الثلاثاء 2 أيلول (سبتمبر) 2014

الهزيمة القيمية والأخلاقية

الثلاثاء 2 أيلول (سبتمبر) 2014 par علي بدوان

شكّلت الجولة الأخيرة من الحرب العدوانية الفاشية «الإسرائيلية» على قطاع غزة، وفي واحدة من نتائجها المعروفة، هزيمة أخلاقية كبرى للكيان العبري الصهيوني. هزيمة أخلاقية يُتوقع أن تظهر نتائجها تباعاً وعلى مدايات ليست بالبعيدة على ضوء الأهوال الدموية والتدميرية غير المسبوقة، والتي جلبتها تلك الحرب التي أشعل فتيلها تحالف المجانين في حكومة نتانياهو وزبدة المتطرفين في ائتلافه الحكومي.

وقبل تلك الحربِ بأيامٍ قليلة، جاءت حادثة اغتيال الفتى المقدسي الفلسطيني، محمد أبوخضير، حرقاً بالنار وهو حي، لتُجسد تلك الحادثة أزمات اجتماعية وأخلاقية عميقة داخل «إسرائيل»، ولتنقل للعالم بأسره صورتها الحقيقية، وهو ما أشار اليه الرئيس الأميركي الأسبق بيل جيفرسون كلينتون، الذي أطلق تصريحاتٍ علنية ومباشرة في حينها، اعتبر فيها «أن قطاع غزة فضح إسرائيل أمام العالم والمجتمع الدولي، وزاد من عزلتها».

الهزيمة القيمية الأخلاقية، لا تعني هنا، هزيمة فكرة فقط، أو هزيمة موقف فقط، أو حتى هزيمة أفراد من أصحاب القرار في «إسرائيل» فقط، بل تعني هزيمة القيم الأخلاقية وتراجعها في المجتمع «الإسرائيلي»، التي اصطفت بتحالفٍ عريض الى جانب الحرب العدوانية ووراء قرار إشعالها، وهو المجتمع المُتماسك ظاهرياً والغارق في أزماته عملياً ومنها الأزمات القيمية والأخلاقية، لكن تماسكه أمام الفلسطينيين كان ومازال أمراً لابد منه من أجل ضمان استمراره ودرء عملية تفككه.

لقد عَرّت غزة بصمودها الدولة العبرية الصهيونية، وأظهرت فيها هزيمة الروح الإنسانية التي تفوق عليها نهج القتل والتدمير، وكأن برابرة الكون والمعمورة مازالوا يسرحون ويمرحون في عالم القرن الحادي والعشرين، حيث عَرَفت «إسرائيل» سقوطاً أخلاقياً مدوياً، نتيجة قتلها المُتعمد للأطفال، والنساء، والشيوخ، واستهتارها المطلق بأبسط حقوق الإنسان، وتدميرها للبنى التحتية في منطقة مُحاصرة هي أفقر منطقة في العالم لشعبٍ محاصر ومازال تحت الاحتلال منذ عقودٍ طويلة،. خاصة وأن الإعلام «الإسرائيلي» الصهيوني فقد مصداقيته وتأثيره على الرأي العام الدولي، باستثناء بعض الأقلام التي تحدثت بموضوعية.

إن هزيمة «إسرائيل» القيمية والأخلاقية، هي هزيمة لمُسلمات كان يعتقد بها البعض في العالم الغربي وغيره، ومنها مقولة إن «إسرائيل» هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، فتمت في غزة تعرية وجهها القبيح، وإظهارها كدولة مُصطنعة لا يمكن لها أن تستمر بقوة دفع الحياة وحدها، بل تحتاج لفعل مادي على الأرض يقوم على ممارسة فكرة إبادة الآخرين من أصحاب الأرض الأصليين، وشطبهم من الوجود والذاكرة. فانهارت مقولة الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة التي مزقتها الحروب، فكانت حكومتها بعيدة عن الديمقراطية في التعاطي مع شعبٍ تحت الاحتلال (مع أن جزءاً من هذا الشعب هو مكونات تلك الدولة سكانياً)، وصحافتها بعيدة عن الموضوعية في نقل الصورة ووقائعها، ومجتمعها المدني مُتعدد الأزمات، ومُزدهر بظواهر الانحطاط، وهو المجتمع الذي توحد ويتوحد في حالات الحرب خلف فوهة مدفع جيشٍ احتلال، وقد أعطى أكثر من (90 %) منه كما أشارت نتائج استطلاعات الرأي، تأييداً للعملية العسكرية الفاشية ضد قطاع غزة في بداياتها. وحتى مع توقف العدوان فإن نسبة عالية من ذلك المجتمع احتجت على أداء الحكومة، وطالبت باستمرار العملية العسكرية حتى تحقيق نتائجها التي ينشدها المجتمع «الإسرائيلي» المُتطرف بتحطيم الفلسطينيين وقتل احلامهم الوطنية والإنسانية المشروعة ووأدها، وارجاع قطاع غزة للعصر الحجري.

