المُسَلَّمة السائدة اليوم أن المسلمين هم الذين يرفضون الديمقراطية، هم غير القادرين على أن تكون لديهم حكومات شرعية، هم الذين لا ينفع معهم سوى الاستبداد، هم الذين يُنتِجون العنف والإرهاب... يتم الارتكاز عليها في كثير من الأحيان ـ وخلطها بالإسلام ـ للتعامل مع واقعنا السياسي، وتكريس ودعم أنظمة استبدادية ببلادنا، والاعتراف بالانقلابات الديكتاتورية، والوقوف إلى جانب أنظمة ملكية بائدة لم يعد لها مثيل اليوم...
هذه المُسَلّمة، بدل أن نقوم نحن بتفنيدها على جبهة الصراع الفكري، ترانا نميل إلى التصديق بحق أننا مثل ما يزعمون، وتتعالى من بيننا أصوات تقول: لا حل لنا إلا في الاستبداد، وقد خُلقوا هم للديمقراطية...
قديمٌ هو الموقف الذي يرى أن الشعوب غير الأوروبية لا ينفع معها إلا الاستبداد، منذ أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد الذي تحدث عن تفوق اليونانيين على غيرهم من الشعوب، إلى فوكو ياما اليوم الذي يعتبر أن آخر ما يمكن أن تتوصل إليه البشرية هو الديمقراطية الليبرالية التي ابتكرها الغرب ولا بديل للبشرية عنها... سلسلة الفكر السياسي الغربي تسير بهذا الاتجاه إلا استثناء عندما يتم الاعتراف بدور الإنسانية في التقدم في هذا العصر أو ذاك، أو عندما يتم نقد الحضارة الغربية من الداخل ويجري التبشير بقرب نهايتها على نموذج (شبنلغر ـ أفول الغرب )، (غينون ـ أزمة العالم المعاصر)، وأخير على نموذج “اللورد لوتيان” كما بدأنا تحليل مواقفه في الأسبوع الماضي.
وبالرغم من الاستثناءات هذه في تطور الفكر السياسي الغربي التي نحن في حاجة ماسة إليها اليوم، لإحداث توازن ولو طفيف على جبهة الصراع الفكري، إلا أننا نادرا ما نوليها العناية الكافية ونعطيها حقها من التحليل والتعليق...
لنعود إلى اللورد لوتيان وهو ينتقد الديمقراطية الغربية في محاضرته (كيف فقد الغرب الشرق - الأوسط) التي أشرنا إلى السياق الذي جاءت فيه في الأسبوع الماضي، ما الذي يقدمه لنا كحجج؟
ـ بداية يتساءل المؤلف: لماذا يكرهنا العرب ولماذا يفرحون عند قيام عمليات إرهابية ببلادنا؟
بداية يتساءل المؤلف: لماذا يكرهنا العرب ولماذا يفرحون عند قيام عمليات إرهابية ببلادنا؟ ولا يتردد في الإجابة بالقول إن العرب أكثر من يعرف أننا كثيراً ما خُنَّا الثقة التي وضعوها فينا.. أننا تعاملنا مع شعوبهم باحتقار واضح وغازلنا قادتهم ثم قُمنا بدعمهم ثم تركناهم ينهارون.
ولا يترد د في الإجابة بالقول أن العرب أكثر من يعرف أننا كثيرا ما خُنَّا الثقة التي وضعوها فينا..، أننا تعاملنا مع شعوبهم باحتقار واضح وغازلنا قادتهم، ثم قُمنا بدعمهم، ثم تركناهم ينهارون (ص57)، إننا لم نميز بين الإسلام والإسلاموية، ولم نُدرك مفهوم الأمة لديهم، كما لم نُدرك أنهم قَبلونا بعد الحرب العالمية الأولى ليس حُبًّا فينا إنما اعتقادا منهم أننا سنكون أفضل من الأتراك، فإذا بنا نخونهم، حيث بعد أن تمت مغازلتهم في هذه الحرب للوقوف إلى جانب الحلفاء في آسيا الوسطى وشبه الجزيرة العربية لتحطيم سكة حديد الحجاز والمساعدة على السيطرة على دمشق، دشن الغرب وبالتحديد فرنسا وبريطانيا حقبة ما بعد الإمبراطورية بمزيد من العجرفة والرغبة في التوسع تجاههم... بدل التعاون والاعتراف بالحقوق، كان التخطيط منذ البداية ضدهم من خلال ما قام به كل من سايكس الإنجليزي وبيكو الفرنسي بإبرام اتفاقية تقسيم العالم العربي (التي عرفت باتفاقية سايكس ـ بيكو)، ومن خلال إعلان بلفور الإنجليزي وعده المشؤوم لليهود بإقامة كيان سياسي لهم في فلسطين... تلك كانت المكافأة والدليل على الخيانة..
وقد استمرت تلك المنهجية إلى اليوم، يضيف اللورد لوتيان، إلى أن وصلنا مع ما سُمي بالربيع العربي إلى حقبة سايكس بيكو جديدة، حيث يجري تقسيم العالم العربي سرا وعلانية إلى مناطق نفوذ جديدة بعد الإطاحة بصدام حسين في العراق وبالعقيد القذافي في ليبيا ومحمد مرسي في مصر والسعي إلى إحداث ذات الشيء في باقي البلاد العربية...
