ما أصعب الكتابة عن مصر في هذه الأوقات العصيبة.. وما أصعبها على كاتب مثلي يعرف أن سوء الفهم هو المسيطر على المناخ السياسي والثقافي ويعرف أن لا أحد يقبل بالتسليم بروايته كاملة وأن المطلوب فقط الاصطفاف الكامل لهذا الطرف أو ذاك.. والأخطر لكاتب مثلي تعيش نصف أسرته في غزة ونصف آخر موزع في بلاد الناس لا يستطيع أن يجتمع بهم في مكان ما في عيد أو رمضان أو ذكرى ما بل والأسوأ أن تأتيه أخبار من يتوفاهم الله من ذويه في غزة وهو لا يستطيع أن يلقي عليهم نظرة وداع.. رغم ذلك كله، فإن مصر تستحق مني التضحية والكتابة، فلكم منحتنا من دمها وتضحياتها الكثير دفاعا عن العروبة والإسلام وعن فلسطين.. فوفاء لشهدائها العظام ولشعبها الطيب ولتاريخها المجيد، أجد نفسي مدفوعا إلى الكتابة لها وعنها، فهي تهمني وتهم كل مهموم بقضايا الأمة وفلسطين.
في مصر، لا لغة اليوم في معالجة ملف التنازع الداخلي إلا لغة الموت والقتل والإعدام.. في سيناء وقاعات المحاكمات ولغة كثير من الإعلاميين والمثقفين المصريين.. ومما لا شك فيه أن هذا لن يفيد إلا العدو الذي يتربص الدوائر بمصر بشعبها وقواها الحية وجيشها.. فبعد أن تم الفتك بالجيش العراقي وإشغال الجيش السوري وإنهاكه وإشغال السودان بجنوبه وانشقاقاته وإغراق ليبيا في مستنقع الفتنة وقذف الحمم في اليمن وتحرشات إثيوبيا.. تصبح مصر مطوقة من كل جهة سياسيا وأمنيا وجبهات الخطورة تحيق بها على أكثر من صعيد.. والعدو الصهيوني يتابع ويؤجج الصراع حولها وفيها.. وإن المتابع لما يكتبه المحللون الصهاينة والاستراتيجيون عن مصر يكتشف حجم التشفي والارتياح لما عليه الأوضاع.
إن من تأمل مخطط العدو في المنطقة العربية يكتشف بسهولة أنه لن يكون مقبولا وجود دولة عربية قوية متماسكة، فلقد تجاوز الأجانب المستعمرون مرحلة “سايكس بيكو” إلى مرحلة أخطر، إنهم لم يكتفوا بتقسيم وطننا العربي إلى أقاليم متنافرة، بل إنهم يعمدون الآن إلى تقسيم كل إقليم إلى إثنيات جديدة مذهبية وجهوية وفئوية وسياسية.. والعاصم من هذه الفتن هو جيوش قوية متماسكة ومجتمع ملتف حول مؤسساته وتنفيس الاحتقانات الداخلية.
ليس مفيدا هنا ذكر أخطاء هذا الطرف أو ذاك في عناصر التنافر في مصر.. المهم تأكيد حقائق من الأهمية بمكان استشعارها وحضورها لدى الجميع. أولا أن الجيش المصري عماد الدولة والمجتمع وهو مطلب وطني وقومي لا بد أن يكون حاضرا في كل شؤون الحياة حاميا لمصر ومنفذا لإرادتها في صون الأمن القومي وهو أكبر الجيوش العربية وأقدرها وهو أكثرها خوضا للمعارك ضد الجيش الصهيوني وهو الجيش الذي أبلى في معاركه بلاء عظيما وهو أحد أهم إنجازت الدولة والمجتمع في مصر..
