احتاج القادة الأوروبيون وروسيا الاتحادية إلى جلسة مباحثات ماراتونية دامت 16 ساعة، للتوصل إلى اتفاق جديد لوقف القتال في أوكرينيا، ينقذ ما يمكن إنقاذه، ويبعد في المقام الأول شبح المواجهة العسكرية المباشرة بين أوروبا وروسيا، كما كانت تدفع إليه الولايات المتحدة الأمريكية.
اتفاق“مينسك” الذي أوقف القتال في أوكرينيا بشروط روسية واضحة لا غبار عليها، قد لا يعنينا كثيرا نحن العرب المصابين بوباء الفوضى الأمريكية الخلاقة، لولا أنه يكشف مرة أخرى كيل الغربيين بمكيالين، وقد رأيناهم يُشعلون فتن الحروب في بلداننا، ويمنعون شعوبها من معالجة نزاعاتها بطرق الحوار، كما منعوا العرب من تسوية النزاع السوري وهو في بدايته، وفجروا المبادرات العربية والإفريقية لمنع تفاقم القتال في ليبيا، ومازالوا يعوّقون جهود الجزائر وبعض الأفارقة في معالجة مخلفات التدخل الغربي في ليبيا ومالي.
من الناحية الجيوـ استراتجية كانت الحالة الأوكرانية أكثر تعقيدا من الحالتين السورية أو الليبية، لأنها كانت ستفتح بوّابة المواجهة العسكرية بين القوى الأطلسية وروسيا، وقد أحيت ما يشبه الحرب الباردة بين الغرب والدبّ الروسي، وكلفت الطرفين الروسي والأوروبي مليارات الدولارات من جهة تبعات المقاطعة الاقتصادية، وشجعت كثيرا من المحللين الاستراتجيين على القول باحتمال قيام حرب عالمية ثالثة.
الأوروبيون الذين استسلموا أمس الأول لإملاءات بوتن، كانوا قد تقدموا من قبل إلى أقرب نقطة ممكنة من حافة الهاوية، وعاقبوا أنفسهم بمجاراة الولايات المتحدة في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا أفقدتهم واحدا من أهمّ أسواقهم، وكانوا سيمضون في إدارة نزاع مستدام بوتيرة منخفضة، لولا القرار الأمريكي الأخير بتزويد قادة كييف الجدد بالأسلحة، الذي رأى فيه الأوروبيون ـ وخاصة ألمانيا ـ خطوة حقيقية نحو توريط أوروبا في حرب مدمرة مع روسيا.
الحدث الثاني الذي يكون قد حفز الأوربيين على الدخول في مفاوضات جديدة، والقبول بذات الشروط الروسية التي رُفضت من قبل، هو ما حصل في اليونان مع حكومة جديدة منفلتة العقال، خيّرت أوروبا بين مسح ديونها، أو اضطرار اليونان إلى الارتماء في أحضان روسيا والصين، ولم يكن بوسع أوروبا إدارة الأزمة القادمة مع اليونان في جو المواجهة المفتوحة مع روسيا في أوكرينيا.
ولأول مرة منذ عقود تتجرأ أوروبا على استبعاد حليفتها الولايات المتحدة من صياغة قرار الحرب والسلم، بل يأتي اتفاق“مينسك” ليقوّض جهود أوباما، ويجمد واحدا من أهم المسارات التي فتحتها الولايات المتحدة لتطويق اندفاع الدب الروسي، بعد أن فشلت في تطويع بوتن في الملف السوري.
الاتفاق قد يعنينا من جهة إمكانية الاشتغال مستقبلا على التناقضات داخل المعسكر الغربي، والرهان ـ كما فعل الروس ـ على الحلقة الأضعف فيه، مع اتحاد أوروبي غارق في مشاكله الهيكلية والمالية، بتشجيع الأوروبيين على التحرّر من الهيمنة الأمريكية والصهيونية، وحملهم في الحد الأدنى على الحياد في بؤر النار التي أوقدها الأمريكيون والصهاينة في منطقتنا.
وفي كل الأحوال فإن اتفاق“مينسك” يؤرّخ فعلا لبداية نهاية عصر التفرّد الأمريكي بقرار الحرب والسلم، ويعد بقرب ميلاد عالم متعدد الأقطاب، يمنح الدول الضعيفة فرص المناورة كما كانت في زمن الحرب الباردة، وقد يمنح فرصة جديدة لإعادة بناء مجموعة دول عدم الانحياز؛ التنظيم الوحيد الذي أفرد للعرب دورا قياديا مع عبد الناصر وبومدين.