لماذا نكرر الخطأ؟ يتساءل المؤلف..
ويجيب: إننا لم نرد أن نحفظ الدرس الذي قدَّمه لنا التاريخ: أن القوى العظمى لم تتمكن أبدا من فرض تقاليدها ومعتقداتها على شعوب أخرى، من السلم الروماني إلى السلم البريطاني إلى الخلافة الإسلامية العالمية إلى السلم الأمريكي، جميعها لم تتمكن من طبع نظامها الجيني على الشعوب التي سيطرت عليها (ص63)، فكيف بالغرب يستطيع ذلك وهو الذي أضاع الفرصة حقيقة بعد سقوط الخلافة، وبدل أن يُصبح صديقا حقيقيا للأمة العربية وقوة حقيقية للخير والتقدم لكل المنطقة، قام بتفجيرها من البداية، وها هو اليوم يدفع الثمن؟ كيف أخطأنا لهذه الدرجة سواء في إدراك الحقيقة، أم في الواقع؟ السبب بسيط يقول: “إنما هي العجرفة، الاحتقار، الخيانة، الطمع، الأحكام المسبقة، الخطأ في التقدير، عدم القدرة على التعلم من أخطائنا”...
هل صحيح أن المشكلة تكمن في الغرب وأن تلك المسلمة التي تقول بأننا لسنا أهلا للحرية والديمقراطية وما نحن إلا شعوب عنف وقابلية للاستعباد والاستبداد، هي مُسلّمة كاذبة.. ومن قام بتكذيبها؟ هل نحن، أم الغربيون أنفسهم؟
يبدو أنه علينا أن نتوقف ولو للحظة عند هذا الحد بالذات، عن اعتبار الآخر دوما متفوقا ويعرف ما يريد، في حين نسير نحن باستمرار على غير هدى لا نعرف أين.
كيف بالغرب يستطيع ذلك وهو الذي أضاع الفرصة حقيقة بعد سقوط الخلافة، وبدل أن يُصبح صديقا حقيقيا للأمة العربية وقوة حقيقية للخير والتقدم لكل المنطقة، قام بتفجيرها من البداية وها هو اليوم يدفع الثمن..
إن رفض اتجاهات فكرية للديمقراطية في بلادنا لا يمكن أن نعتبره غير مبرر تماما، وها هو أحد الساسة الغربيين المرموقين يتساءل بنفسه: كيف للمسلمين أن يقبلوا بالديمقراطية وهم الذين رأوا كيف تمت الإطاحة بأول نظام منتخب ديمقراطيا في العالم الإسلامي في عهد مصدق سنة 1952 بإيران، وتم استبداله بحكم شاهنشاهي دكتاتوري خدم مصالح الغرب بكل الوسائل إلى أن أطاحت به الثورة الإسلامية سنة 1979؟ كيف بهؤلاء أن يقبلوا بالديمقراطية وقد أيدوا الإطاحة بالإسلاميين في الجزائر في انتخابات 1992؟ كيف يقبلوا بها وهم يرون كيف تمت الإطاحة بالأمس القريب بالرئيس المنتخب ديمقراطيا في مصر محمد مرسي، وتأييد حكم عسكري انقلابي بديلا عنه بحجة أن الرئيس المنتخب من الإخوان المسلمين؟ كيف للمسلمين أن لا يرفضوا هذه الديمقراطية التي ينبغي أن تكون على مقاس معين وتحقق أهدافا معينة أو يتم الانقلاب عليها؟ بل كيف يقبل المسلمون بهذه الديمقراطية التي تضع رئيسا على رأس أكبر دولة ديمقراطية في العالم عن طريق التزوير المفضوح؟ ألم تمنع المحكمة الفدرالية الأمريكية بعد 36 يوما من الانتخاب إعادة فرز الأوراق الانتخابية في فلوريدا في انتخابات 07 نوفمبر 2000 لتمكين بوش الابن من الفوز على آلغور من خلال التزوير رغم أن هذا الأخير كان متقدما على بوش الابن بـ337000 صوت على مستوى كل الولايات المتحدة الأمريكية؟
ألا يكفي هذا لتغذية شعور لدى المسلمين برفض الديمقراطية؟
وعندما يضاف إلى كل هذا ذلك الشعور بأن الغرب لا يعير أية أهمية لحياتهم في كل بلاد دخلتها قواته، في العراق أو أفغانستان أو ليبيا أو اليمن أو سورية، وكيف تستخدم الطائرات بدون طيار لقتل الأرواح البريئة بحجة مكافحة الإرهاب كما كشف ذلك إدوارد مانينغ لويكيليكس في 21 أوت 2013 من خلال فيديو لغارة أمريكية في 12 جويلية 2007؟ أو كما تفعل الطائرات الأمريكية بدون طيار اليوم في اليمن وسورية وشمال العراق؟
ألا يؤدي ذلك إلى تغذية جبهة الصراع الفكري بعوامل هي أبدا ليست من صنع المسلمين تضاف إلى تلك العوامل التاريخية التي صنعها الغرب. أليست مُسلَّمة الإسلام والمسلمين أصل الداء خاطئة بالأساس بشهادة شاهد من أهلها؟
أظن أنها تلك هي الحقيقة...