وهنا، قد يحلو للبعض من المتسرعين والمتلهفين، القول: وما جدوى تلك الهزيمة القيمية والأخلاقية، وهل جاءت بالنصر المُبين للفلسطينيين، كرفع الحصار عن قطاع غزة وإنهاء الاحتلال، وتحقيق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة كما تقول قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة؟

وفي الإجابة نقول، نعم، إن تلك الهزيمة القيمية الأخلاقية، تُشكّل حلقة في سلسلة طويلة من محطات الصراع المُعقّد بين الحركة الوطنية التحررية للشعب العربي الفلسطيني وكيان الدولة العبرية التي نشأت وقامت نشأة طافرة. فالهزيمة القيمية والأخلاقية هي واحدة من نقاط العلام البارزة في ميدان الصراع الفلسطيني مع «إسرائيل» ومشروعها الكولونيالي التوسعي فوق الأرض الفلسطينية وعموم الأرض العربية، وفي ميدان العملية الوطنية التراكمية التي يُنجزها المشروع الوطني الفلسطيني بالرغم من الحالة العربية المتراجعة والمتهالكة، والتي أوهنت صمود الناس في قطاع غزة.

ونقول أيضاً، وفي مجرى الصراع التراكمي مع الاحتلال التوسعي «الإسرائيلي»، إن السقوط القيمي والأخلاقي للدولة العبرية الصهيونية، يعني بكل تأكيد تنامي الشعور المُتزايد يوماً بعد يوم، لدى قطاعات واسعة من يهود العالم بأن «إسرائيل» باتت منذ زمن تتحول لتصبح عبئاً على اليهود في العالم بأسره. تلك الضربة الكبرى التي يجب يلتقطها وأن يسددها العرب والفلسطينيون، وأن يراكموا عليها في سياق العمل متعدد الأوجه وعلى كل المستويات الممكنة ضد «إسرائيل» وسياساتها في المنطقة، ومن أجل انتصار الحق الفلسطيني حتى لو طال الزمن.

إن واحدة من العلائم المهمة لتلك الهزيمة القيمية والأخلاقية لدولة «إسرائيل» تتمثل في ارتفاع الصوت عند قطاعاتٍ من يهود العالم، وخاصة عند قطاعاتٍ من المثقفين منهم، ومن صناع الرأي من يهود الولايات المتحدة وفرنسا وغيرها، الذين بات البعض منهم يقول «إن دولة إسرائيل اليوم هي أخطر مكان في العالم على اليهود أنفسهم. وقد خطت الحرب في غزة خطوة اخرى الى الوراء، فعرّضت للخطر أيضاً يهود العالم كما لم تعرضهم للخطر أية حرب سابقة. وحينما نجري موازنة الحرب ينبغي أن نتذكر ذلك أيضاً في مواد الواجب والثمن، إن كراهية إسرائيل واليهود ارتفعت في أوروبا الغربية الى الرقم القياسي. ودولة إسرائيل هي العنوان لكل هذه الشكاوى وهي المُذنبة في غزة».

وخلاصة القول، لقد انتصر في قطاع غزة اللحم والدم الفلسطيني، لحم الأطفال ودماء الأبرياء، على السيف «الإسرائيلي» الصهيوني، سيف القتل والهمجية. فكان صمود الناس هو المُكوّن الأساسي للانتصار بالرغم من الآلام الكبرى التي خلفتها تلك الحرب العدوانية الفاشية على القطاع. وبالمقابل فإن الانهيار القيمي والأخلاقي في «إسرائيل» بان واضحاً، فصيحاً، وصريحاً، في مجتمع الدولة العبرية الصهيونية، هذا المُجتمع المُتشكّل من إثنيات وقوميات وأصول مُتعددة، لا يربطها بعضها مع بعضها سوى أكذوبة كبرى ورواية ميثولوجية توراتية صهيونية مُبتَدعة، لا علاقة لها بالتاريخ، فيما تبحث تلك المجموعات في حقيقة أمرها عن مصالح اقتصادية ورخاء وحياة جديدة على حساب شعب البلاد الأصلي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 71 / 2182958

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع علي بدوان   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2182958 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40