمله علاقة بالسياسة. وتلك في تصوري نتيجة جانبية في غاية الأهمية.
يمكنك أن تقول ما تشاء في الرئيس الأميركي الحالي، فهو أولا ليس سياسيا ولا حتى له علاقة بالبيروقراطية الحكومية إذ إنه لم يتول أي منصب رسمي في حياته. وهو ليس بدبلوماسي، ولغة خطابه أقرب لكونها “شوارعية”، وينفعل بشدة ويهدأ مرة أخرى وربما يقرر أمرا في انفعال ويتراجع عنه بعد ذلك حين يهدأ. وهو رجل أعمال من نوع هؤلاء المقاولين الذين يجرون وراء الربح السريع وليس أولئك “الاستراتيجيون” الذين يخططون للمدى الطويل. كما أنه لا يخفي أن ما يهمه في الدنيا هو المال والسلطة. أما فيما يخص المنطقة، فالرجل ليس له سياسة واضحة محددة سوى أنه يريد أن يعطي اسرائيل أكثر مما تطلب ولا يرى أن هناك “مشكلة فلسطينية” ولا يعتبر العرب سوى “محافظ نقود” يريد الاستيلاء عليها، و.. و.. الخ.
حتى كثير من الأميركيين، ومنهم من صوتوا له في انتخابات الرئاسة عام 2016 من قبيل “التغيير والاعتراض على المؤسسة”، يعدد لك مثالب الرجل وتأثيره السلبي على السياسة الأميركية عموما والداخلية منها بخاصة. فالرجل يدير الدولة وكأنها شركة مقاولات وهو الرئيس التنفيذي وحكمه على المسؤولين شخصي تماما ولا علاقة له بالكفاءة والمهنية وتفكيره أقرب لرد الفعل على الآخر منه للمبادرة بسياسة محددة .. وكثير مما تسمعه من الأميركيين. هذا على الرغم من أن هؤلاء المواطنين الأميركيين يتمتعون الآن بفوائد اقتصادية لم يحققها رئيس آخر في أول عامين من حكمه: اقتصاد نشط وقوي، وسوق مال في صعود، وخفض للضرائب وتراجع لمعدلات البطالة، وزيادة في معدلات الأجور …
إلا أن ترامب له فوائد كثيرة، تتجاوز حتى ذلك الانجاز الاقتصادي وتنفيذه لوعوده الانتخابية، وربما يكون أولها وأهمها ما ينتقده الأميركيون من أنه “صدم المؤسسة صدمة هائلة هزت أركان السياسة”. وهذا بالضبط ما كانت تحتاجه مؤسسة السلطة والحكم في الديموقراطيات الغربية للخروج من أزمة تراجعها وضعفها. وسبق أن كتبت في هذه الزاوية عن تراجع المؤسسة، مشيرا إلى بريطانيا باعتبارها نموذجا للديموقراطيات الغربية، والواضح أن ما يفعله ترامب في أميركا ربما يؤدي إلى استعادة المؤسسة حيويتها (بشكل جديد ومختلف) يجعل من واشنطن نموذجا بديلا للندن. صحيح أن صعود تيار “الشعبوية” في السياسة على حساب التيارات التقليدية يعتبره البعض خطرا يهدد الديموقراطية الغربية في أساسها، بل وربما النظام الرأسمالي بكل أركانه، لكن ذلك نهج لن يستمر طويلا وربما كان ضروريا لحرف عصا النظام بشكل متطرف في الجهة الأخرة بعدما مالت كثيرا حتى كادت تقع. وفي النهاية سيؤدي التأرجح إلى استقرار وسطي جديد تماما.
من فوائد ترامب الأخرى، والتي ربما تخصنا في منطقتنا وآسيا وافريقيا أكثر من الغرب، أنه يتصرف بطريقة تجعل من نتائجها الجانبية تجاوز الحكمة التقليدية “أميركا تحكمها مؤسسات، وليس رئيس مطلق”. إذ إنه شيئا فشيئا، ومع محاولة المؤسسات التوصل لطريقة وسط للتعامل مع الرئيس واستيعابه، يتجه نحو جعل البلد هو الرئيس والرئيس هو البلد. وفي إدارته للأمور، خاصة الاقتصادية منها، يتصرف ترامب بهدف تحقيق مكاسب له ويراها في النهاية مكاسب للوطن. سيحاجج البعض طبعا بأن ذلك “ينسف أساس الديموقراطية الغربية”، ولربما يكون ذلك صحيحا نسبيا لكنه في النهاية لا يطال الأسس: فالرئيس هو المنتخب إنما المؤسسات معينة وتستمر بالترقي الوظيفي. والأرجح أن ترامب بنهاية فترة رئاسته الأولى سيكون أوصل الأمور إلى موضع وسط بين السلطة المطلقة والسلطة الدستورية المستندة للقانون.
ولهذا الناتج الجانبي أهمية خاصة، إذ إن ترامب هكذا يقرب ما بين أميركا وبين بقية دول العالم مثلما في منطقتنا (أو ما يسمى العالم الثالث أو النامي) التي تدار بسلطة أقرب للمطلقة ويكاد فيها الوطن والرئيس (أو الحاكم أيا كانت تسميته حسب النظام المعتمد في البلد) يكونان واحدا. وهكذا يذيب ترامب ـ ربما دون قصد ـ من الفوارق بين أميركا وكثير من دول العالم التي طالما كانت تعظها واشنطن بشأن أساليب الحكم وإدارة شؤون البلاد. وربما كان الحاكم الوحيد الذي سبق ترامب في ذلك النهج هو رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني الذي تولى رئاسة الوزراء ثلاث مرات في نهاية القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. قد يرى البعض أن المشترك بين ترامب وبرلسكوني هو المال والنساء، لكن المشترك الأهم هو هز كل منهما للمؤسسة بشدة ومحاولة “تغيير السياسة جذريا”. إلا أن برلسكوني، الذي يستثمر في إعلام وكان نائبا في البرلمان، لم يكن من خارج المؤسسة تماما كما هو حال ترامب. كذلك فإيطاليا ليست أميركا كي تكون فوائد حاكمها، ايا كان، كفوائد ترامب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2184545

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع احمد مصطفى   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184545 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40