أياً تكن ملاحظات المرء على مستوى أداء الفئات المتعلمة الوسطية الناقلة للمادة المعرفية إلى الجمهور، ومهما بلغت المؤاخذات عليها وعلى قصورها في تقديم قدر مقبول من المعارف في مسائل الدولة والسلطة ونظرتيهما إليه، فإن الذي لا يقبل جدلاً أن بعض ذلك القصور ليس ذاتياً، ولا يمكن رده إلى مستوى الأداء ولا إلى مستوى التكوين لدى تلك الفئات، وإنما يعزى - في المقام الأول - إلى شحّة المادة الفكرية التي يمكن نقلها من مصادرها إلى جمهور القراء الأوسع . يتعلق الأمر، إذاً، بخلل في جهة الإصدار لا بعطب في عمل شبكة التوزيع . وليست جهة الإصدار، التي نعني، سوى الباحثين الذين يتناولون مسائل الدولة والمجال السياسي، ويكتبون فيها . وقد لا يكون موطن الخلل، في عمل هؤلاء، في غموض المادة الفكرية التي ينتجونها، وتعسر تلقيها على الفئات الوسطية، وإنما قد يكون - وهذا هو الأرجح عندنا - في ندرة تلك المادة الفكرية وضعف مستواها، الأمر الذي ينعكس - تلقائياً - على مستوى عمل من يقومون بدور نقلها وإشاعتها في أوساط القراء .
تكاد هذه الملاحظة أن تكون غير ذات موضوع حينما يتعلق الأمر بأعمال الكُتّاب والباحثين الغربيين المكرسة لتناول مسائل الدولة والسلطة والمجال السياسي . ولكن الواضح أن أكثرها لا يصل إلى القارئ العربي، إما لأنها غير مترجمة إلى اللسان العربي، أو لأن ترجمة ما تُرجم منها سيئة، أو لأن عطباً في وظيفة الوساطة حصل لسبب من السببين المذكورين أو لهما مجمعين . لكن الملاحظة إياها تصبح شرعية تماماً في حالة التأليف العربي في المسائل الآنف ذكرها، فإلى قلته وندرته، يبدو ضعيفاً من الوجهة المعرفية والمنهجية وغير مقنع، ولا يغطي حاجة، تتزايد باستمرار، إلى حيازة معرفة رصينة بمجال السياسة في مجتمعاتٍ تتنفس السياسة من فرط أهوالها فيها!
الغالب على ذلك التأليف أنه جامعي أو مدرسي . لذلك السبب يأخذ شكلاً وصفياً واستعراضياً، وأكثره ملخصات لكتب أو موسوعات موضوعة بلغات أجنبية، الغرض منه توفير مادة مدرسية للطلبة . وأكثر المنشور، في هذا المجال، ينتمي إلى دائرة العلوم السياسية و- إلى حدّ ما - إلى مجال الدراسات القانونية الدستورية . أما في ميداني الفسلفة وعلم الاجتماع السياسي فالمنشور، في الموضوع، قليل ونطاقه لا يكاد أن يتجاوز، هو أيضاً، الملخصات وإن كانت فائدته أجزل من الأول، على الأقل لأنه يَصِل قارئه بمصادر الفكر السياسي الفلسفية والسوسيولوجية . أما الكتابة التي لا تلتزم بأصول البحث العلمي، وتنحو منحى دراسياً أو وصفياً “حراً”، أي غير مقيّد بالضوابط المنهجية المألوفة في ميدان البحوث، فهي أكثر المنشور فيه موضوع الدولة في البلاد العربية . والملاحظ على هذا النوع من المواد المكتوبة عن الدولة أنه لا يتناول موضوعه تناولاً فكرياً وبلغة نظرية، ولا يجرّد مسألة الدولة ليفهم الظاهرة في كليتها، وإنما يقاربها في أوضاع منها متعينة، ولكن لا بمعنى دراستها بمنطق دراسة حالات، وإنما بمعنى الانصراف إلى تناول سياسات الدولة في قضايا بعينها: الأمن، التنمية، العلاقات الدولية، الأزمات الإقليمية . . إلخ، وغني عن البيان أن مناقشة السياسات العليا لدولة، أو سياسات النظام السياسي الحاكم فيها، (هي) غير تحليل الدولة وفهمها كظاهرة اجتماعية وإنسانية .
غير أن الملاحظ على هذه الأنواع من التأليف كافة، ما أخذ منها بالتقاليد الأكاديمية الجامعية وما لم يأخذ، أنها تفتقر إلى مطلبين لا قيام لإنتاج عملي حول مسألة الدولة من دون توافرها: أولهما اللغة النظرية المفهومية، فأكثر ذلك التأليف خلو من تلك اللغة ويغيب فيه البناء النظري للموضوع المدروس، والحال إن مسألة الدولة من جنس المسائل التي لا تقبل التفكير فيها ومقاربتها إلا بجهازٍ مفاهيمي متعدد المصادر والمرجعيات (فلسفة، علوم اجتماعية، علوم إنسانية)، وثانيهما - وما فتئنا ننبّه عليه في مناسبات عدة - الوضوح الكافي في المفاهيم وللمفاهيم، إذ الغالب على التفكير في الدولة خلطه الفاضح بين مفهومها ومفاهيم السلطة والنظام السياسي والمجال السياسي، ما يترتب عليه أخطاء فكرية فادحة سرعان ما تترجمها السياسة إلى خيارات خاطئة، و- أحياناً - خطرة . وغني عن البيان أن الافتقار إلى المطلبين إنما يرد إلى الفقر الفادح في الصلة بالمصادر الكبرى للفكر السياسي: الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة، لدى من يتصدون للكتابة في الموضوع .
عليّ، هنا، أن أستدرك بالقول إن الملاحظات السابقة تنطبق على الأكثر لا على الجميع، وإن بعضاً - وإن كان قليل العدد - من الباحثين العرب قدّم مطالعات فكرية عميقة لمسألة الدولة تستجيب لمعايير البحث العلمي ومقتضياته، وتقدّم وعينا بصلاتها العضوية بالمجتمع والثقافة والإنتاج والدين والقيم، وبتاريخها الخاص في مجتمعاتنا . والإنصاف يدعونا، في هذا المعرض، إلى ذكر أسماء من كانوا في جملة أولئك الباحثين المميزة نصوصهم في الدولة: عبدالله العروبي، جورج قرم، مهدي عامل، غسان سلامة، أنور عبدالملك، عزيز العظمة، خلدون حسن النقيب، برهان غليون، ناصيف نصّار .
الاثنين 8 كانون الأول (ديسمبر) 2014
مازال التفكير في الدولة سطحياً
الاثنين 8 كانون الأول (ديسمبر) 2014
par
د. عبد الاله بلقزيز
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
29 /
2188190
ar أقسام منوعات الكلمة الحرة كتّاب إلى الموقف عبدالإله بلقزيز ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
17 من الزوار الآن
2188190 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 17