وفي مصر كذلك حركة “الإخوان المسلمون” وهي أكبر تنظيم اجتماعي سياسي في مصر وفي الوطن العربي بل لعلها التنظيم الأكثر انتشارا في العالم الإسلامي وقد تكون تحصلت على مرجعية العمل السياسي الإسلامي في الوطن العربي بتشعباتها وتمددها في شتى المجالات والفئات الاجتماعية.. بمعنى أصح أن في مصر أقوى الجيوش العربية وهو على قدر عال من الدقة والتنظيم والتدريب. وفي مصر كذلك أكبر تنظيم سياسي عربي ومن هنا كان العدو يبحث باستمرار عن ثغرات لإحداث التصادم بين مكونين كبيرين حاسمين.. جربوا ذلك في مرحلة عبد الناصر ولم يكن من نتائج التصادم إلا الخسران للجميع والنكسة والانهيار الاقتصادي والاجتماعي.. وفي حينها كانت دول الرجعية العربية والدول العظمى تغري هذا الطرف بذاك.. والآن تبدو حالة التنافر قد وصلت إلى كسر العظم، ولكن ما يمكن استدراكه اليوم قد يصعب استدراكه غدا.
إن العدو الأساسي لمصر هو من يمنعها من نهضتها ويحرمها من دورها الإقليمي.. إن العدو الأساسي لمصر هو من يتربص بها الدوائر لإحداث الخلل الاستراتيجي فيها بين مكوناتها السياسية والدينية والجهوية.. وإن الاستراتيجيين المصريين وهم متواجدون بلا شك في مراكز القرار ودعمه في الدولة العربية يدركون أن هناك مؤامرة ضخمة على مصر لتهميشها وجعلها لاحقا سياسيا بسياسات هوجاء في المنطقة وإغراقها في مشكلات معقدة داخليا وخارجيا.
وهنا لابد من التأكيد على أن الإخوان المسلمين مهما بدت من ممارساتهم من أخطاء تكتيكية واستراتيجية، فإنهم بلا شك مصريون وهم يتنشرون في أوساط المجتمع المصري جميعها، وهم قوة حقيقية لا يمكن أن يكون الموت والإعدام قادرا على إنهائهم، فضلا عن كونه أسلوبا غير مجد وغير مفيد.. في اللحظة نفسها لابد من التأكيد أن الجيش المصري والمؤسسة العسكرية المصرية ليست هامشا في الموقف القرار بل هي أهم عنصر في أهل الحل والعقد في مصر ولن يكون صندوق الانتخاب التعيس بديلا عنها..
من هنا وفورا نريد التأكيد أن المعالجة الأمنية لملف العلاقة بين المؤسسة العسكرية المصرية وحركة الإخوان المسلمين ليست هي النموذج الأفضل للخروج من أزمة التشابك، وأن التجربة المحلية والتجارب العديدة في الإقليم أثبتت فشل ذلك.. كما أن هذه المعالجة ستصبح بيئة مثالية لتنامي قوى العنف وتسلسلاتها في شتى الأماكن وستكون حاضنة مثالية لتنامي روح الثأر والتخريب غير المسؤول، وهي كذلك ستكون بيئة لاختراقات العدو بأجهزته وخلاياه النائمة لتعقيد الموقف وتعفينه.
إنه لأمر محزن ألا تتحرك قوى وجهاتٌ إقليمية- من دافع الحرص على مصر ودورها- لتقريب وجهات النظر وإخراج مصر من كمين يراد لها لإغراقها في بحر الفتن.. إنه لمحزن حقا أن ينقسم الناس حول مصر بعضهم يحرّض زيدا على عمرو والآخر يغري عمرا بزيد.. حتى كدنا لا نستطيع التقاط كلمات فيها الخوف على مصر ومستقبلها..
أجل، إن دماء سُفكت وإن أرواحا أزهقت.. وإن ألما لحق بالجميع ولكن إلى أين تتجه مصر في هذه الدوامة؟ إنه من المحتمل لا سمح الله أن تصبح مصر أكثر عنفا وأكثر توترا وأكثر مدعاة إلى التناحر الدامي.. وأن الأعداء يرون في ذلك الفرصة الحقيقية لمنع مصر من القيام بدورها والانعتاق من كبوتها..
لذا، فإن الموت لن يكون هو الحل.. الحل في الحياة وإصلاح ذات البين والمبادرات الإيجابية لنزع الفتيل وإطفاء النيران.. فمن يبادر فيكون له الفوز برضى الله ويكون له الفوز بمصر كبيرة وقوية؟ من يبادر من العرب والمسلمين لرأب الصدع وجمع الصف والخروج من التعقيد بلغة الأخوة الوطنية؟ إنه التحدي الملقى على الجميع.. وليس سواه حل.. تولانا الله برحمته.