مؤتمر جنيف، لتسوية الأزمة السورية، معلق على خشبة الأزمة الأوكرانية والخلاف الروسي - الأمريكي حولها، ولن يستأنف - إذا ما كان له أن يستأنف - إلا متى أصاب العلاقة بين الدولتين بعض من الصفاء والثقة المتبادلة . وحتى ذلك الحين، في وسع روسيا أن تنعم بشبه جزيرة القرم، وأن تستفيد من عصيان حلفائها في الشرق الأوكراني، وسيطرتهم على المؤسسات الرسمية، لممارسة المزيد من الضغط على النظام القائم في كييف، وفي وسع سوريا تنظيم انتخابات رئاسية، قبل أي اتفاق في جنيف، وتقديم ترشيح الرئيس بشار الأسد ثم انتخابه للرئاسة . في المقابل، يسع الولايات المتحدة الأمريكية أن تكثف الضغوط والعقوبات على روسيا، وأن تستنفر حلفاءها الأوروبيين لاتيان المزيد من سياسات الحصار، مثلما يسعها أن تسلم البعثات الدبلوماسية السورية، التابعة للدولة، إلى بعض المعارضة على مثال ما فعلت فرنسا قبلها، الجميع يلعب في غيبة من قواعد الوفاق لأن السياسة، مثل الماء، تتدفق ولا تقبل الفراغ كما الطبيعة لا تقبله في نظر أرسطو .
وانتخابات الرئاسة في لبنان معلقة على خشبة الخلافات العميقة بين فريقي 8 آذار و14 آذار، ومعلق التوافق فيها على رئيس للجمهورية على التوافق السعودي - الإيراني، الذي كان حصوله قبل أشهر - ولو جزئياً - هو ما فتح الباب أمام تشكيل حكومة المصلحة الوطنية، التي يرأسها تمام سلام، بعد طول جمود وركود منذ استقالة رئيسها السابق نجيب ميقاتي . وحتى ذلك الحين، حتى تتجه الرياح الإقليمية وجهة التفاهم بين الرياض وطهران، لا بأس من أن تقوم المؤسسات اللبنانية بمحاولة اجتراح المستحيل في غيبة من التفاهم الإقليمي، والتوافق الداخلي، لا بأس من أن يلتئم المجلس النيابي لانتخاب رئيس، وأن يفشل حمس جلسات في الحصول للمرشحين على الأصوات القانونية للفوز، ذلك أن أصول السياسة وأصول السيادة تقتضي التئام المؤسسات المختصة في الدولة، على الرغم من علم اللبنانيين والعالم أن لا شيء يستقيم في إدارة هذا البلد من دون تفاهم “اللاعبين” الدوليين والإقليميين الكبار على ساحة السياسة في لبنان وأن لا توافق بين اللبنانيين - على اختلافهم - من دون ذلك التفاهم بين “اللاعبين” أولاء على ساحة وطنهم الصغير .
سوريا ولبنان ليستا حالتين حصريتين لارتهان مصائر الداخل العربي للتدخلات الإقليمية والدولية، وإدارتها للأزمات في ذلك الداخل، فلقد يمكن التنفيل والإفاضة في سرد مثالات أخرى متفاوتة الحدة، مثل اليمن الذي تدير الأمم المتحدة أزمته الداخلية، بإيقاع أعلى تسارعاً من إدارتها للأزمة الليبية، أو مثل العراق الذي تتوقف استقامة أوضاعه على تفاهم أمريكي - سعودي - إيراني . . إلخ . ومعنى ذلك أن قسماً كبيراً من البلاد العربية المعاصرة بلغت فيه أوضاع الانقسام الداخلي حدوداً لم يعد يسع القوى الداخلية فيها - المشتبكة سياسياً أو عسكرياً - أن تنجب حواراً وطنياً داخلياً، أو تسوية سياسية توافقية لأزماتها، من دون تدخل الأطراف الإقليمية والدولية وتفاهمها . وهذا إذا كان يصدق على هذه البلاد في العموم، فهو يصدق - بدرجة أكبر - على البلدان التي شهدت أحداث ما يسمى ب “الربيع العربي”، وفقدت - بسبب تلك الأحداث - البقية الباقية من التماسك الداخلي فيها .
لن نقول، في تعليل هذه الظاهرة، إن التدخلات تلك - من مدخل التفاهم على إطفاء الحرائق وإنجاب التسويات أو من مدخل صب الزيت على المنازعات الداخلية وإيصال العلاقات بين المتنازعين إلى الأفق المنسد - ثمرة من ثمار فقدان القرار الوطني المستقل في تلك البلدان، على ما في مثل هذا القول من صحة ووجاهة، وإنما نقول إنها ثمرة مرة لغياب حل عربي جماعي وشامل لأزمات الوطن العربي الداخلية، وتعبير بليغ عن أفول النظام الإقليمي العربي ومؤسساته في هذه السنوات الثلاث العجاف من عمره . لقد فقدت جامعة الدول العربية صدقيتها التي كانت لها قبل عقود، بل سنوات معدودات، حين أصبحت آخر من يبدي رأياً في أزمة من أزمات دولها، وحين بات الأجانب من يقررون كيف تكون عليه أوضاعنا ومصائرنا، وهي إذا كانت قد فقدت احترام العالم، الذي لم يعد يتذكر أنها موجودة فلأنها فقدت احترام الشعوب العربية، حتى إن الناس باتت تتطير من تدخل الجامعة في أي أزمة مثل تطيرها من مواقفها تجاه فلسطين وسوريا .
إن النظام العربي الرسمي الذي كان يستطيع، قبل نصف قرن، أن يوفر للشعب الفلسطيني إطاره التمثيلي (منظمة التحرير)، وأن يرسل قوات ردع عربية - قبل قريب من أربعين عاماً - لوقف الاشتباكات في لبنان في حرب العامين 75-77 الأهلية، وأن يرعى المصالحة الوطنية اللبنانية و“اتفاق الطائف” في العام ،1989 وأن يشكل لجان الوساطة بين دول عربية عدة في نزاعات الحدود بينها . . إلخ، بات عاجزاً عن أن يفعل شيئاً إزاء هذه الفوضى “الخلاقة” العارمة التي تعصف، باسم الثورة والديمقراطية بالوحدة الوطنية وكيان الدولة في الكثير من البلدان العربية . والأدهى من ذلك أنه بات شريكاً في تدمير بعض تلك البلاد من خلال دعوة مجلس الأمن إلى التدخل في تلك الأزمات، وإصدار قرارات ملزمة تحت الفصل السابع . كيف لا تصبح أوطاننا، إذاً، تحت تصرف الإرادات الدولية والإقليمية؟
الاثنين 9 حزيران (يونيو) 2014
في انتظار أوان التفاهمات
الاثنين 9 حزيران (يونيو) 2014
par
د. عبد الاله بلقزيز
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
20 /
2188070
ar أقسام منوعات الكلمة الحرة كتّاب إلى الموقف عبدالإله بلقزيز ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
23 من الزوار الآن
2188070 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 24